ملخص
عبر بوابة تتخذ من النجوم عنواناً لها، يدلف قارئ كتاب "نجمك العاشق" للروائية لينا هويان الحسن، إلى حقل واسع تتنوع ثماره بين الميثولوجيا وتاريخ الفن والثقافة.
تأخذ لينا هويان الحسن بيد قارئ كتابها "نجمك العاشق" (دار تنمية) في رحلة طويلة، تتخللها جولات في عوالم سماوية وأرضية، بحثاً عن معارف تؤالف بين الحياة والإنسان ومصيره الغامض، وبينهما تسطع النجوم، بما أن لكل إنسان نجماً وطالعاً يرتبط بلحظة ميلاده.
ربما، ومند البداية، علينا توضيح أن مضمون الكتاب وما فيه من إحالات، يتجاوز عنوانه وفكرته الرئيسة، حول "الزودياك" أو "دائرة البروج"، إلى بحث فكري عما وراء هذه الدائرة، من حكايات وأساطير فتانة، ما زال البشر منقسمين بشأنها، بين من يمضي مسحوراً خلف هذه العوالم، ومن يغلق بابه رافضاً لها، متسلحاً بعقل براغماتي، يرفض أي رؤى تنتمي إلى الميتافيزيقيا، لكن "وحده الوعي المتحرر يمكنه التقاط إشارات العوالم الأخرى".
تتساءل الكاتبة: "أي عاصفة إلهام رهيبة هبت على دماغ عبقري مكلل بالألق والذكاء فكانت دائرة البروج؟ هذا الكتاب لأجل أن نتعرف إلى قصص ورمزية الكواكب التي تشكل ملامح الخريطة الفلكية في لحظة الميلاد، أي أن نفهم وننتبه للمعنى العميق والبعيد الذي تحمله لغة الكواكب، حيث تكشف طوالعنا الفلكية عن شخصيتنا التي نتعود تركها في الظل".
رموز وآلهة قديمة
أبدت الحضارات القديمة في مختلف أنحاء العالم اهتماماً عميقاً بعلم الفلك، معتبرة السماء مرآة للتنبؤ بالمستقبل، وتنظيم الحياة، وفهم الكون. في بلاد الرافدين، سجل السومريون والبابليون حركات الكواكب على ألواح طينية، وربطوا الأحداث الأرضية بالنجوم، ممهدين لأولى الأبراج الفلكية. في مصر القديمة، بنى الفراعنة الأهرامات بمحاذاة نجوم كوكبة الجبار، واستخدموا السماء لتحديد مواسم الفيضان. وفي حضارة المايا في أميركا الوسطى، تم تطوير تقويم فلكي دقيق يتنبأ بالكسوف، بينما ربط الصينيون القدماء الأبراج بحكايات أخاذة مثل سباق الحيوانات، حين استدعى بوذا الحيوانات للسباق في النهر، ومن وصل أسرع احتل مكانته في دائرة الأبراج الصينية.
في الهند، دمجت نصوص الفيديا علم الفلك بالروحانية، وفي اليونان، وضع فلاسفة مثل بطليموس أسس التنجيم الحديث. عكس هذا الاهتمام المشترك إيمان الحضارات بأن النجوم ليست مجرد أضواء، بل دليل للحياة، يوجه القرارات الزراعية، الدينية، والسياسية، ويربط الإنسان بالكون.
استبعدت الكاتبة في كتابها فكرة التنبؤ، واختارت تحليل الرموز، وتقطير معانيها في كلمات، مسترشدة بالأساطير والحضارات القديمة، وفق رؤية أن العالم فسيح جداً وغير متناهٍ، والإنسان يحتوي غبار النجوم في طينته، لذا أطلقت حضارة بلاد الرافدين الأسماء الحالية للأبراج على النجوم الثابتة، وما تبدو عليه من هيئات خرافية، لكن "ضاعت القصص البابلية الأصلية لدائرة البروج، ووصلتنا القصص الإغريقية التي هي، مقتبسة بشكل مباشر من التراث الرافدي، مع تعديلات في الأسماء، لكن البريق ظل هو ذاته".
حرصت الحسن في شروحاتها لكل برج، على تحليل رمزه، وعلاقته بفضاء الأسطورة، مستندة في شرحها إلى تقسيم الأبراج بحسب العناصر الأربعة: "النار، الهواء، التراب، الماء"، ثم تبدأ مع أبراج النار، والإشارة إلى مقولة غاستون باشلار: "إذا كان كل ما يتغير تفسره الحياة، فإن الذي يتغير بسرعة يُفسر بالنار"، هكذا نعود إلى لحظة اجتماع آلهة الأولمب ليدينوا برومثيوس على سرقة النار، وينتقموا منه بأن يتركوه مقيداً بأغلاله تأكل النسور كبده كل يوم، حتى جاء هرقل وأنقذه. لذا ظلت النار جامعة لرمزيات مختلفة، إنها إله معبود يتمتع بإشعاع كوني يأتي من الشمس، وعقاب جهنمي ينزل بالعصاة من البشر. تقول الكاتبة: "النار، امرأة لها حكايتها. امرأة ذكية لا تتعرى مباشرة، إنما تظهر شيئاً من فتنتها، قبس يثير المخيلة ويحركها. للنار حركة وسلوك ورغبات، وكل ذلك يظهر في مواليد النار".
