ملخص
تعتبر روسيا البحر الأسود بوابة لإحياء نفوذها الإمبراطوري، فهي تستخدم القوة العسكرية والطاقة والغذاء والتضليل لفرض هيمنتها على أوكرانيا والدول المجاورة، مما يجعل الحرب في أوكرانيا ليست مجرد نزاع محلي بل صراعاً حاسماً على مستقبل البحر الأسود وأمن أوروبا واستقرار الأسواق العالمية.
يحول عدوان روسيا على أوكرانيا وجيرانها الآخرين البحر الأسود إلى جبهة استراتيجية أوراسية. فقد عطلت روسيا تدفقات الطاقة والغذاء والسلع الأساسية الأخرى، وتسببت في هجرة ملايين الأشخاص، وزادت من انعدام الأمن ليس في أوكرانيا وحسب بل في كامل منطقة البحر الأسود. وتشكل هذه الجهود جزءاً من استراتيجية أطول وأوسع بكثير. فروسيا لا تسعى إلى الهيمنة على أوكرانيا وحدها، بل تريد أن تجعل كلاً من الدول الخمس الأخرى المطلة على البحر الأسود، إضافة إلى مولدوفا التي تحد رومانيا وأوكرانيا وتتدفق مياهها إلى البحر، خاضعة لمصالحها، بحيث تستطيع ممارسة حق النقض على الخيارات التي تتخذها هذه الدول. علاوة على ذلك، تطمح موسكو إلى استخدام البحر الأسود كمنصة لإبراز القوة والنفوذ في أنحاء الشرق الأوسط والبحر الأبيض المتوسط والقوقاز.
ويمثل سعي روسيا إلى أن تصبح القوة المهيمنة في البحر الأسود عنصراً أساساً في استراتيجيتها الرامية إلى إعادة تأكيد وجودها كقوة عظمى. في الواقع، يعتقد الكرملين بأن الفشل في ترسيخ حضور مهيمن في المنطقة سيجعل روسيا عرضة للتدخل الغربي، ويقلل من قدرتها على التأثير في المناطق المجاورة ويعطل صادرات السلع الأساسية التي تعتبر حيوية بالنسبة إلى الاقتصاد الروسي. وتعد تركيا أكبر عقبة أمام الأهداف الروسية في المنطقة لأنها الدولة الوحيدة المطلة على البحر الأسود التي لم تهيمن عليها روسيا تاريخياً، فضلاً عن أنها عضو في "الناتو". لكن حتى بعد نهاية الحرب الباردة، احتفظ الكرملين بأدوات نفوذ كبيرة في منطقة البحر الأسود التابعة للإمبراطورية السوفياتية السابقة في بلغاريا وجورجيا ومولدوفا ورومانيا وأوكرانيا.
وخلال العقود الأخيرة، سعت روسيا إلى إخضاع هذه الدول على نحو أكبر لموسكو من خلال مزيج من الإقناع والإكراه. ويُذكر أن تعزيز الوجود الروسي في البحر الأسود يشكل جوهر خطة الرئيس فلاديمير بوتين الممتدة لعقود والرامية إلى إحياء القوة البحرية لبلاده. فقد أعطى الأولوية لتحديث أسطول البحر الأسود الذي قام بدور حاسم في دعم السرب الروسي في البحر الأبيض المتوسط وتدخلها العسكري في سوريا عام 2015. وتجاهل بوتين الحدود المعترف بها دولياً ليستولي على مساحة شاسعة من ساحل البحر الأسود، بما في ذلك إقليم أبخازيا التابع لجورجيا عام 2008 ومنطقة القرم الأوكرانية عام 2014، والجزء الأوكراني من ساحل بحر آزوف عام 2022. وعلى رغم أن أوكرانيا حالت دون استيلاء روسيا على كامل ساحلها على البحر الأسود، فإن موسكو نشرت ألغاماً بحرية وفرضت حصاراً على الموانئ الأوكرانية وقصفتها لقطع وصول أوكرانيا إلى البحر وتقليل وجود القوات البحرية الأخرى.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبينما ركز العالم على معركة روسيا في أوكرانيا، استمرت موسكو غالباً في دفع أهدافها قدماً بطريقة سرية، من خلال إطالة أمد الحرب والتحايل على العقوبات وتعطيل الأسواق وتعزيز نفوذها في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. لذا ينبغي على القادة الرئيسين الآخرين العمل مع دول البحر الأسود لبناء منطقة أكثر صموداً في مواجهة الضغوط الروسية. والفشل في القيام بذلك قد يطيل أمد الحرب ويتيح لروسيا الاستمرار في انتهاكاتها الجسيمة لحقوق الإنسان ويزيد من تدفقات اللاجئين ويؤدي إلى اضطرابات في أسواق الطاقة والسلع العالمية. وفي المقابل، من المرجح أن ينتشر انعدام الأمن الإقليمي إلى منطقة القوقاز والشرق الأوسط ومنطقة البحر الأبيض المتوسط.
