ملخص
أصبح استهداف إسرائيل للصحافة مرئياً أكثر من أي وقت مضى، إلا أن مؤشر حرية الصحافة العالمي الذي تشرف عليه "منظمة مراسلون بلا حدود" يضع إسرائيل في المرتبة الـ112، بينما تحل فلسطين التي لقي كثر من صحافييها وعائلاتهم حتفهم بسبب الهجمات الإسرائيلية في المرتبة 163.
يواجه الصحافي الفلسطيني احتمال نقل الخبر أو أن يصبح هو الخبر نفسه. هذا ما آل إليه خمسة صحافيين من بينهم مراسلة "اندبندنت عربية" مريم أبو دقة، بعدما قتلوا جراء غارات إسرائيلية على "مجمع ناصر الطبي" في خان يونس بقطاع غزة القابع تحت وطأة الحرب منذ أكتوبر (تشرين الأول) عام 2023.
وجددت الغارات الأخيرة الإدانات الدولية لإسرائيل بعد أسبوعين من هجوم راح ضحيته ستة صحافيين كانوا يحتمون في خيام قرب مستشفى الشتاء بمدينة غزة، في ما اعتبر نمطاً إسرائيلياً معتاداً لاستهداف الصحافيين الباقين في القطاع، بينما تواصل إسرائيل منع دخول المراسلين الأجانب.
تصنيف يثير الاستفهامات
أصبح استهداف إسرائيل للصحافة مرئياً أكثر من أي وقت مضى، إلا أن مؤشر حرية الصحافة العالمي الذي تشرف عليه "منظمة مراسلون بلا حدود" يضع إسرائيل في المرتبة الـ112، بينما تحل فلسطين التي لقي كثر من صحافييها وعائلاتهم حتفهم بسبب الهجمات الإسرائيلية في المرتبة 163.
هذا التباين دفع عمر الغزي الأستاذ المشارك في دراسات الإعلام بكلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية إلى القول إن منهجية مؤشر حرية الصحافة "فشلت" في تحقيق هدفها الأساسي وهو حماية الصحافيين وتعزيز حرية الإعلام.
وتساءل الغزي، "إذا كان هدف هذه التصنيفات هو حماية الصحافيين وتعزيز حرية الإعلام، فلماذا لا تُعطى الأولوية للمساءلة من خلال تصنيف الدول المارقة في مراتب منخفضة؟"، مضيفاً بأن إسرائيل أفلتت من العقاب على "الجرائم الحربية" ضد الصحافيين الفلسطينيين، ومن واجب المؤسسات الإعلامية المساهمة في محاسبتها.
رد المنظمة الدولية
تدافع منظمة "مراسلون بلا حدود" عن مؤشرها لحرية الصحافة قائلة إن "الجرائم تسجل في الإقليم الذي تقع فيه، وليس بحسب جنسية الجهة المعتدية"، لكن بالنسبة إلى نقيب الصحافيين الفلسطينيين ناصر أبو بكر فإن المؤشر يكشف عن تحيّز المنظمة، ويدعم جهود إسرائيل للإفلات من المحاسبة.
وفي حديث إلى "اندبندنت عربية"، ندد أبو بكر الذي يشغل منصب نائب رئيس الاتحاد الدولي للصحافيين بالاستهداف الإسرائيلي المتعمد للصحافيين في غزة، ومنع دخول المراسلين الدوليين إلى القطاع، وكشف عن أن الاتحاد الدولي الذي يضم 140 دولة، وافق على خطة لإطلاق مؤشر لقياس حرية الصحافة بمعايير أكثر عدالة.
وتقول نقابة الصحافيين الفلسطينيين إن أكثر من 240 صحافياً فلسطينياً قتلوا بنيران إسرائيلية في غزة، ودمرت نحو 90 منشأة إعلامية في القطاع منذ اندلاع الحرب، في حين قدرت لجنة حماية الصحافيين (CPJ) عدد الصحافيين والعاملين في وسائل الإعلام الذين قتلوا منذ بدء الحرب بـ 197 شخصاً، بما في ذلك 189 فلسطينياً في غزة.
وفي حين قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إن بلاده "تأسف" لما وصفه بـ "الحادثة المأسوية" في خان يونس، دعا الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إلى تحقيق عاجل ونزيه، فيما توالت ردود الأفعال الرسمية المنددة في أوروبا.
وبرر رئيس قسم الأزمات في المنظمة مارتن روكس في حديث لـ"اندبندنت عربية" حصول إسرائيل على مرتبة متقدمة عن فلسطين ومعظم الدول العربية في مؤشر حرية الصحافة، قائلاً إن "الجرائم تسجل في الإقليم الذي تقع فيه"، ولفت إلى أن "الأمر نفسه ينطبق على الجرائم التي ارتكبها الجيش الروسي في الأراضي الأوكرانية".
