ملخص
في خضم سنوات من السجال بين مصر وإثيوبيا حول "سد النهضة"، تبرز أزمة مائية معقدة تتقاطع فيها عوامل الطبيعة والسياسة، حيث أنقذت الفيضانات مصر مؤقتاً من كارثة محققة، بينما تتكبد البلاد كلفة اقتصادية هائلة لتفادي العطش.
أعوام من السجال بين مصر وإثيوبيا في شأن "سد النهضة"، لا يبدو أنها ستنتهي بافتتاحه رسمياً في سبتمبر (أيلول) المقبل، وكان أبرز عناصر الخلاف مدى تضرر مصر من المشروع الضخم على نهر النيل، إذ تتمثل الرؤية الإثيوبية خلال تصريحات رئيس الوزراء آبي أحمد أمام برلمانه في يوليو (تموز) الماضي، في أن السد "لم يتسبب" بأية أضرار لمصر أو السودان، مع حلول العام السادس لملء خزان السد الإثيوبي، بينما تؤكد مصر أنها تضررت بصورة غير مباشرة حتى الآن، وهي الكلفة الكبيرة للمشاريع التي لم تشعر المواطن بالأزمة، فيما أرجع خبراء تجنب الضرر الأكبر إلى "القدر" باعتبار أن أعوام الملء الأول صادفت سنوات من ارتفاع مستوى فيضان النهر.
وتركز 97 في المئة من موارد مصر المائية في نهر النيل وثبات حصة القاهرة من النهر عند 55.5 مليار متر مكعب منذ نحو 70 عاماً، في مقابل الزيادة السكانية المطّردة مع وصول السكان إلى 108 ملايين نسمة، خلقا واقعاً من العجز المائي الشديد، يبلغ الآن أقل من 50 في المئة من حاجات مصر المائية، إذ تحتاج مصر سنوياً إلى 114 مليار متر مكعب بينما لا تتجاوز الموارد السنوية 60 مليار متر مكعب.
ارتفاع الفيضان
هذه العوامل ضاعفت من خطورة "سد النهضة" الإثيوبي على الأمن المائي في مصر، إذ إنه ذو "تأثير كارثي" في إمدادات المياه، وفق وصف موقع الهيئة العامة للاستعلامات التابعة لرئاسة الجمهورية المصرية الذي توقع في تقرير صدر عام 2022 أن تستمر فترة ملء خزان السد 6 سنوات، وأن يصاحبها عجز في إنتاج الطاقة المائية في مصر، فضلاً عن انخفاض مستوى "بحيرة ناصر" إلى نحو 15 متراً، إضافة إلى حدوث فترات جفاف وتدهور في نوعية المياه.
لكن مع مجيء الفيضان السادس حالياً لملء الخزان، لا تبدو صورة الوضع المائي قاتمة كالمتوقع، بفضل "الصدفة وحدها" التي أنقذت مصر من تداعيات خطرة، بحسب أستاذ الموارد المائية والأراضي في كلية الزراعة بجامعة القاهرة نادر نور الدين الذي أوضح أن ارتفاع نسبة الفيضان جنّب مصر تلك التداعيات، وأشار إلى أن ذلك ليس نتاج تخطيط علمي، إذ إن إثيوبيا تحدد كميات التخزين سنوياً وتعمل على تعلية الممر الأوسط للسد في كل عام قبل بدء موسم الأمطار، مؤكداً أن أديس أبابا كانت ستملأ السد بالمعدلات نفسها سواء كان الفيضان مرتفعاً أو منخفضاً، بل إنها كانت تتمنى أن يكون الفيضان منخفضاً لكي تنقص المياه في "بحيرة ناصر" المصرية، بالتالي تتحكم إثيوبيا في مقدرات مصر المائية.
وقال نور الدين لـ"اندبندنت عربية" إن ادعاء إثيوبيا بعدم الإضرار بمصر "أمر غير صحيح" لأن ما حدث لم يكُن نتيجة تخطيط أو مراعاة لشركائها في حوض النيل إنما "عامل قدري خارج عن إرادة إثيوبيا".