البجعة السوداء
على مدى قرون، شكل البحر الأسود نقطة وصل حيوية لحركة الناس والبضائع. وكثيراً ما اعتقدت روسيا بأن السيطرة على البحر أمر ضروري لأمنها: ففي 1783، ضمت الإمبراطورة كاترين العظمى شبه جزيرة القرم من الإمبراطورية العثمانية لتعزيز سيطرة الإمبراطورية الروسية على البحر الأسود. وخلال معظم القرن الـ19، تنافست روسيا مع الإمبراطورية العثمانية والقوى الأوروبية الكبرى على النفوذ في البحر وما حوله. وأثناء الحرب الباردة، أصبح الاتحاد السوفياتي القوة الرائدة في المنطقة. وكانت تركيا منافسته الرئيسة، لكن موسكو هيمنت على جميع الدول الساحلية الأخرى المطلة على البحر الأسود.
وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، تغير دور روسيا الإقليمي بصورة جذرية. فأصبحت جورجيا ومولدوفا وأوكرانيا دولاً مستقلة وسعت إلى توثيق علاقاتها مع الغرب. وانضمت بلغاريا ورومانيا إلى حلف شمال الأطلسي عام 2004، ثم إلى الاتحاد الأوروبي عام 2007. ونتيجة لذلك، فقدت روسيا إمكان الوصول إلى أجزاء من ساحل البحر الأسود. وفي مارس (آذار) 2014، برر بوتين ضم شبه جزيرة القرم محذراً من أنه لولا ذلك، "لكانت سفن ’الناتو‘ قد وصلت إلى سيفاستوبول، مدينة المجد البحري الروسي". وبين عامي 2014 و2022، ضاعف الكرملين ثلاث مرات مساحة الساحل الخاضع لسيطرته الفعلية على البحر الأسود، وعزز نفوذه باستخدام مزيج من الأدوات العسكرية والدبلوماسية والاقتصادية والطاقوية والتضليل الإعلامي.
واليوم، يعد البحر الأسود محوراً مركزياً لتجارة الطاقة الروسية، إذ يشكل النفط والمنتجات النفطية الروسية معظم الشحنات الخارجة من نوفوروسيسك، أكبر ميناء في روسيا وحوض البحر الأسود، وخامس أكبر ميناء في أوروبا. واستطراداً، فإن خطوط أنابيب الغاز الباقية للبلاد المتجهة غرباً تمتد تحت البحر الأسود إلى تركيا، ثم إلى جنوب شرقي أوروبا. علاوة على ذلك، يعد البحر حيوياً للزراعة الروسية: إذ تمرر روسيا جميع صادراتها تقريباً من الحبوب، إضافة إلى نسبة كبيرة من الأسمدة والسلع الزراعية الأخرى، عبر موانئها هناك. وتتيح هذه التدفقات لموسكو زيادة إيراداتها وخلق أسواق جديدة وإنشاء أنظمة تجارية أقل اعتماداً على الدولار الأميركي واكتساب نفوذ في الدول المستوردة.
وتستخدم روسيا الآن أساليب تدخل متنوعة لاستمالة دول البحر الأسود نحو موسكو. ولا شك في أن القوة الصلبة لا تزال عنصراً أساساً في استراتيجيتها، وليس في أوكرانيا وحسب. فالحرب الأهلية في جورجيا بين عامي 1991 و1993 زعزعت الحياة السياسية هناك، ومنحت موسكو فرصاً لتوسيع نفوذها، وعام 2008، غزت روسيا جورجيا وهزمتها في حرب قصيرة، واعترفت بمنطقتي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا الانفصاليتين كدولتين مستقلتين. وقد نزح نحو ثمانية في المئة من الجورجيين داخلياً بسبب ذلك الغزو وجهود روسية أخرى لاستغلال الصراعات العرقية في البلاد.
