ملخص
أصبحت الحرب الأوكرانية بمثابة إعادة توزيع ضخمة لأموال صندوق الاحتياط الحكومي لمصلحة المناطق الأكثر فقراً في روسيا، وذلك على شكل رواتب عسكرية، ودفع تعويضات للقتلى والجرحى، وطلبات لشراء منتجات عسكرية.
على رغم من إعلان البيت الأبيض على لسان المتحدثة باسمه كارولين ليفيت، الثلاثاء الماضي، أن هناك "ضوءاً في نهاية النفق" لتسوية الصراع العسكري بين روسيا وأوكرانيا، وهو ما يعد "بفرصة سلام دائم"، فإن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أعلن في الوقت نفسه عن زيادة شبه مضاعفة في عدد الراغبين في المشاركة في الحرب على أوكرانيا.
بوتين أكد خلال اجتماع مع أعضاء منظمة "ديلوفايا روسيا" المعنية بالصناعات المحلية، أن هناك ما بين 50 و60 ألف روسي يلتحقون بالقتال في أوكرانيا شهرياً. وفي السابق، كان عدد المجندين الشهري للجيش الروسي لا يتجاوز 30 ألف شخص، وفقاً لتصريح بوتين في ديسمبر (كانون الأول) 2023.
الرئيس الروسي قال خلال الاجتماع نفسه، "أود أن ألفت الانتباه إلى ما يلي: إذا كانت السلطات الأوكرانية منتظمة في التعبئة القسرية، وتقبض على الناس كالكلاب في الشوارع، فإن رجالنا يذهبون طواعية، يذهبون بأنفسهم. هناك، حسناً، يقبضون حالياً على 30 ألفاً. وهنا، يأتي 50-60 ألفاً شهرياً بأنفسهم. من مجموعات العمل الخاصة بكم أيضاً". وتتجاوز الأرقام التي ذكرها الرئيس الروسي بصورة كبيرة تقديرات تجنيد المجندين الجدد التي قدمتها السلطات الروسية سابقاً.
في يناير (كانون الثاني) الماضي، ادعى الرئيس الروسي السابق ونائب سكرتير مجلس الأمن الروسي حالياً ديمتري ميدفيديف، أن 450 ألف شخص وقعوا عقوداً عام 2024، وذهب 40 ألفاً آخرين إلى الجبهة كمتطوعين. ويترتب على هذه البيانات أن نحو 41 ألف مجند وقعوا عقوداً كل شهر. ومثل بوتين، أضاف ميدفيديف أن أكثر من 1000 شخص وقعوا عقوداً يومية.
حرب دموية طاحنة
صحيح أنه يجري إمداد جبهة الحرب مع أوكرانيا بعشرات آلاف المجندين الجدد شهرياً، لكن الصحيح أيضاً أن آلاف القتلى من طرفي النزاع يسقطون شهرياً صرعى هذه الحرب الدموية الطاحنة. فوفقاً لوزارة الدفاع البريطانية، فإنه في أبريل (نيسان) الماضي، فقد الجيش الروسي أكثر من 36 ألف جندي بين جريح وقتيل في أوكرانيا (بمعدل 1209 أشخاص يومياً). في بداية العام الحالي، وفقاً للإدارة العسكرية البريطانية، كان هذا الرقم أعلى من ذلك، ففي يناير (كانون الثاني) الماضي، سجلت روسيا أكثر من 48 ألف قتيل وجريح (1556 شخصاً يومياً).
ووفقاً لبيانات حلف شمال الأطلسي (الناتو) المنشورة في أبريل الماضي، خسرت روسيا ما يصل إلى 900 ألف جندي في الحرب ضد أوكرانيا، ما بين قتلى وجرحى. قتل منهم نحو 250 ألفاً، وفي فبراير (شباط) 2024 وحده، تجاوزت الخسائر 35 ألف شخص.
قتال من أجل المال
تتجنب السلطات الروسية الإعلان عن موجة جديدة من التعبئة، لأن التعبئة الأولى تسببت في نزوح جماعي للسكان عام 2022 مع أنها كانت تعبئة جزئية. وبدلاً من ذلك، تعتمد بصورة متزايدة على المتطوعين، الذين يغرون بمبالغ ومكافآت عالية. ومع تزايد الخسائر واستمرار الحرب، تتزايد قيمة هذه الحوافز.
وهكذا، في منطقة سامارا بوسط روسيا، عرضوا في يناير الماضي ما يصل إلى 40 ألف دولار لكل من يبدي استعداداً للانضمام إلى وحدات الهجوم الخطرة بصورة خاصة، حيث ينجو، بحسب الإشاعات، واحد فقط من كل 20 مقاتلاً.