وأضاف أن دورة نهر النيل تمتد 20 عاماً، تتوزع بين سنوات جفاف ورخاء وأخرى متوسطة، مشيراً إلى أن السنوات الخمس الماضية جاءت جميعها ضمن سنوات الفيضان العالي، مما ساعد في امتلاء بحيرتي السدين الإثيوبي والمصري معاً.
ووصف السد العالي بأنه قام بدور المنقذ لمصر، بحيث يُعتمد على مخزون بحيرته (بحيرة ناصر) لتغطية الحاجات السنوية ثم تعويضها مع الفيضان الجديد. لكنه حذر من أن طبيعة النهر تغيرت، إذ لم يعُد هناك فيضان موسمي كما اعتادت مصر، بل تدفق يومي تحدده إدارة "سد النهضة" وتشغيل توربيناته.
السد العالي أنقذ مصر
"بحيرة ناصر" أو "بحيرة السد العالي" هي أكبر بحيرة صناعية في العالم، تقع في جنوب مصر وشمال السودان. واسم "بحيرة ناصر" يطلق على الجزء الأكبر الذي يقع داخل حدود مصر، ويمثل 83 في المئة من المساحة الكلية للبحيرة، أما الجزء الباقي الواقع داخل حدود السودان فيطلق عليه اسم "بحيرة النوبة" التي تكونت نتيجة المياه المتجمعة خلف السد العالي بعد إنشائه (الذي استمر من عام 1958 إلى عام 1970)، وأطلق عليها "بحيرة ناصر" نسبة إلى الرئيس الراحل جمال عبدالناصر.
وبحسب تصميم السد العالي، يكون أقصى منسوب للمياه المحجوزة أمامه 183 متراً، إذ تبلغ سعة البحيرة التخزينية عند هذا المنسوب 169 مليار متر مكعب.
ويستخدم السد العالي في توليد 7.2 في المئة من إجمال الطاقة الكهربية في مصر، وبحسب تصريحات صحافية لرئيس شركة المحطات المائية لتوليد الكهرباء هشام كمال العام الماضي، فإن توليد الطاقة من السد العالي لم يتأثر بالإجراءات الإثيوبية.
وبحسب نور الدين، سيظل السد العالي قادراً على توليد الكهرباء ما دام أن منسوب "بحيرة ناصر" يحافظ على حدود آمنة، لكن في حال انخفاضه بصورة كبيرة قد تتراجع قدرته كأحد أهم مصادر الطاقة في مصر. وأشار إلى أن تشغيل كامل التوربينات الإثيوبية سيضمن وصول حصة كافية من مياه النيل الأزرق، أما في حال تشغيل نصفها فقط فستتأثر مصر لغياب منافذ أخرى لتمرير المياه.
ويتضمن مخطط "سد النهضة" 13 توربيناً لتوليد 5150 ميغاواط من الكهرباء، بدأ تركيب أولها عام 2022، لكن على رغم مرور ثلاث سنوات جرى تركيب أربعة توربينات فقط، في حين بلغت كمية المياه المحجوزة في بحيرة السد أكثر من 60 مليار متر مكعب من أصل 74 مليار وفق مخطط السد.
لذلك يرى الخبير في مجال المياه ضياء القوصي أن الحديث عن افتتاح سد النهضة في سبتمبر المقبل "مجرد دعاية كاذبة"، وأضاف لـ"اندبندنت عربية" أن تصريحات رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد بأن مصر لم تتأثر بالسد "مضللة"، لافتاً إلى أن قلة درجة التأثر جاء "بفضل فيضانات استثنائية" شهدها النيل خلال أربع سنوات متتالية منذ بدء البناء، فشهد عام 2022 ثاني أعلى فيضان منذ عام 1875، مما دفع مصر إلى فتح "مفيض توشكى" غرب "بحيرة ناصر" لاستيعاب المياه الزائدة. وأكد أن "هذا قدر من الله أنقذ مصر، وليس فضلاً من آبي أحمد"، مشدداً على أن اكتمال التخزين سيؤدي لاحقاً إلى أزمات حقيقية لإثيوبيا نفسها في إدارة الخزان.