لكن الحملات العسكرية ليست الوسيلة الوحيدة التي سعت روسيا من خلالها إلى إخضاع منطقة البحر الأسود. فقد استخدم الكرملين المعلومات المضللة بصورة متكررة لإقناع شعوب دول ما بعد الشيوعية بالتحالف مع روسيا ضد ما يسميه الكرملين "النخب الموالية للغرب"، مستغلاً شعوباً خاب أملها من إخفاقات حكوماتها. كذلك، دعمت موسكو الأحزاب السياسية الموالية لروسيا، وتدخلت في الانتخابات، كما سعت إلى تنفيذ انقلابات ضد أنظمة الحكم القائمة.
وتاريخياً، استغلت روسيا اعتماد بلغاريا ومولدوفا وأوكرانيا على الطاقة الروسية للتأثير في نخبها السياسية. فقد أوقفت موسكو مرور الغاز عبر أوكرانيا إلى أوروبا مرات عدة قبل اجتياحها الأول عام 2014، وقطعت إمدادات الغاز عن بلغاريا عام 2022 وعن مولدوفا مطلع عام 2025. كما قيدت تدفقات الغذاء، فمنعت مثلاً صادرات القمح إلى جورجيا أو حدت من صادرات النبيذ المولدوفي إلى روسيا، لمعاقبة جورجيا ومولدوفا كلما رأت أنهما تنحرفان عن طاعة موسكو. ويمتد التدخل الروسي إلى المجال الثقافي أيضاً: فالكنيسة الأرثوذكسية الروسية تخاطب نظيراتها في الخارج لمحاربة ما تصفه بـ"الثقافة الشيطانية" أو ثقافة "اليقظة" الآتية من الغرب. كما يستخدم الكرملين التجسس والتخريب لزعزعة استقرار هذه المجتمعات.
سجل متباين
وعجل غزو روسيا لأوكرانيا عام 2022 من جهودها للهيمنة على البحر الأسود، وكشف في الوقت ذاته عن فوائد الأسس التي وضعتها سابقاً لترسيخ سيطرتها. فلقد أدت قدرتها على تعطيل حركة الملاحة البحرية إلى إرباك تدفقات الطاقة الإقليمية: فعلى رغم أن صادرات روسيا من الغاز إلى بلغاريا ورومانيا وأوكرانيا تراجعت بصورة كبيرة منذ فبراير (شباط) 2022، فإن صادراتها إلى جورجيا وتركيا ارتفعت على نحو ملحوظ، إذ رفض كلا البلدين الانضمام إلى العقوبات المفروضة على روسيا. وأصبحت تركيا أكبر مشترٍ في العالم للمنتجات النفطية الروسية المكررة. وجزء كبير من هذه الواردات يعاد تغيير بياناته [لإخفاء مصدره] في جورجيا وتركيا ثم يعاد تصديره للتحايل على حظر الاستيراد الذي فرضه الاتحاد الأوروبي.
واستكمالاً، أصبح البحر نقطة انطلاق رئيسة لـ"أسطول الظل" الروسي المكون من سفن غير مسجلة الذي تستخدمه موسكو للتحايل على العقوبات الغربية. واستغلت روسيا وصولها إلى البحر الأسود لتعطيل منافسيها الزراعيين. وفي الواقع، يصف الرئيس الروسي السابق دميتري ميدفيديف الغذاء بأنه "سلاح روسيا الصامت". فلقد سرق الكرملين المنتجات الزراعية الأوكرانية وقصف الأراضي الزراعية والبنية التحتية الزراعية والموانئ الأوكرانية، بهدف تقويض أحد المصادر الرئيسة لإيرادات كييف وكسب أسواق جديدة لموسكو.
إن محاولات روسيا لزعزعة استقرار دول البحر الأسود الأخرى تروي قصة نجاحات وإخفاقات متفاوتة. فالحلقتان الأضعف في المنطقة هما جورجيا ومولدوفا، بحيث تتمركز قوات روسية في المناطق الانفصالية في البلدين، في حين يوفر السخط الداخلي الأوسع أرضية خصبة للتكتيكات الروسية التخريبية. وتبنى الحزب الحاكم في جورجيا، حزب "الحلم الجورجي"، مسار التقارب مع روسيا، فأوقف مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2024، ثم قدم لاحقاً تشريعات تقمع حرية التعبير والتجمع. وعلى رغم أن شريحة كبيرة من المجتمع الجورجي تعارض هذه الخطوات، فإن الحزب نجح في الفوز في انتخابات متتالية، وكثير من الجورجيين يخشون من أن يؤدي استمرار البلاد في مسارها المؤيد للاتحاد الأوروبي إلى غزو روسي جديد. ويبدو أن الترهيب يجدي نفعاً. أما فوز المرشحين المؤيدين للغرب خلال الانتخابات الأخيرة في مولدوفا ورومانيا، فيظهر حدود التدخل الروسي، لكن الكرملين يعمل جاهداً للتلاعب بالانتخابات البرلمانية المقررة في مولدوفا خلال خريف 2025 لدعم الأحزاب الموالية لروسيا.