ويقدر المحللون في معهد دراسة الحرب أن روسيا أنفقت بالفعل نحو نصف صندوق الاحتياط الحكومي لديها، أكثر من 106 مليارات دولار، على العقود والمكافآت للمجندين الجدد.
وأقر بوتين بأن الاقتصاد الروسي يواجه تضخماً حاداً وعقوبات غربية. وأكد ضرورة التصرف "بحذر" لتجنب "تجميد الاقتصاد" والسماح للبنك المركزي بخفض سعر الفائدة الرئيس تدريجاً. ومع ذلك تناقش دول أوروبية كبرى بالفعل فرض عقوبات أشد إذا لم توافق موسكو على هدنة.
"أبطال" مقابل المال
لا تزال الملصقات الدعائية التي تدعو للخدمة العسكرية تظهر في شوارع المدن الروسية على رغم إبداء بوتين استعداده للسلام. كلها تعد الشباب الروس برواتب مغرية تبدأ بـ210 آلاف روبل شهرياً (نحو 2800 دولار) لمن يوقع عقداً ويلتحق بالجبهة.
مع أننا نتحدث رسمياً عن متطوعين، إلا أن الدافع وراء ذلك مالي أكثر منه أيديولوجياً. وكلما طال أمد الحرب، اتضحت الحقيقة وهي أن الكرملين مجبر على التضحية بالأرواح مقابل المال، فقط لتجنب موجة جديدة من التعبئة والتسبب في نزوح جديد للمواطنين.
وخطط الجيش الروسي لتجنيد 160 ألف روسي خلال الفترة من الأول من أبريل إلى 15 يوليو (تموز) الماضي. لقد أصبح من الصعب بصورة متزايدة تجنب الخدمة العسكرية: إذ يعد كل شخص تقريباً لائقاً للخدمة.
وبعد استئناف مفاوضات السلام بين روسيا وأوكرانيا خلال مايو (أيار) الماضي في مدينة إسطنبول التركية، مع ورود أنباء عن احتمال التوصل إلى حل شامل يفضي إلى وقف لإطلاق النار، لا يزال من الصعب على الروس أن يصدقوا أن بوتين مستعد لإنهاء الحرب.
فهل من الممكن تجنب التجنيد التعاقدي والإجباري في الجيش الروسي، وهل تستعد الحكومة لنهاية الحرب؟ على رغم محادثات السلام، قد يكون ارتفاع تجنيد الشباب في الجيش مرتبطاً بعوامل عدة، الصراع الدائر في أوكرانيا، والحاجة إلى الحفاظ على القوة العسكرية في مواجهة التوترات الجيوسياسية، والاستعداد للتحديات المستقبلية المحتملة.
وعلى رغم محادثات السلام، تستمر العمليات العسكرية في أوكرانيا، وتعتقد روسيا أنها في حاجة إلى الحفاظ على جاهزية جيشها القتالية، بما في ذلك من خلال استقطاب مجندين جدد. وتواجه روسيا توترات مع الغرب وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، مما قد يتطلب زيادة قوتها العسكرية لضمان أمن البلاد.
الاستعداد للتحديات المستقبلية
يعتقد بعض المحللين أن ارتفاع التجنيد قد يكون مرتبطاً بالاستعداد للصراعات أو الأزمات العسكرية المحتملة في المستقبل. كما قد يكون ارتفاع عدد المجندين مرتبطاً أيضاً بالسياسة الداخلية لروسيا ومحاولة تعزيز القاعدة الاجتماعية الداعمة للحكومة.
ومن المهم ملاحظة أن التصريحات الرسمية الروسية غالباً ما تتناقض مع الأفعال، ويمكن اعتبار زيادة تجنيد الشباب في الجيش مؤشراً إلى استمرار الصراع أو تصعيده، على رغم التصريحات بالنيات السلمية. ومع ذلك ليس كل الشباب المجندين في الجيش سيشاركون مباشرة في القتال في أوكرانيا، فقد ينشر بعضهم في مناطق أخرى من البلاد.
على أي حال، فإن زيادة تجنيد الشباب في الجيش موضوع معقد يتطلب كثيراً من التحليل والمناقشة. ففي حديثه عن القضية الإقليمية ومسألة تبادل الأراضي مع أوكرانيا، التي طرحها الوسطاء الأميركيون، لا سيما مبعوث الرئيس الأميركي ستيف وتكوف، استذكر بوتين "القاعدة القديمة: حيث تطأ قدم الجندي الروسي تصبح الأرض روسية". وحذرت وزارة الخارجية الروسية من أن التغييرات الإقليمية ستصبح جزءاً لا يتجزأ من أي اتفاقات محتملة مع أوكرانيا.