لكن على رغم الحرب المستمرة من سنوات في أوكرانيا ومقتل صحافيين داخل أراضيها، فإن تقييم أوكرانيا في مؤشر حرية الصحافة ارتفع منذ نشوب الحرب.
ويعتمد مؤشر حرية الصحافة على رصد كمي للانتهاكات المرتكبة ضد الإعلاميين أثناء ممارسة عملهم، وتحليل نوعي لوضع وسائل الإعلام في كل بلد، وتقاس حرية الصحافة من خلال إجابات الخبراء المتخصصين في المجال، من صحافيين وباحثين وأكاديميين، وفق الموقع الإلكتروني للمنظمة.
وعما إذا كانت تعتبر منظمة "مراسلون بلا حدود" الاستهداف الإسرائيلي أو القتل العرضي للصحافيين عاملاً أساساً في التصنيف، اكتفى روكس بالقول إن المنظمة "تواصل معركتها ضد إفلات الجيش الإسرائيلي من العقاب على الجرائم التي ارتكبها بحق الصحافيين في قطاع غزة. ولهذا السبب قدمنا أربع شكاوى إلى المحكمة الجنائية الدولية في شأن جرائم ارتكبها الجيش الإسرائيلي ضد الصحافيين في القطاع".
بين فلسطين وأوكرانيا
يدافع البروفيسور تشارلي بيكيت في قسم الإعلام بكلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية عن عدالة المؤشر، قائلاً إنه يقيس ببساطة مقدار الحرية المتاحة للصحافيين في منطقة جغرافية معينة، وإن دوره ليس توزيع اللوم، فالأمر أشبه بنشرة الطقس، فالهدف هو الإشارة إلى أن الجو ماطر، وليس تفسير السبب.
وأشار بيكيت في حديثه إلى "اندبندنت عربية" إلى أن العمل الصحافي في فلسطين ينطوي على أخطار شديدة، بينما في إسرائيل فإن احتمال الاعتقال أو التعرض لإطلاق النار أقل والرقابة أخف، لافتاً إلى أن الحرب في غزة تحد من هامش حرية الصحافة بصورة كبيرة.
وعند مقارنته بالوضع في أوكرانيا، قال بيكيت "أتصور أن تقييم أوكرانيا في حرية الصحافة منخفض... إذا كنتَ في أوكرانيا حالياً، فلن تتمتع بكثير من حرية الصحافة لأن البلاد في حال حرب. لكن هل هذا ذنب الحكومة الأوكرانية؟ لا، بل سببه روسيا".
لكن بيكيت اعترف بأن تصنيف أوكرانيا "مفاجئ"، عندما أطلعته "اندبندنت عربية" أن تقييم أوكرانيا لحرية الصحافة تحسّن بعد الحرب، فبعدما كانت تحل في المرتبة 106 عام 2022، أصبحت في المرتبة 62 العام الحالي، على رغم أن 12 من 13 صحافياً قتلوا منذ اندلاع الحرب، لقوا حتفهم في الأراضي الأوكرانية.
الحرب المميتة للصحافيين
تعد الحرب بين إسرائيل وحركة "حماس" في غزة الأكثر دموية على الإطلاق بالنسبة إلى الصحافيين، وفقاً لتقرير "كلفة الحرب" الذي أعده "معهد واتسون للشؤون الدولية والعامة". وكشف التقرير عن أنه منذ السابع من أكتوبر عام 2023، أسفرت حرب غزة عن مقتل عدد من الصحافيين يفوق مجموع ما قتل خلال الحرب الأهلية الأميركية والحربين العالميتين الأولى والثانية والحرب الكورية وحرب فيتنام مجتمعة.
ووفق لجنة حماية الصحافيين (CPJ) تواجه إسرائيل حوادث قتل الصحافيين بنمط معتاد، يبدأ بالنفي المسبق للمسؤولية، ثم التشكيك في الأدلة وشهادات الشهود، وترويج روايات مضللة واتهامات باطلة.
وتجلى هذا النمط بعد مقتل الصحافية الفلسطينية – الأميركية شيرين أبوعاقلة عام 2022 وهي ترتدي سترة تحمل بوضوح كلمة "صحافة" باللغة الإنجليزية، إذ اتهمت إسرائيل مسلحين فلسطينيين بإطلاق النار عليها، قبل أن يعترف الجيش الإسرائيلي بوجود "احتمال كبير" بأن يكون أحد جنوده مسؤولاً عن مقتلها.
وعلى رغم إقرار إسرائيل بمسؤوليتها المحتملة في مقتل أبو عاقلة، لم تتخذ إجراءات لمحاسبة المتورطين وفق لجنة حماية الصحافيين.