Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

تجربة شاعر أصم... رحلة البحث عن الصوت المفقود

كتاب يحكي فيه البريطاني الشاب ريموند أنتروبس عن حياته من الصمم إلى الشعر

اختار ريموند أنتروبس لكتابه غير الخيالي الأول أن يكون مساءلة لتجربته الشخصية (اندبندنت عربية) 

ملخص

وبعد أعوام كثيرة، حينما يصبح شاعراً متحققاً حاصلاً على جوائز، يرجع أنتروبس إلى فصل أساتذته ومرشديه، ويلتقي بطلبة صم ويريهم أن أمامهم مساراً محتملاً للتقدم" ليحكي عنه في فصل منشور من كتابه.

يحكي الشاعر البريطاني الشاب ريموند أنتروبس حكاية عن أبيه إذ يقرأ له قصة مصورة في طفولته. كان الشاعر لا يزال في السادسة من عمره، ولم يشخص الأطباء بعد حاله بأنه مصاب بالصمم، لكنه كان أصم بغض النظر عن ذلك، فكان يلتصق بصدر أبيه، ليستشعر القصة من ذبذبات الصوت في جسده. حكت الكاتبة شان كين تلك القصة في مقالة كتبتها عن الشاعر عام 2023، في مناسبة إصداره كتاباً قصصياً للأطفال بعد ثلاثة دواوين فاز الأول منها وعنوانه "دأب" بجائزة تيد هيوز الشعرية المرموقة.

ولد ريموند أنتروبس عام 1986 لأب من جامايكا وأم بيضاء. ونشرت قصائده في مجلات مرموقة وفازت أعماله بكثير من الجوائز في المملكة المتحدة حيث يجري تدريس بعض قصائده في المناهج الدراسية. وله أيضا كتابان للأطفال، تحول أحدهما، وعنوانه "هل تستطيع الدببة التزلج؟" إلى أول قصة تذيعها هيئة الإذاعة البريطانية بلغة الإشارة البريطانية بالكامل، وقد انتخب أنتروبس زميلاً للجمعية الملكية للأدب وحصل على وسام الإمبراطورية البريطانية.

مليئة قصة حياة أنتروبس بعناصر الصعود. فهو أولاً ذو بشرة سمراء، وأصم، وابن مهاجر، ثم هو في نهاية المطاف شاعر مرموق متوج بكثير من التكريمات ولعل أهمها تدريس قصائده في المدارس التي عانى كثيراً فيها حسبما تكشف سيرته الذاتية التي صدرت أخيراً بعنوان "الأذن الهادئة".

الصوت المفقود

يكتب أليكس كلارك في صحيفة "الغارديان" في الـ22 من أغسطس (آب) الجاري أن أنتروبس ليس الشاعر الأول في عائلته، إذ إن له سلفاً من ناحية أمه هو الشاعر توماس غاري الذي تشتهر له قصيدة كتبها عام 1751 وتمتلئ بأصوات من قبيل خوار البقر وزقزقة العصافير وصياح الديكة "وهذه أصوات قد تفلت من أنتروبس إذا لم يكن مرتدياً السماعات، فقد ولد مصاباً بما يوصف عادة بـ’الصوت المفقود‘ في النطاقين الأعلى والأدنى، ففي أحد النطاقين يختفي صوت صفير غلاية الماء أو جرس الباب، وفي الآخر قد تغيب بعض المقاطع الصوتية في الكلمات" فتختلف معانيها تماماً.

يكتب كلارك أن ذلك أمر قد يصعب استيعابه على من يفهمون أن الصمم هو العجز التام عن الاستماع إلى أي شيء "فكثير من الناس يتصورون أن الصم يعيشون في عالم من الصمت المطبق، معزولين عن التواصل مع عالم السمع إلا بقراءة الشفاه أو بلغة الإشارة أو بالأجهزة المعينة على السمع". ويبدو أن كتاب "الأذن الهادئة" ليس فرصة للتعرف إلى حياة فرد معين أصم، وإنما هو أيضاً نافذة على عالم تفصلنا عنه افتراضات وتصورات لا معرفة حقيقية.

بينما يقول كولين غرانت في استعراضه للكتاب عبر "أوبزرفر" في الـ17 من أغسطس الجاري، إن أنتروبس المولود عام 1986 "اجتاز اختبار السمع الأول بنجاح، وذلك حينما طرقعت القابلة بأصابعها، لكنه وقع بعد ذلك في ’عالمه الصوتي الخاص‘، ولم ينتبه المحيطون به إلى صممه طوال سبعة أعوام، إلى أن لاحظت والدته روزماري أن ابنها ’لا يستجيب للدوي‘ المنبعث من ’هاتف صاخب كريمي اللون‘ كانت قد اشترته حديثاً ولم يكن يتوقف عن الرنين. وأظهرت الاختبارات التي أجريت له، من دون سماعات، أنه عاجز عن التقاط الأصوات العالية الترددات من قبيل أجراس الأبواب وصفير غلايات الماء وزقزقة الطيور".