وقبل العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا، كان عدد الجيش الروسي نحو مليون جندي، يتمركز ما بين 150 و190 ألفاً منهم على طول الحدود الأوكرانية مع روسيا وبيلاروس. في ذلك الوقت، كان 260 ألف شخص يخدمون في القوات المسلحة الأوكرانية، ولكن بحلول منتصف صيف عام 2022، تمكن الأوكرانيون من حشد 700 ألف جندي جديد.
لاحقاً، اضطرت السلطات الروسية إلى اتخاذ خطوة غير شعبية بتعبئة جزئية لما يقارب 300 ألف جندي احتياط، مما مكن الروس من تثبيت استقرار الجبهة. ومنذ عام 2023، يتزايد عدد المجندين على الجانب الروسي، بينما تعاني كييف، على العكس من ذلك، مشكلات متزايدة منذ ذلك الحين، ويزداد صعوبة تجديد صفوف قواتها المسلحة.
وفقاً لتقرير حديث صادر عن "التوازن العسكري" التابع للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، ارتفع عدد الجنود الروس العاملين في الخدمة إلى أكثر من 1.13 مليون جندي، منهم نحو 640 ألفاً يقاتلون على الأراضي الأوكرانية. وتشير أرقام رسمية من الجانب الأوكراني إلى وجود أكثر من مليون جندي عامل، إلا أن مركز الدراسات الشرقية، ومقره وارسو، يشير إلى أن أقل من 300 ألف جندي يقاتلون على خطوط المواجهة.
وبحسب مركز الدراسات الشرقية البولندي، تحتاج أوكرانيا إلى حشد نحو 300 ألف مجند لسد حاجات ألويتها، التي لا يتجاوز عدد أفراد بعضها 30 في المئة. على سبيل المثال، نجحت القوات المسلحة الأوكرانية عام 2024 في حشد نحو 200 ألف مجند، لكن مركز الدراسات الشرقية يقول إن هذا العدد لم يكن كافياً نظراً "لحجم حالات الانشقاق والخسائر البشرية" في الجيش.
حالياً، تحشد القوات المسلحة الأوكرانية، وفقاً للتقديرات، ما بين 17 و24 ألف جندي شهرياً، بينما تحشد روسيا نحو 60 ألف جندي. ومن ثم، تحظى قوات موسكو بتفوق عددي كبير وميزة عسكرية على الجبهة.
وفي منطقة العملية العسكرية الروسية الخاصة، لا تترك قيادة وزارة الدفاع الروسية وسيلة إلا وتستعين بها لتحقيق النصر. وأخيراً، أرسلت إلى الجنود المسلمين على خط المواجهة مسجداً متنقلاً مقاماً على قاعدة شاحنة ضخمة، بحيث يمكن للمقاتلين الصلاة في "بوخانكا"، والتشاور، ومشاركة أفكارهم العميقة مع الإمام. حول القيم التي لا نفكر فيها والتي يقاتل المجندون من أجلها.
يذكر أنه في تتارستان إحدى أكبر الجمهوريات الإسلامية في البلاد، رفعت قيمة الدفعة الأولى للجنود المتعاقدين إلى 3.1 مليون روبل (نحو 38 ألف دولار). وقد اتخذ هذا القرار من قبل رئيس هيئة الاستخبارات العسكرية الروسية، رستم مينيخانوف. وهذه هي الزيادة الثالثة منذ بداية العام على الخدمات التعاقدية للمجندين الراغبين في الالتحاق بمنطقة العمليات العسكرية الخاصة.
دعم الحرب مرتفع ولكن غير متساو
تظهر استطلاعات الرأي أن غالبية المشاركين يؤيدون أعمال القوات المسلحة الروسية في أوكرانيا. في الوقت نفسه أعربت الغالبية، 53 في المئة من الروس، عن "تأييدها التام". بينما أبدى 28 في المئة آخرون "تأييدهم نوعاً ما". في المقابل، لم يؤيد نحو 14 في المئة من الروس الحرب في أوكرانيا، بينما وجد ستة في المئة صعوبة في الإجابة.
ويمكن تصنيف ما يقارب نصف سكان البلاد ضمن فئة "الدعم المطلق"، فهم لا يشككون في صحة ما يحدث، ويرفضون انتقاد القيادة الروسية والقوات المسلحة، وما يحدث يلهمهم شعوراً بالفخر بالوطن. في هذه الفئة تحديداً، تكون الأحكام على ما يحدث أكثر حسماً، حيث يميل المستجيبون إلى وصف ما يحدث بأنه "حرب ضد الغرب الذي يدعم القوميين الأوكرانيين"، أو "إجراء ضروري"، أو "ضربة استباقية"، أو "دفاع ضد الناتو". إنهم عملياً لا يشككون في تقارير وسائل الإعلام الرسمية، ويصدقون بسهولة تفسيرات فلاديمير بوتين، صاحب الدعم الأكبر في هذه الفئة.