الصراع من أجل أوكرانيا هو أيضاً صراع من أجل مستقبل البحر الأسود
وضمنت موسكو الوصول إلى أسواق حبوب رئيسة على حساب أوكرانيا، لكن استعراض قوتها الزراعية فاقم التوترات مع الدول المستوردة. فقد أبلغ قادة أفارقة بوتين أن الحرب خلقت انعداماً في الأمن الغذائي، ففي يوليو (تموز) 2023، على سبيل المثال، وصف الدبلوماسي الكيني، كورير سينغ أوي، انسحاب روسيا من اتفاق كان يسمح لأوكرانيا بتصدير الحبوب عبر البحر الأسود بأنه "طعنة في الظهر". وعلى رغم أن موسكو نجحت في استغلال البحر للتحايل على العقوبات وتوليد الإيرادات والوصول إلى تكنولوجيا حيوية، فإن هذا الجهد تطلب تطوير أنظمة تجارة وشحن معقدة وغير فاعلة، بينما سعت بعض دول البحر الأسود أيضاً إلى إيجاد مصادر بديلة للطاقة. علاوة على ذلك، فإن الحرب في أوكرانيا أجبرت موسكو على مواجهة أكبر موجة نزوح لشعبها منذ الثورة البلشفية عام 1917.
إن نجاح أوكرانيا في حرمان روسيا من السيطرة على البحر وإلحاق أضرار جسيمة بأسطولها في البحر الأسود حدّا من نفوذ موسكو في المناطق المجاورة. وينطبق الأمر نفسه على قرار تركيا إغلاق المضائق التركية أمام السفن الحربية الروسية بعد أيام من غزو أوكرانيا عام 2022. وفي الواقع، تربط بين أنقرة وموسكو علاقات معقدة: فتركيا شريك تجاري مهم ومشترٍ رئيس للنفط الروسي، كما أنها ممر أساس للغاز الروسي. ومع ذلك، فإن قرار أنقرة بإغلاق المضائق التركية لم يحد من قدرة موسكو على شن حرب بحرية ضد أوكرانيا وحسب، بل منع روسيا أيضاً من استخدام البحر لإبراز قوتها البحرية في البحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط.
ولا تزال موسكو لاعباً مهماً في جنوب القوقاز لكنها فقدت دورها كقوة إقليمية مهيمنة، إذ باتت تركيا تضطلع الآن بدور إقليمي أكثر أهمية بكثير مما كانت عليه قبل عام 2022. وحتى عام 2023، كانت روسيا تتصرف كالدولة الحامية لأرمينيا في صراعها مع أذربيجان على إقليم ناغورنو قره باغ، لكن عندما هاجمت أذربيجان أرمينيا عام 2023، لم تهب موسكو لمساعدة حليفتها أرمينيا لأن الجيش الروسي كان منهكاً. وبعد عقود من القتال، وقعت أرمينيا وأذربيجان في أغسطس (آب) 2025 اتفاق سلام لإنهاء الصراع، لكن التوقيع جرى في البيت الأبيض، وليس في الكرملين، مما يبرز حدود النفوذ الروسي في المنطقة. علاوة على ذلك، فإن الضغوط على القدرات العسكرية الروسية أجبرت موسكو على إعطاء الأولوية لحربها في أوكرانيا على حساب دعمها للديكتاتور السوري بشار الأسد. وبعد الإطاحة بنظام الأسد في ديسمبر (كانون الأول) عام 2024، يسعى الكرملين جاهداً لاستعادة نفوذه لدى القيادة الجديدة في دمشق. وهو بحاجة إلى مثل هذا النفوذ: فخسارة قاعدة حميميم الجوية وقاعدة طرطوس البحرية الروسيتين في سوريا ستعقد جهود موسكو لتوسيع عملياتها في البحر الأبيض المتوسط وأفريقيا. كما أن روسيا تواجه الآن منافسة متزايدة في البحر الأسود وآسيا الوسطى من الصين والاتحاد الأوروبي اللذين يعززان وجودهما الاقتصادي والسياسي هناك.