غير أن الشاعر يكتب في سيرته أن الصمم "تجربة لا مرض"، تجربة من التعرض لإساءات وسخافات وتعلم للغة الإشارة وأعوام من علاج التخاطب، وأن هذه التجربة "ولدت جميعاً شعراً عميقاً هو الذي أفضى به إلى الفوز بجائزة تيد هيوز عام 2019 عن ديوانه الأول وعنوانه ’دأب‘" بحسب ما يكتب غرانت.

"كان ضعف السمع تحدياً هائلاً، لكن أنتروبس لديه من الوعي الكتابي ما يكفي لأن يجتنب فخ السير الذاتية الذي قد يغري كاتبها بأن يجعل من نفسه بطلاً. وعلى رغم ذلك يحوي الكتاب أبطالاً لا حصر لهم: منهم معلمته وحاميته بيني التي أدركت ’مدى الصعوبة الجسيمة‘ التي يتعرض لها ’الأطفال الصم السود‘ المعرضون أصلاً للتحيز. ومثلما يتجنب البطولة، يتجنب أنتروبس في (الأذن الهادئة) جعل نفسه موضعاً للشفقة، على رغم أنه عانى في صغره عذاب الخجل واليأس من الصلاحية للالتحاق بالمدارس العادية، حتى ليحكي في الكتاب عن حرجه من إحساسه بأنه أشبه بآلة "يتحتم أخذها من العنبر الرئيس في المصنع من أجل إجراء صيانة خاصة". ويتجنب أنتروبس أيضاً تصوير نفسه محبوباً فيوازن بين تفكيره في تكريم بيني، وإثارته الغضب باحتفاظه دائماً بسماعاته في جيبيه خلال جلسات إدارة الغضب بعد لكم الجدران وتحطيم النوافذ.

ويرفض الشاعر ما نعرفه في الثقافة العربية ـ ويبدو أنه شائع أيضاً في ثقافات أخرى - من أن كل ذي عاهة جبار، فيرى أنتروبس أنه ما من قوة خارقة تكون مصاحبة للصمم أو معوضة عنه، كما يرفض عموماً "كون الصمم يأتي وبرفقته مزايا تعويضية في الحواس، لكنه على رغم ذلك يبدي تعاطفاً مع الصم الذين يرفضون سلبيات ’فقدان السمع‘ ويؤكدون بدلاً من ذلك ’مغانم الصمم‘".

الأذن الهادئة

يحتل والد أنتروبس مساحة جيدة في ما يبدو في "الأذن الهادئة" لكنها ليست المساحة التي يتوقعها المرء من حكاية قراءة القصص المصورة لابنه في طفولته، وانتقال مشاعر القصة بين جسديهما مباشرة. ففي الأذن الهادئة يظهر للأب سيمور وجه آخر. هو مهاجر من جامايكا، يوصف في مقال كولين غرانت بالرستفاري أي المؤمن بحركة دينية نشأت في جاميكا وترى أن الإمبراطور الإثيوبي هايلي سيلاسي هو المسيح وأن الشعب الأسود هو شعب الله المختار وأنه سيرجع يوماً ما إلى الوطن الأفريقي!

وعلى رغم طرافة هذه الحركة وخرافيتها، يمكن القول إن سيمور كان مؤمناً بقضية أصحاب البشرة السوداء التي تستحق المناصرة والعدالة وينبغي لأي دين أن يدعمها دونما حاجة إلى استحداث دين عجيب كهذا. وبعيداً من الرستفارية، يظهر سيمور في الأذن الهادئة أباً غير مأمون الجانب، فقد رفض في أول الأمر الاعتراف بصمم ابنه قائلاً، "ولكن ابني يسمعني"، ثم يصف ريموند "علاقته المتوترة بأبيه العصبي. ففي حالات سكر سيمور البيِّن، وهي كثيرة، كان على ريموند وشقيقته كورينا أن يضعا حداً لأي تصعيد محتمل بأن يتسلحا بالطوب".