كلفة اقتصادية
واستبقت الحكومة المصرية تداعيات السد الإثيوبي على أمنها المائي من خلال مشاريع عدة استهدفت تحلية مياه البحر وإعادة استخدام مياه الصرف، إضافة إلى تقليل نسبة الفاقد من المياه، نجحت في تجنب وجود "أزمة مياه" وفق تصريحات وزير الري المصري هاني سويلم، إلا أن تلك المشاريع تكلفت 500 مليار جنيه في وقت يعاني الاقتصاد المصري أزمة خلال الأعوام الأخيرة.
وموّلت تلك المشاريع في معظمها من قروض خارجية، فعلى سبيل المثال قال الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي عام 2021 إن كلفة محطة معالجة مياه مصرف بحر البقر 160 مليار جنيه، مشيراً إلى أن الحصول على تلك الأموال كان عن طريق قروض من الصناديق العربية بفائدة ميسرة على فترات سداد مريحة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وهذه الإجراءات أسهمت في تفادي أزمة مباشرة للمواطن، إلا أنها كلفت الدولة أعباء اقتصادية جسيمة، وفق أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية بجامعة القاهرة عباس شراقي الذي أوضح أن نحو نصف كمية مياه الري حالياً يجري توفيرها من خلال إعادة استخدام مياه الصرف الزراعي بعد معالجتها.
وقال شراقي لـ"اندبندنت عربية" إن إثيوبيا احتجزت نحو 64 مليار متر مكعب من مياه النيل خلال خمسة أعوام من عمليات الملء المتتالية لسد النهضة، مما انعكس على مصر بتقليص حصتها المائية الطبيعية، مشدداً على أن القول بعدم تضرر مصر من ملء "سد النهضة" "غير دقيق"، ومؤكداً أن السد العالي كان صمام الأمان خلال السنوات الماضية، بحيث وفر الحصة اليومية لمصر على رغم تراجع منسوبه في نهاية كل عام مائي (في يونيو)، مقارنة بفترة ما قبل أول مراحل التخزين في 2020. وانخفض مخزون "بحيرة ناصر" بمقدار 24 مليار متر مكعب إثر الملء الرابع للسد الإثيوبي عام 2023.
لكن خبير المياه ضياء القوصي رأى أن هذه المشاريع كانت ضرورية و"لا بد من اتخاذها سواء بوجود ’سد النهضة‘ أو من دونه"، مشيراً إلى أن مصر كانت تفقد نحو 12 مليار متر مكعب من المياه تصرف في البحر المتوسط سنوياً، لكن بفضل محطات المعالجة أصبح نصف هذه الكمية يعاد تدويره لاستخدامه في الزراعة.
مشاريع التحلية
جانب آخر من التداعيات الاقتصادية للسد الإثيوبي أشار إليه الخبير في مجال مشاريع المياه أحمد فوزي دياب الذي اعتبر أن الأزمة المائية التي تعيشها مصر حالياً تقف وراءها إثيوبيا و"من يقف خلفها"، إذ قال "أجرينا إعادة صياغة للغطاء النباتي ونظم الري داخل مصر، مما أدى إلى تقليص بعض المحاصيل مثل الرز وتكبد كلف عالية في نظم الزراعة والري الحديثة، وانعكس على الإنتاج والتصدير والثروة الغذائية".
ووصف مزاعم إثيوبيا بعدم تأثر مصر بـ"سد النهضة" خلال الأعوام الخمسة الماضية بـ"قول صحيح يراد به باطل"، موضحاً لـ"اندبندنت عربية" أن غياب التأثير المباشر لم يكُن بفضل أديس أبابا، بل نتيجة التغيرات المناخية العالمية التي رفعت منسوب الفيضانات، إضافة إلى الإجراءات الترشيدية التي اتخذتها القاهرة.
وشرح أن مصر تحتاج فعلياً إلى نحو 120 مليار متر مكعب من المياه سنوياً، بينما لا يتوافر لديها سوى 55.5 مليار من نهر النيل و6 مليارات من المياه الجوفية، مما يفرض الاعتماد على إعادة استخدام مياه الصرف الزراعي، على رغم ما تحمله من ملوثات معدنية تتطلب معالجة باهظة الكلفة.