ويؤكد المستجيبون في هذه الفئة أن ما يحدث هو بالتحديد "عملية خاصة"، لأننا "لا نستولي على شيء. نحن نحرر أوكرانيا من النازيين والفاشيين"، وإلا "لكان الجيش قصفها بالكامل وانتهى الأمر... ولما بقي هناك أي أحياء"، "لأن فلاديمير أطلق عليها هذا الاسم. أنا أصدقه".
وأظهر المستجيبون الذين "يؤيدون" أعمال الجيش الروسي دعماً أقل حسماً، مع بعض التحفظات، فمقارنة بمجموعة المؤيدين الواثقين، فإن مشاعر القلق والخوف والرعب مما يحدث أعلى بمرتين هنا، وشعور الفخر أقل بصورة ملحوظة. وبالنسبة إليهم، فإن الدافع الرئيس للعملية الخاصة هو الرغبة في حماية السكان الناطقين بالروسية. يتابعون ما يحدث بصورة أقل بمرتين، ودعمهم للسلطات أقل نسبياً هنا، وكذلك اهتمامهم بالسياسة. ومن بين المشاعر الشائعة لدى هذه المجموعة "لا أرغب في دعم ذلك، ولكن عليّ دعمه، فالوضع ميؤوس منه بالفعل... تعرضت لوغانسك ودونيتسك للقصف لمدة ثمانية أعوام... لا أرغب في نشوب حرب، أود أن يحل المسؤولون هذه المشكلة من دون حرب... لكن الأمر لا ينجح"، هكذا علقت إحدى المشاركات في دراسة مارس على إجابتها.
من بين معارضي "العملية الخاصة"، هناك عدد غير متناسب من الشباب (مع أنه لا يمكن القول إنهم شباب فقط)، وسكان موسكو والمدن الكبرى، وقراء مواقع الإنترنت وقنوات "تيليغرام". في هذه المجموعة، هناك عدد أقل بصورة ملحوظة من كبار السن ومشاهدي التلفزيون، وقلة من مؤيدي فلاديمير بوتين. هذه هي الشريحة من المجتمع الروسي التي كانت أقل اعتماداً على الدولة، وانتقدت الحكومة الروسية، وصوتت ضد تعديلات الدستور عام 2020، ودعمت المعارضة، وخرجت للاحتجاج عام 2021. هؤلاء الأشخاص أكثر اندماجاً في العالم، وسافروا لقضاء عطلاتهم في أوروبا، وكان لديهم موقف أفضل تجاه الغرب. يمكن القول إن الموقف تجاه ما يسمى "العملية الخاصة" كشف مجدداً عن التناقضات التي كانت ملحوظة في المجتمع الروسي منذ زمن طويل.
بالنسبة إلى من يختلفون، ما يحدث في أوكرانيا أشبه بكارثة، ويتحدثون عن وقوع خسائر بشرية، وموت المدنيين والدمار، بل ويدينون التدخل في شؤون دولة أخرى. ومن بين المشاركين الشباب تحديداً، غالباً ما نسمع رفضاً قاطعاً لأي عمل عسكري. وينظر إلى الصراع مع أوكرانيا والغرب على أنه انهيار للآمال في المستقبل، وفي التنمية الشخصية والوطنية ككل، وانقطاع عن العالم. وليس من قبيل المصادفة أن يكون بين الموجة الجديدة من المهاجرين هذا العدد الكبير من الشباب الروس، الناشطين سياسياً، الناطقين باللغة الإنجليزية، الذين لم يكن عملهم مرتبطاً بالدولة.
استقرار الدعم
تظهر البيانات المتاحة على مر الزمن أن الدعم الأولي لما يسمى "العملية الخاصة" كان أقل عند انطلاقها، أي عند مستوى ثلثي السكان (65-68 في المئة). وأعرب ما يصل إلى ربع المشاركين عن معارضتهم. من المهم تأكيد أن الخطوط الرئيسة لموقف اليوم تجاه ما يحدث قد تبلورت آنذاك بالفعل بحلول منتصف فبراير (شباط) 2022 حتى قبل بدء النزاع المسلح.
بحلول ذلك الوقت، كان ثلاثة أرباع المشاركين على يقين من أن الولايات المتحدة وأوكرانيا مسؤولتان عن التصعيد، بينما أبدى ثلث المشاركين فقط تعاطفهم مع كييف. وبلغت نسبة تأييد فلاديمير بوتين 71 في المئة في منتصف فبراير (ثم في مارس 2022 ارتفعت إلى 83 في المئة). كانت الفجوات الرئيسة واضحة بالفعل، والتي لم تكن ملحوظة في نهاية عام 2021، عندما كانت الأحداث تكتسب زخماً. وقد ظهرت هذه الاختلافات نفسها بوضوح في استطلاعات الرأي الأولى حول المواقف تجاه "العملية الخاصة".