 

يكتب كولين غرانت أن ريموند أنتروبس، الذي كان يتسلح بالطوب في مواجهة أبيه، يظهر في مطلع الكتاب "طفلاً متوتراً، مكور القبضتين، متأهباً للقتال في بيئة معادية هي بيئة عالم السامعين. ويتأمل اللامبالاة الثقافية البريطانية المتفشية تجاه الصمم، مشيراً إلى قصيدة ’مدرسة الصم‘ لتيد هيوز إذ تصف الأطفال الصم بـ’قرود الليل الصغار حين تحاصرها أضواء المصابيح‘. راعه أن يستعمل ذلك الشاعر الكبير ’موهبته الشعرية في تأطير الأطفال الصم تأطيراً حيوانياً مهيناً‘ فجاء رده عليها هجومياً، بنشره أولاً نسخة منقحة من القصيدة المهينة، ثم بمعارضة هيوز في قصيدة بعنوان (إثر قراءة قصيدة مدرسة الصم على ضفة الميسيسيبي)"، قال فيها إن تيد كان شخصاً ساذجاً حذراً يفتقر إلى الهالة الصوتية المتذبذبة والاستجابة للصوت.

وفي كتابه "يقيم أنتروبس حواراً مع كثير من الشعراء الصم الرواد من أمثال دوروثي مايلز، وكذلك مع فنانين من أمثال عازفة الإيقاع إيفلين جليني التي تذكره بأن ’معظم الصم لا يعيشون في عالم الصمت‘. وتأتي بعض أجمل فقرات السيرة وأكثرها إثراء للقارئ من تأملاته المصقولة للعوامل التي وجّهته إلى الشعر المنطوق والمكتوب. ويعترف الشاعر أنه أقبل على لغة الإشارة كارهاً وهو في المدرسة الثانوية قائلاً ’لقد بدا الأمر أشبه بعرض درامي محموم لم أشأ المشاركة فيه‘. غير أنه حدث لاحقاً أن استولى عليه عرض شعري ـ وذلك من خلال التدريب الذاتي على مهارات [مطربي الراب الأميركيين] بوستا رايمز وتوباك شاكور و[المغني الكندي] ليونارد كوهين. ولو أن تأثير كوهين كان أصعب في مناقشته مع أصدقائه السود، بسبب المواقف السياسية العنصرية المتأججة في ثقافة الشباب بلندن حتى ليبدو أن ’لين صوت كوهين وصدقه... سمتان أكثر بياضاً مما ينبغي‘. ويكتب أنتروبس أن عروض الشعر الأدائية [المعروفة في بعض الترجمات العربية بالـ’صلام‘ Poetry slams ] كانت بوابة ’خروج القلق المكبوت من رأسي‘".

سرد غنائي

من جانبه، يكتب كيرك وولش في صحيفة "نيويورك تايمز" في الـ16 من أغسطس الجاري أن ريموند أنتروبس اختار لكتابه غير الخيالي الأول هذا أن يكون مساءلة لتجربته الشخصية ـ وتجربة كثير غيره ـ مع الصمم في عالمنا الراهن، فجاء الكتاب "واسع النطاق، ودقيقاً في الآن ذاته، قادراً على أن يتصف بصفات كثيرة معاً فهو سيرة نضج لشخص يتنقل بين عالمي السمع والصمم، وهو نقاش دقيق للتقاطعات ما بين العرق والصمم، وهو تقييم ثقافي لشخصيات بارزة من الصم في الرياضة والأدب والسينما وغيرها. وينجح أنتروبس في تضفير ذلك كله في سرد غنائي لا يبدو من ورائه جهد أو عنت.

ينقل وولش عن أنتروبس وصفه لأولى لحظات اعتماده على أجهزة سمعية مساعدة، "عند خروجي من العيادة واضعاً السماعات للمرة الأولى، لاحظت أن كل شيء له لغة، إذ يلهث الباب عندما ينفتح، ويومض الشارع ويدوي بينما الحمائم ترفرف والمرور يزدحم... وفي المدرسة كان لدى كل فرد سؤال لي. ما هذا الذي في أذنك؟ ولم أشأ أن أخبرهم أنني أصم مثل منحدر جليدي، فكنت أقول ’هاتان هما أذناي البلاستيكيتان‘".

ويبرز وولش أيضاً استعراض أنتروبس في الكتاب لانشغالاته واهتماماته، فـ"مما يتناقض مع الصورة النمطية للصم باعتبار أنهم لا يمكن أن يستمتعوا بالموسيقى، يغرق أنتروبس نفسه في إيقاعات توباك وقوافيه. ويحترف السباحة فيخوض فيها المنافسات، ويكتب في هذا الصدد، ’لقد صرنا جميعاً صماً تحت الماء بدرجة أو بأخرى. شعرت أنني تحررت تحت سطح الماء، في ذلك التشوش وعدم التماسك، إذ ترتطم الأجسام بالأجسام، ويغمر الجو المتلألئ الجميع ويحويني، فكأنني في بُعد مغاير، أشد سخاء، يقلل من الثقل الآلي المتصلب الذي أتحرك به في الشارع وحول المدرسة. كنت أجد في جسدي ليونة أفتقدها على الأرض‘. لكنه هجر تلك الرياضة حينما بلغ قرابة الـ13 إذ كان يصعب عليه أن يسمع طلقة البداية".