تغيير جذري
على صانعي السياسات الساعين إلى استغلال سجل موسكو المتباين في البحر الأسود أن يتغلبوا على تحديات عدة. فلا تزال دول ما بعد الشيوعية في المنطقة تواجه صعوبات، مما يجعلها عرضة للتأثير الروسي. وأدى توقف برامج المساعدات الخارجية الأميركية في أوكرانيا ودول أخرى في المنطقة التي كانت مخصصة لمكافحة الفساد ودعم الإعلام المستقل وتعزيز التنمية الاقتصادية والصحة والحكم الرشيد، إلى ترك فراغ لا يستطيع أن يملأه سوى حلفاء منتسبين إلى الاتحاد الأوروبي و"الناتو". أما مفاوضات انضمام مولدوفا وأوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي، فهي تسير ببطء، وتواجه معارضة من بعض الدول الأعضاء.
وطرح كل من الاتحاد الأوروبي و"الناتو" استراتيجيات جديدة للمنطقة، لكنهما يواجهان عقبات في التنفيذ. فخطة بروكسل مليئة بالنوايا الحسنة، لكنها تفتقر إلى التزامات ملموسة، ولا تتضمن موازنة كافية. وركز "الناتو" على الدفاع عن جناحه الشمالي الشرقي، على رغم أن الغزوات الروسية الثلاث الأخيرة وقعت في البحر الأسود، وليس في بحر البلطيق. وخلال الأعوام الثلاثة الماضية، أعطت دول الاتحاد الأوروبي و"الناتو" الأولوية للاستراتيجيات التي تعزز قدرتها على الصمود، والآن، عليها وضع خطط لتحقيق الاستقرار لشركائها الضعفاء والمعرضين للخطر في البحر الأسود.
واستطراداً، يجب على بروكسل حشد التمويل اللازم بما يتناسب مع الخطاب الطموح الذي طرحته في مايو (أيار) عام 2025 حول ما يسمى "أجندة الترابط" مع دول البحر الأسود والقوقاز وأوراسيا والشرق الأوسط. وينبغي على الاتحاد الأوروبي إنشاء ممرات بين الغرب والشرق تربط البحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود وبحر قزوين، مع تحييد روسيا وإشراك تركيا التي استبعدتها الخطط الأوروبية حتى الآن. إضافة إلى ذلك، ينبغي على أعضاء مبادرة البحار الثلاثة التي تسعى إلى بناء روابط في مجالات الرقمنة والطاقة والنقل بين البحر الأدرياتيكي والبحر الأسود وبحر البلطيق، دعوة أوكرانيا ومولدوفا إلى الانضمام بعضوية كاملة.
ويتعين على دول البحر الأسود مواصلة تطوير مواردها الهائلة من الطاقة بصورة أكبر. فبلغاريا وجورجيا ورومانيا تعمل بالفعل على إنشاء كابل طاقة تحت الماء في البحر الأسود، لا يمر عبر روسيا ويربط موارد الطاقة المتجددة في أذربيجان مباشرة بشبكة الطاقة الأوروبية. وقد تؤدي اكتشافات الغاز البحري الأخيرة في رومانيا، بمجرد استغلالها بالكامل، إلى جعل بوخارست أكبر منتج للغاز في الاتحاد الأوروبي. ويحمل حقل غاز ساكاريا التركي بوادر خير مماثلة. لقد حدت الحرب من قدرة أوكرانيا على استغلال مواردها من الغاز، ولكن في زمن السلم، يمكن لشركات الطاقة التابعة للاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، إضافة إلى المعونات المالية الدولية، أن تساعد البلاد في أن تصبح منتجاً رئيساً للغاز.
الركائز الجوهرية
ستكون تركيا محورية في أية استراتيجية تهدف إلى منع روسيا من السيطرة على البحر الأسود. وغالباً ما تختلف أنقرة عن حلفائها في "الناتو" في توصيف طبيعة التحديات الإقليمية: فقد سلحت أوكرانيا ورفضت الاعتراف بضم روسيا لشبه جزيرة القرم، على سبيل المثال، لكنها في الوقت نفسه تحافظ على علاقات تجارية مربحة مع موسكو. وينبغي على صانعي السياسات الأوروبيين والأميركيين إدراك هذا التعقيد وبناء استراتيجياتهم استناداً إلى المصالح المشتركة، مثل تعزيز سلاسل التوريد الإقليمية وروابط البنية التحتية، إضافة إلى حماية حرية الملاحة والحد من التوسع الروسي في البحر الأسود.