تظهر هذه الأرقام بوضوح توازن القوى الذي أظهرته استطلاعات الرأي في أوائل مارس 2022، إذ وافق ثلثا المشاركين بالفعل على التفسير الرسمي لما كان يحدث ودعموا "العملية العسكرية الخاصة"، بينما رفضها نحو الربع. إن التغيرات التي طرأت على الرأي العام خلال شهر ملحوظة، وإن لم تكن كبيرة.
يفسر استقرار الأفكار هذا، جزئياً في الأقل، بحقيقة أن المعلومات المتعلقة بما يحدث في أوكرانيا تتناسب مع أفكار المجيبين الراسخة حول كيفية عمل النظام العالمي بصورة عامة. وقد تشكلت هذه الأفكار على مر السنين تحت تأثير التعاطف السياسي وتجربة الحياة ومصادر المعلومات التي يستخدمها المجيبون. بالتالي، بالنسبة إلى معظم المجيبين، بخاصة لممثلي الجيل الأكبر سناً، ليس هناك شك في أن الغرب، بقيادة الولايات المتحدة، يحاول منذ فترة طويلة إضعاف روسيا وتطويقها بقواعد عسكرية.
على سبيل المثال، نظر البعض إلى الحرب الروسية- الجورجية عام 2008، والنزاع مع أوكرانيا عام 2014، والتدخل العسكري في سوريا، وما يسمى "العملية الخاصة" الحالية من خلال منظور المواجهة الروسية- الأميركية. ويشارك الشباب ومستخدمو الإنترنت في أكبر المدن الروسية مثل هذه الأفكار بصورة أقل كثيراً.
يوضح علماء النفس أنه في حال التهديد الخارجي والضغوط الدولية والعقوبات، تفعل آليات الدفاع، نمو الثقة السياسية وتبرير النظام الاجتماعي، نفس الالتفاف حول الراية وتجاهل المسؤولية الأخلاقية من خلال نزع الصفة الإنسانية، ("هؤلاء حكام مجانين لدول أخرى")، وتحميل المسؤولية ("هم أنفسهم المسؤولون")، وتجاهل المسؤولية ("ما شأننا بهذا، نحن لم نتخذ القرار؟").
وكما تظهر الأبحاث، فإن فكرة "لا يمكننا تغيير أي شيء" شائعة بين مؤيدي العمل العسكري ومعارضيه على حد سواء. هذا الشعور يسمح للمرء بالابتعاد عما يحدث، والبدء في التكيف مع تدهور الأوضاع الاقتصادية، والانطواء على نفسه أكثر في حياته الخاصة، والاختباء من المعلومات المتعلقة بالخسائر البشرية وتدمير المدن الأوكرانية.
إن حال الصراع الدولي، والضغط المتزايد على روسيا من الدول الغربية، وفرض عقوبات جديدة، هي التي أدت، كما حدث قبل ثمانية أعوام، إلى توحد غالبية الشعب حول قيادة البلاد.
أثارت معدلات التأييد المرتفعة لما يسمى "العملية الخاصة" والقيادة الروسية جدلاً حول مدى الثقة التي يمكن وضعها في هذه الشخصيات. يقول منتقدو استطلاعات الرأي إنه في ظل الضغط على المعارضين، وفرض المسؤولية عن تشويه سمعة القوات المسلحة، وغيرها من المعايير القمعية، ازداد الخوف والتردد في المجتمع الروسي.
العامل الاقتصادي لاستمرار الحرب
في عام 2024، شكل الإنفاق العسكري في روسيا نحو 35 في المئة من موازنة الحكومة، وصار قاطرة لتحريك النمو الاقتصادي. ويشهد إنفاق المستهلكين ارتفاعاً حاداً، لا سيما في المناطق المحرومة اقتصادياً، بعيداً من موسكو، حيث تدفقت الأموال من المركز بفضل المجندين الذين يجندهم الكرملين ومعظمهم من هذه المناطق المحرومة.
وتحول جزء كبير من الاقتصاد الصناعي في روسيا أيضاً إلى الصناعات الدفاعية. ويقول المحلل الاقتصادي الألماني جانيس كلوغ، "إذا أراد الكرملين تجنب الانهيار الاقتصادي، فسيتعين عليه مواصلة الإنفاق بالمستويات الحالية لفترة طويلة بعد انتهاء الحرب". ولكن لا توجد أي مؤشرات إلى وجود خطط لدى الكرملين لاستبدال الإنفاق العسكري بأي نوع آخر من التحفيز الحكومي.