ويتوقف وولش مع أنتروبس إذ يبدأ في نهاية المطاف الكتابة فيملأ "دفاتر بمجازات يولدها التداعي، فتأتي مفككة، لم أصفها بالشعر وإنما بـ’الكلمات‘ وحسب". ويكتشف أنتروبس "مجتمعات الكتابة على الإنترنت ثم يشارك لاحقاً في فعاليات الصلام وإلقاء الشعر في أنحاء لندن، ويبدأ في النشر. وبعد أعوام كثيرة، حينما يصبح شاعراً متحققاً حاصلاً على جوائز، يرجع أنتروبس إلى فصل أساتذته ومرشديه، ويلتقي بطلبة صم ويريهم أن أمامهم مساراً محتملاً للتقدم".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي هذا يحكي أنتروبس في فصل منشور من كتابه بموقع "ليت هب" قائلاً، "قابلت توماس عندما كنت أزور مدرسة في دورهام عام 2017. اقتادني أساتذته سريعاً مبتعدين بي بعدما ألقيت محاضرة عن الشعر في قاعة مكدسة بتلاميذ تتراوح أعمارهم ما بين الـ11 والـ16، ليجلسوني معه في غرفة، ذلك الولد بندقي الشعر مدور الوجه ذو الـ11 سنة والسماعتين الفضيتين الضخمتين. جلس مطأطئ الرأس على طاولة بينما يحوم أساتذته أعلاه. كان توماس هو الولد الأصم الوحيد في المدرسة وقد جمع أساتذته المتحمسون للغاية، والقادرون على السمع، بيني وبينه في غرفة هادئة".

"قال أحد الأساتذة وهو راكع إلى جواره ’حسن يا توماس. ها هو شاعر، يرتدي سماعات مثلك‘، وقال آخر مقاطعاً ’صحيح، ماذا تحب أن تقول عن الصمم يا توماس؟‘".

"لم يكن أحد من الأساتذة يجيد لغة الإشارة، وحتى عدم حديثهم في بعض الأحيان وهم لا يواجهونه أظهر لي أن توماس موجود في مكان لا يلبي حاجاته. بقي توماس مطأطئاً رأسه ثم قال أخيراً ’لا نفع له‘".

"قلت لتوماس إنني في مثل عمره كنت أشعر أيضاً أنه عديم النفع، ورسَّخت في نفسي فكرة أن الصمم يقلل قيمتي ويقلص مستقبلي (الوظيفي والرومانتيكي). وأوضحت أنني أنفقت عقوداً من عمري وأنا أدفع عني هذه الفكرة. فالصمم يصير أصعب حينما يتحتم عليك أن تعتمد على أشخاص غير صم أن يفهموك، أشخاص ليس لديهم الصبر لمواجهتك وهم يتكلمون أو يشيرون أو يعرفون متي يتوقفون في الحوار حينما يعلو صوت من قبيل إنذار أو شاحنة مسرعة في الشارع. شعر أحد الأستاذين أنه متهم وأن كلماتي سلبية فقاطعني قائلاً ’لكن انظر إليه يا توماس، هو الآن شاعر مشهور‘. فرفع توماس رأسه عن الطاولة وحملق في وجهي مفكراً ثم سأل ’وهل للشعراء نفع؟‘".

يعترف وولش في ختام مقالته عن الكتاب برابط قوي له بكتاب "الأذن الهادئة"، "في موضع مبكر من الكتاب يكتب أنتروبس أنه ’يمكن تفسير فقدان الصوت أيضاً باعتباره سوء فهم، أو سوء إدارة للذات، أو سوء تعلم، فهو بمنزلة رف في مكتبة لروايات الألغاز‘ ويبدد الكاتب هذه الألغاز ببحثه العميق في الذات والآخرين. فبالنسبة إليَّ، وأنا قارئ يستعمل سماعات، كان هذا الكتاب هبة أضاءت جوانب من تاريخي السمعي سواء في طفولتي أو رشدي، لكن هذا تقليل من شأن هذه المذكرات الرائعة. فـ(الأذن الهادئة) قصة تغير قراءها جميعاً، وتتيح فرصة لاكتشاف الأصوات المفقودة وتخول لهم فهم ما يتعلق بتجاربهم الخاصة من سوء فهم، ليشرعوا في فهم ما يعنيه السمع حقاً".

العنوان: The Quiet Ear: An Investigation of Missing Sound 

الكاتب: Raymond Antrobus 

الناشر: Weidenfeld & Nicolson

اقرأ المزيد

المزيد من كتب