وتعترض تركيا على وجود بحري رسمي لـ"الناتو" في البحر إذا كان يتضمن دولاً لا تطل مباشرة على السواحل التركية. لكن أنقرة تقدم دعماً مادياً ملموساً لجهود تحديث الدفاع في بلغاريا ورومانيا. وبحلول عام 2030، يخطط "الناتو" لجعل منشأته قرب كونستانزا في رومانيا، موقعه الرئيس في البحر الأسود وأكبر قاعدة له في أوروبا. ويمكن للحلف تعزيز وجوده البحري الأمامي من خلال تحسين قدرات الدفاع الجوي ونشر قوات إضافية في مجموعاته القتالية المتعددة الجنسيات في بلغاريا ورومانيا. ويستطيع الحلف أن يعتمد نظام التناوب في إرسال السفن والمجموعات البحرية المتحالفة في البحر الأسود، واستكمال ذلك بدوريات جوية ومناورات منتظمة. كذلك، فإن تعزيز الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع قد يساعد في مراقبة الأنشطة الروسية على نحو أفضل.
وللولايات المتحدة مصلحة في أن تكون أوروبا موحدة وحرة وتنعم بالسلام، بالتالي في تعزيز الحرية في منطقة البحر الأسود. ويمكن أن يحقق تعزيز الدعم الأميركي لمبادرات حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي تأثيراً بالغ الأهمية بكلفة منخفضة نسبياً. ولكن، بعد قمة ترمب وبوتين في ألاسكا، من غير الواضح ما إذا كان ترمب سيمارس ضغوطاً على روسيا لإنهاء الصراع الذي قد يستمر لبعض الوقت. ومع ذلك، فإن وقف أهداف موسكو التوسعية يجب أن يبدأ بإنهاء تلك الحرب. فاستهداف روسيا للبنية التحتية المدنية دفع بالفعل ملايين الأشخاص إلى ترك منازلهم ورسخ الهيمنة الروسية في الأراضي الأوكرانية المحتلة.
ومن المرجح أن يواصل الكرملين هذه المحاولات إلى أن تدرك الجهات الدولية الفاعلة أن الصراع من أجل أوكرانيا هو صراع أيضاً من أجل مستقبل البحر الأسود. ويجب أن تقرن الجهود المبذولة لإنهاء الحرب باستراتيجية فاعلة تمنع هيمنة موسكو على المنطقة الإقليمية الأوسع للبحر الأسود. وعلى صانعي السياسات في أميركا الشمالية وأوروبا إعطاء الأولوية للمبادرات الرامية إلى تحسين الحوكمة الديمقراطية والتنمية الاقتصادية في المنطقة، وضمان إنتاج السلع الأساسية ونقلها بصورة آمنة. وإذا فشلت هذه الخطوات في تحقيق الاستقرار في المنطقة، فقد يمتد عدوان روسيا في أوكرانيا إلى مولدوفا وجورجيا، بل ربما يتصاعد إلى مواجهة مباشرة مع دول حلف شمال الأطلسي المطلة على البحر الأسود، مما ستمتد عواقبه إلى الأسواق العالمية، وتهدد مجموعة أوسع من المصالح الأميركية والأوروبية.
دانيال هاميلتون هو زميل بارز غير مقيم في معهد بروكينغز وفي معهد السياسة الخارجية التابع لكلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جونز هوبكنز. شغل منصب نائب مدير هيئة تخطيط السياسات في وزارة الخارجية الأميركية، ومنصب نائب مساعد وزير الخارجية الأميركي للشؤون الأوروبية. وهو محرر مشارك لكتاب "منطقة البحر الأسود الأوسع في القرن الـ21".
أنجيلا ستينت هي زميلة رفيعة الشأن في معهد "أميركان إنتربرايز"، وأستاذة فخرية في جامعة جورج تاون. عملت في مكتب تخطيط السياسات بوزارة الخارجية الأميركية وشغلت منصب مسؤولة الاستخبارات الوطنية لروسيا وأوراسيا. وهي مؤلفة كتاب "عالم بوتين: روسيا في مواجهة الغرب ومع بقية العالم".
مترجم عن "فورين أفيرز"، 18 أغسطس (آب) 2025