ويرى أنه على رغم الصعوبات في إنتاج الإمدادات والذخيرة الكافية لتوفير حاجات خط المواجهة الضخم في أوكرانيا، فإن الاقتصاد الروسي بالشكل الذي يوجد به اليوم لا يمكن أن يستمر من دون شكل من أشكال الحرب.
الحرب وفرص العيش
مشكلة بوتين الداخلية تتجاوز الدوافع الاقتصادية للحرب. فبالنسبة إلى شرائح واسعة من المجتمع الروسي، تمثل الحرب أيضاً حافزاً اجتماعياً وثقافياً. فالمكافآت السخية المدفوعة للمجندين لا تقتصر على كونها رشى لجذب الشباب الروسي إلى الجبهة. فبالنسبة إلى الجنود المتعاقدين، الذين ينحدرون بشكل غير متناسب من مناطق فقيرة ومستويات تعليمية أقل، يمثل القتال في أوكرانيا "رافعة اجتماعية".
في المناطق النائية من روسيا، يتجلى هذا التحول الاجتماعي جلياً في البلدات والمدن الريفية الفقيرة، حيث تفتتح مرافق استهلاكية كالصالات الرياضية والمتاجر والمقاهي. ويملك الأثرياء "محاربو الخدمة العسكرية الخاصة"، الذين نجوا من جبهات القتال وأتموا خدمتهم، وعائلاتهم المال اللازم لعيش نمط حياة لم يكن متاحاً قبل الحرب إلا لمواطنيهم الأثرياء في موسكو وسانت بطرسبورغ.
في العقد الأول من القرن الـ21، بنى بوتين شعبيته على طفرة استهلاكية غذاها ارتفاع أسعار موارد الطاقة من غاز ونفط وفحم عالمياً، حيث نما الناتج المحلي الإجمالي الروسي بنسبة تصل إلى سبعة في المئة سنوياً. والآن، عادت هذه الطفرة، لكنها مدفوعة بالحرب.
إن تدمير كل هذه الآمال الاجتماعية والاقتصادية قد يكون ضاراً بشعبية بوتين تماماً مثل نهاية طفرة النمو السابقة في العقد الأول من القرن الـ21، عندما احتشد الروس الساخطون حول المعارضة السياسية بقيادة بوريس نيمتسوف، وبعد بضعة أعوام، حركة احتجاج بقيادة أليكسي نافالني (قتل كلاهما في ظروف وملابسات غامضة).
لذلك تترد حالياً في روسيا همساً عبارات تقول إن بوتين، الذي يرغب في المقام الأول في الحفاظ على شعبيته وعلى أمنه أيضاً، قد يعتقد أن أخطار إنهاء الحرب أكبر من أخطار استمرارها.
ماذا إذا جفت المدفوعات العسكرية؟
إذا انتهت الحرب ونضبت الموارد العسكرية، فقد يبحث عديد من الروس أيضاً عن فرص أخرى لتغيير مكانتهم في المجتمع. سيشهد المجندون العائدون من أوكرانيا تبدد وعود النظام بتحقيق الذات. وقد تكون هناك أيضاً مجموعة من الشباب الساخطين الذين يشعرون أنهم فاتتهم الفرصة الأخيرة. عندها، من المرجح أن يبحث الشباب الروسي عن بديل.
قد يسعى المحبطون إلى بديل ليبرالي نسبياً للسياسات التي ينتهجها بوتين، على رغم أن الماضي الروسي والسوفياتي يظهر أن الآراء الليبرالية عموماً غير جذابة في سياق الكساد الاجتماعي والاقتصادي الذي يعقب الحرب.
فالجنود العائدون من الحرب السوفياتية الأفغانية والحرب الشيشانية الأولى، كانوا غاضبين من عبث تضحياتهم، ومهمشين من قبل مجتمع تجاوز الحرب بسرعة، لكنهم لم يلجأوا إلى الديمقراطية أو الليبرالية للتعبير عن إحباطهم من الوضع الراهن. بل لجأوا إلى قوى قومية متطرفة أثبتت أنها سامة حتى لمن كانوا في السلطة في الكرملين آنذاك.
حتى الآن، احتوت السلطات الروسية إمكانية تنامي السخط القومي من خلال الظهور بمظهر من يستمع إلى مخاوف اليمين المتطرف من خلال جلسات العلاقات العامة المنظمة مع بوتين، وحملات وسائل التواصل الاجتماعي، واتخاذ إجراءات صارمة سريعة ضد الشخصيات المنفصلة عن الواقع.
لكن على عكس الليبراليين المكممين، سمح للقوميين ببناء قاعدة جماهيرية واسعة على منصات التواصل الاجتماعي، بخاصة "تيليغرام" الذي تتجه السلطات للحد من انتشاره وفاعليته. ولن يكون مستغرباً أن تؤدي العودة المفاجئة لمئات الآلاف من المحاربين والمجندين الساخطين إلى حصول الفصائل القومية على دعم حرج يصعب على دعاة الكرملين ومراقبيه السيطرة عليه.