أما إنليل، إله الهواء، المقدس إلى درجة أن بقية الآلهة يعجزون عن النظر إليه، فهو راعي الأبراج الهوائية، التي ينتمي إليها المكتشفون والمخترعون والراقصون والعداؤون والصوفيون والعرافون، والشامانات والكهنة البوذيون؛ لأن الهواء هو "انفعال طائر، وقدرة على التواري عن الأنظار، هم أبطال الاختفاء". أما الإله هرمس الإغريقي رمز كوكب عطارد، الذي له أثر في كل برج، فإن حضوره القوي يتجلى في فتح أبواب الفطنة المدهشة والحدس القوي لأصحاب الأبراج الهوائية، هرمس الذي اصطفاه زوس ليكون رسولاً للآلهة، يجول بين السماء والأرض، لنقل الرسائل وقيادة أرواح الموتى. لنقرأ ما تقوله الحسن: "أبراج الهواء هم أبطال الاحتيال والالتفاف، شخصيات لا تتوجه رأساً إلى قلب الموضوع، قادرة على تغليف نفسها بقوى شيطانية، ستضعف كل مناوراتك، أبطال التضليل والإغواء عبر الفكر والكلام العذب".
أرض اللاعودة
في فصل أبراج التراب، نتعرف إلى القصة الأسطورية لميلاد الأرض من الزواج الكوني المقدس بين "أورانوس" إله السما مع جيا إلهة الأرض، هكذا حدثت ولادة الأرض الكروية المحاطة بالسماء، لذا نجد سيرة الآلهة جيا في كل قصص الحضارات القديمة. ترى الكاتبة أن الحديث عن الأرض يرتبط ارتباطاً وثيقاً بفكرة الأمومة ودلالاتها الخصيبة، تقول: "إننا أمام فكرة أرحام الأرض الترابية، التي علقت بها الغيلان التي تعبر عن وجودها بين وقت وآخر عبر البراكين والهزات الأرضية. هناك جانب وحشي في كل مواليد التراب، جانب يجمع القوة المخيفة مع الوحشية المتحركة في قلب الأرض. معظم أبناء التراب هم الثوار والعسكريون والملوك الفاتحون، والسفاحون والطغاة. كلما عثر أحدهم على فرصة ليجلس على عرش، سيغير ملامح الأرض، ولو بإعادة رسم الخرائط وخلخلة النظام، وتدميره لإعادة إرسائه بوجه جديد".
تتغير الجغرافيا، لحظة تغضب الماء، يحدث المد والجزر، تهدر الأمواج، "حتى عندما تختلج النار، وتسيل مثل الدماء عبر بشرة الأرض، فإن المياه تكون قد لعبت لعبتها". يتحكم بالأبراج المائية إله البحار "بوسيذون"، النزق والمتسرع والهائج الشهوات، والتراجيدي المزاج. معظم أساطير الخلق تحكي أن المياه كانت هي الطبيعة كلها، وما زال الماء يسيطر على معظم الأرض. وفي العودة للأسطورة السومرية فإن الإلهة "نمو"، أنجبت سلالة من الآلهة العظيمة أنكي إله الماء، وإنليل إله الهواء، وآن إله السماء. وفي الكلام عن الأبراج المائية تتكشف حكاية كاليستو الحورية التي عشقها أوذيس، وعند فراقهما ذرفت دموعها الإلهية التي تحولت إلى حبات من اللؤلؤ التي غدت زينة للنساء. في حكايات بلاد ما بين النهرين، المبكرة عن أسطورة الخلق، نعرف عن خلطة سحرية بين التراب والماء والحرارة والهواء كي "يمشي الإنسان على قدمين، وتوجد الحياة بأبهى صورها على الكوكب".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تنتقل لينا هويان الحسن من السرد الأسطوري إلى الواقعي، تحكي عن الفنانة الأسطورية إليزابيث تايلور، وعن سحرها الفاتن، كونها ولدت تحت برج الحوت المائي، تحكي أيضاً عن الراقصة البديعة تحية كاريوكا، وعن الكاتبة أناييس نن، التي قالت في يومياتها: "أنا على صلة وثيقة بالماء، وأشعر أني قريبة من البحر، وأحب فكرة السفر والتنقل، أنا نبتونية أشبه بإله البحر نبتون في الميثولوجيا الرومانية".
في كلمتها الأخيرة للكتاب، ذكرت الكاتبة رغبتها الكبيرة للكتابة عن شخصيات لم تتمكن من معرفة تاريخ ميلادها، مثل ملكة تدمر زنوبيا، أو ملك الملوك أذينة، والشعراء مثل امرئ القيس، والمتنبي، وأبي فراس الحمداني وغيرهم، تقول: "كل شيء فن، شبابنا، حضورنا، كلامنا، قناعاتنا، أسلوب حياتنا، والفن لا يكون فناً من دون اجتهاد، لا نحيا بارتياح وفرح من دون أن نوحد المملكتين: الداخل والخارج. ما نحلم به يغدو واقعاً عندما نفهم ونعرف".
"نجمك العاشق" يمكن اعتباره رحلة كونية شيقة تتجاوز حدود الزمن والمكان، تتداخل الأساطير القديمة مع تأملات فلسفية وشاعرية عميقة. بأسلوب لغوي ينسج بين الشعر والفكر الميتافيزيقي، تأخذنا الكاتبة إلى قلب النجوم، حيث تتلاقى أقدار البشر مع رموز الأبراج والآلهة، كي تُبرز أن النجوم ليست مجرد أضواء بعيدة، بل مرايا تعكس جوهرنا الداخلي، وحلمنا بالوحدة بين الذات والكون، تماماً كما فعلت الحضارات القديمة، عندما رفعت أنظارها إلى السماء، لتتساءل عن المصائر الغامضة التي تحكم حياة الإنسان.