وأشار دياب إلى أن هذه المشاريع على رغم أهميتها، لا تسد الفجوة المائية بالكامل، إذ لا تزال مصر بحاجة إلى 40 مليار متر مكعب إضافية في الأقل لتلبية حاجاتها الزراعية وضمان أمنها الغذائي.
تقليص مساحة الرز
وبدأت مصر منذ عام 2018 تقلص مساحات زراعة الرز، رغبة منها في الحد من كميات المياه المستهلكة مع الموارد المائية المحدودة وأزمة "سد النهضة" الإثيوبي، إذ انخفضت مساحة الزراعة من 1.1 مليون فدان عام 2017 إلى 725 ألفاً العام الحالي.
وينص قانون الموارد المائية والري الصادر عام 2021 على الحبس ستة أشهر وغرامة لا تقل عن 3 آلاف جنيه (61.75 دولار)، ولا تزيد على 10 آلاف جنيه (205.85 دولار) عن كل فدان رز في المناطق حيث تحظر زراعته، أو بإحدى العقوبتين.
وللدلالة على التأثير الاقتصادي لتقليص مساحات الرز، يمكن الإشارة إلى أن قيمة صادرات الرز عام 2009 بلغت 469 مليون دولار، وفق ورقة بحثية نشرت في المجلة المصرية للاقتصاد الزراعي في مارس (آذار) 2017، بينما منع التصدير في كل الأعوام تقريباً منذ 2015.
وأقر رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي خلال مؤتمر صحافي العام الماضي بتحمل بلاده كلفة كبيرة جداً من "المشاريع الضخمة" لتلافي تأثير ضار جراء السد الإثيوبي. ووضعت الحكومة خطة استراتيجية لإدارة الموارد المائية حتى عام 2037 بكلفة مبدئية نحو 50 مليار دولار قابلة للزيادة.
وتطبق مصر سياسات ترشيد المياه، بخاصة في الزراعة التي تستهلك 80 في المئة من الموارد المائية، وتشمل هذه السياسات استبدال الري بالغمر بالري بالتنقيط أو الرذاذ لتقليل الفاقد، إضافة إلى تغطية الترع والمصارف بمواسير لتقليل التبخر بكلفة تصل إلى 80 مليار جنيه.
ولا يعني ملء بحيرة "سد النهضة" بحجمها الضخم (74 مليار متر مكعب من المياه) انتهاء الخلافات بين دولتي المنبع والمصب، إذ سيكون على إثيوبيا تفريغ المياه تدريجاً لتشغيل توربينات توليد الكهرباء، ولإتاحة المجال أمام مياه الفيضان خلال أمطار الصيف سنوياً، فالمراحل المقبلة من تفريغ وملء السد تعني تقلص حصة مصر من مياه النيل 10 إلى 15 مليار متر مكعب وأن تفقد مصر ما يقارب 18 في المئة من أراضيها الزراعية، بما يعادل مليون و800 ألف فدان زراعي من أصل 10 ملايين فدان، وفق دراسة نشرها مركز "دراية" للدراسات والأبحاث.
ومن المقرر افتتاح إثيوبيا سدها الضخم على النيل الأزرق الشهر المقبل، فيما لا تزال مصر تتمسك برفض أية "إجراءات أحادية"، ووجهت أديس أبابا دعوة إلى القاهرة والخرطوم لحضور حفل افتتاح السد، رد عليها وزير المصري بدر عبدالعاطي بأنها "عبث"، بحسب تصريح لصحيفة محلية.
وتوقفت المفاوضات بين مصر والسودان وإثيوبيا منذ ديسمبر (كانون الثاني) 2023، بسبب "استمرار المواقف الإثيوبية الرافضة عبر الأعوام الماضية الأخذ بأي من الحلول الفنية والقانونية الوسط التي من شأنها تأمين مصالح الدول الثلاث" وفق رواية القاهرة، في حين اتهمت إثيوبيا مصر بأنها لا تزال تتبنى عقلية الحقبة الاستعمارية وتضع عراقيل أمام جهود التقارب، وأكدت الخارجية الإثيوبية استعداد أديس أبابا للتوصل إلى تسوية ودية وتفاوضية تلبي مصالح الدول الثلاث وتتطلع إلى استئناف المحادثات.