وفي مثل هذا السيناريو، فإن الوعود الجديدة والشعبية بالرجولة الفردية والجماعية والقوة والسلطة قد تؤدي، إلى مستوى من عدم الاستقرار الداخلي يتجاوز بكثير ضغوط الحرب الدائرة في أوكرانيا.
لكن بوتين خبير متمرس في تاريخ بلاده، وسيكون على دراية تامة بالخطر الذي يفرضه الفراغ الاجتماعي والثقافي الذي ينشأ بعد الحرب.
قد يطلق إنهاء حرب روسيا ضد أوكرانيا بشكل مفاجئ موجة غضب عارمة في أقاليم روسيا. لذلك قد يقترح بوتين ومستشاروه مواصلة الحرب ببطء ولو على جبهات جديدة، عارضين دفعات كبيرة للحفاظ على ازدهار الأقاليم، ومتعهدين بمستقبل أكثر إشراقاً في الأفق.
شباب الأرياف وقود الحرب!
أصبحت حرب روسيا على أوكرانيا، التي تجاوزت عامها الثالث، أحد أهم أحداث القرن الـ21، إذ تسببت في خسائر بشرية فادحة ودمرت النظام العالمي الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية. لكن داخل روسيا نفسها، تتفاوت آثار الحرب. فبينما يكاد بعض المواطنين لا يلاحظون ما يحدث، أو حتى يستفيدوا منه، يدفع آخرون ثمنه من حقوقهم ورفاههم وحياتهم.
لقد نجح سكان موسكو، باستثناء المواطنين النشطين سياسياً وممثلي مجموعات معينة مثل المهاجرين ومجتمع المثليين، إلى حد كبير في الهرب من أسوأ عواقب الحرب، بما في ذلك التعبئة التي فرضتها السلطات.
لكن في المناطق، مثل مدينة بيلغورود الحدودية أو بورياتيا إحدى أفقر مناطق سيبيريا، كان تأثير الحرب أشد وطأة. وتراوح العواقب هنا بين ارتفاع الأجور وفقدان الوظائف، وبين سقوط أعداد كبيرة من القتلى والجرحى.
يشكل سكان المناطق النائية والفقيرة غالبية الجنود الروس في الحرب. بالنسبة إليهم، أصبحت المشاركة في العمليات العسكرية بمثابة "يانصيب": إذا تمكنوا من العودة أحياء، يمكنهم الاعتماد على مكافأة مالية - مذهلة بالمعايير المحلية. رواتب العسكريين أعلى بأضعاف مضاعفة من متوسط الدخل، مما يمكنهم من شراء أول شقة لهم، أو شراء سيارة أفضل، أو السفر إلى الخارج في النهاية.
تلعب الرواتب المرتفعة دوراً رئيساً في تشجيع الرجال من المناطق الفقيرة على الذهاب إلى الجبهة، حيث يصف كثر منهم الخدمة العسكرية بأنها مجرد "عمل".
في الواقع، أصبحت الحرب بمثابة إعادة توزيع ضخمة لأموال صندوق الاحتياط الحكومي لمصلحة المناطق الأكثر فقراً، وذلك على شكل رواتب عسكرية، ودفع تعويضات للقتلى والجرحى، وطلبات لشراء منتجات عسكرية. عام 2024، زادت روسيا الإنفاق الدفاعي بمقدار الربع ليصل إلى 150 مليار دولار. وتقع معظم المصانع العسكرية الروسية في المناطق.
قال كريس ويفر، مؤسس شركة "ماكرو- أدفايزوري" للأبحاث، "أدى الإنفاق الحربي إلى طفرة استهلاكية في جميع أنحاء البلاد، وليس فقط في موسكو. لكن هذا الوضع غير مستدام، فبمجرد التوصل إلى اتفاق سلام، سيتوقف هذا النمو وستتراجع المداخيل بصورة حادة".
التوابيت والجنازات
لكن الحرب لم تجلب لروسيا المال فحسب، بل جلبت معها معاناة أيضاً. وعلى رغم أن القتال يدور في أوكرانيا، فإن آثاره محسوسة داخل الدولة الروسية الشاسعة. ويخفي الكرملين الخسائر، لكن في يناير الماضي، صرح وزير الدفاع الأميركي السابق لويد أوستن بأن روسيا خسرت بالفعل أكثر من 700 ألف قتيل وجريح. وهذا يشكل عبئاً هائلاً على نظام رعاية صحية يعاني أصلاً من نقص مزمن في التمويل. ويسجل أعلى عدد من الوفيات في المناطق العرقية مثل بورياتيا.
في الأشهر الأولى من الحرب، صدمت أكياس الجثث السوداء وتوابيت الجنود التي وصلت إلى البلدات والقرى الصغيرة الرأي العام. والآن، بعد أكثر من ثلاثة أعوام، وصل عدد القتلى الروس إلى عشرات الآلاف، كما تظهر تقديرات وتحقيقات مستقلة لوسائل إعلام أجنبية ومحلية غير حكومية. ومع أن الكرملين أبقى بيانات الضحايا سرية خوفاً من زعزعة الاستقرار الاجتماعي، لم تمنع هذه الإحصاءات الخفية الروس من تلطيف نظرتهم للوفيات الأخيرة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لقد دمرت الحرب أجزاء من روسيا وحرمتها من موارد كان من الممكن تخصيصها للتعليم وغيره من الحاجات الاجتماعية. تتعرض مدينة بيلغورود للقصف بانتظام، وأجزاء من منطقة كورسك المجاورة التي وقعت تحت السيطرة الأوكرانية لبعض الوقت، مما جعل الحرب واقعاً ملموساً بالنسبة إلى عدد قليل في الأقل من الروس. وتتعرض منشآت الطاقة والمنشآت العسكرية في غرب روسيا، من سانت بطرسبورغ إلى كراسنودار، أيضاً لهجمات منتظمة.
وفي المقابل جرى في روسيا تعزيز الدعاية الوطنية أيضاً على جميع المستويات، بخاصة في المدارس، حيث يجري تعليم الأطفال "حب الوطن" وإعدادهم لخدمة الدولة. لكن هذا المزيج المتفجر من الحرب والتلقين والقمع أدى إلى انقسام المجتمع.
في غضون ذلك، وفي ظل تدهور الوضع الديموغرافي، تشدد السلطات القيود على عمليات الإجهاض وتقدم حوافز جديدة لزيادة معدل المواليد. وبناء على إشارات من الكرملين، أقرت أكثر من 12 منطقة روسية قوانين في الأشهر الأخيرة تحظر "الإجهاض القسري".
التجنيد على قدم وساق
تستند خطة ودعاية التجنيد المنتشرة في لافتات تملأ الشوارع ومنصات وسائل التواصل الاجتماعي والقنوات الرسمية، إلى مقولة تعلن أن روسيا تخوض حرباً شاملة منذ ثلاثة أعوام ضد الغرب الجماعي الذي وضع نصب عينيه هدف إلحاق هزيمة استراتيجية بها، لذلك هناك بطبيعة الحال حاجة إلى "موارد" جديدة.
في الواقع، تستخدم السلطات أشكالاً مختلفة من الضغط على المجندين المحتملين منها، الإقناع والرشوة، كما يجند المجندون كمتعاقدين أو يخدعون لتوقيع عقود. تحتاج الدولة إلى موارد جديدة، وتضحيات جديدة. يساقون في اتجاهات مختلفة. يؤخذون أشخاصاً لم يعودوا صغاراً جداً، لكنهم يعانون مشكلات مادية واجتماعية، ويغرونهم لتوقيع عقود، وتشترى حياتهم. ينقل الشباب تدريجاً من خلال التجنيد إلى عقود تحت التهديد، ثم ينتهي بهم الأمر جميعاً في "هجمات اللحوم"، وينتهي بهم الأمر جميعاً كجزء من جيش يجري إعداده للقتال ليس فقط على الجبهة الأوكرانية. تحتاج السلطات الروسية إلى تجديد هذا الجيش باستمرار، لأن الخسائر فادحة جداً، والحرب لا تتوقف، على رغم كل الحديث عن المفاوضات. لذا، سيستمر كل هذا وسيزداد سوءاً.
لا يفهم الروس حقاً العلاقة السببية بين الحرب مع أوكرانيا وحملة التجنيد الإجباري المستمرة والمتزايدة. يفكر من خدموا بالفعل: دعوا الآخرين يعانون أيضاً. أعتقد أنه باستثناء المجندين أنفسهم وآبائهم وصديقاتهم، فإن غالبية السكان مطمئنين حول هذه الزيادة في التجنيد.
باختصار، يقول عالم الاجتماع، إيغور إيدمان "الآن، إذا دعت السلطات لموجة أخرى جديدة من التعبئة الإلزامية بخاصة في ظل اقتناع السكان بأن البلاد صارت على قاب قوسين أو أدنى من النصر في أوكرانيا، فإن ذلك سيؤثر بصورة كبيرة على النظام واستقراره وهيبته. ويبدو أن هذا هو سبب عدم سعي بوتين لهذه التعبئة، فهو يفضل استقطاب المجندين، الذين سيجري نقل كثير منهم لاحقاً إلى عسكريين متعاقدين بطرق مختلفة".