ملخص
وفقاً لوزارة المالية الفرنسية فإن يومي عمل إضافيين يعادلان نحو 0.5 في المئة من النمو الإضافي سنوياً، في المقابل تشير تقديرات مؤسسة الإحصاء الوطنية الفرنسية إلى أن يوم عطلة غير عمل يكلف نحو 1.5 مليار يورو (1.75 مليار دولار) ويعادل خسارة بنسبة 0.06 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لأن هذه الأيام تحفز الاستهلاك أيضاً، لا سيما في قطاعات السياحة والفنادق والمطاعم وتجارة التجزئة، حيث تشهد نشاطاً مصرفياً ملحوظاً خلال عطلات مايو.
في إطار مساعيها إلى الحد من العجز المزمن في موازنة الدولة تبحث الحكومة الفرنسية عن حلول وإجراءات عملية تهدف إلى ضبط الإنفاق وسط نقاشات عامة واسعة حول مدى جدوى هذه الخطوات وتأثيرها الاجتماعي والاقتصادي.
وفي هذا السياق أكد رئيس الوزراء فرنسوا بايرو أن المفاوضات الجارية في شأن إلغاء عطلتين وطنيتين يجب أن تنتهي بحلول الـ30 من سبتمبر (أيلول) باعتبارها أحد الخيارات المطروحة لتعزيز الإنتاجية.
يشار إلى أن فرنسا سجلت العام الماضي عجزاً في الموازنة بلغ 5,8 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، أي ما يقارب ضعف الحد الأقصى الذي حدده الاتحاد الأوروبي عند ثلاثة في المئة، إذ حالت الأزمة السياسية دون تمكن أربع حكومات متعاقبة من معالجة التراجع غير المتوقع في الإيرادات الضريبية والزيادة في الإنفاق للعام الثاني على التوالي.
تجاوز الاقتصاد إلى السياسة
أكد المحلل السياسي طارق وهبي أن تصريح وزير العدل الفرنسي فرنسوا بايرو حول ضرورة حسم المفاوضات المتعلقة بإلغاء عطلتين رسميتين قبل الـ30 من سبتمبر يندرج في صلب النقاش البرلماني الخاص بالموازنة العامة.
وأوضح وهبي أن هذه الخطوة ليست جديدة على الساحة الفرنسية، إذ سبق لحكومة سابقة أن ألغت يومين من جدول العطل الرسمية، غير أنه شدد على أن هذا الملف يبقى "تفصيلاً صغيراً" في إطار الموازنة، مشيراً إلى أن الحكومة مطالبة بتقديم تصور مالي واضح حول المكاسب الحقيقية من هذا الإلغاء، وقال "قد يتحقق قدر من الإنتاجية، لكن ليس بالمستوى الذي تراهن عليه الحكومة".
وأضاف وهبي أن خلفية هذا الاقتراح تكشف عن توجه سياسي جديد يسعى إلى تقليص عدد أيام العطل في فرنسا، بدعوى تعزيز الناتج المحلي، لكنه لفت إلى أن شهر سبتمبر سيكون "شديد السخونة" مع اعتراض واسع من النقابات العمالية، التي لا ترفض زيادة الإنتاجية من حيث المبدأ، لكنها ترى أن الأعباء ستقع بصورة مباشرة على العمال أكثر من أصحاب الشركات الذين يتلقون دعماً حكومياً لتقوية الإنتاج.
وأشار المحلل السياسي إلى وجود تيار داخل الإدارة العامة الفرنسية يعمل منذ سنوات على تقليص الإجازات لمصلحة زيادة الإنتاج، وذكر بأن تجربة سابقة أظهرت بعض التحسن حين ألغت الحكومة يومين من العطل الرسمية، لكنه حذر من أن النقاش الحالي قد يتطور إلى أزمة سياسية أوسع، قائلاً "الإشكالية اليوم قد تصل إلى طرح الثقة بالحكومة، بخاصة من قبل اليمين المتطرف واليسار الراديكالي".
اختبار حقيقي
وفي ما يتعلق بالبعد السياسي أكد وهبي أن الرئيس إيمانويل ماكرون أوضح أن الوقت يضيق وأن الموازنة يجب أن تمرر، معتبراً أن شهر سبتمبر سيكون بمثابة "اختبار حقيقي لرئيس الحكومة، وربما يشكل بداية النهاية لمسيرته على رأس السلطة التنفيذية".
وختم وهبي بالقول "لا نستبعد أن يقود هذا الوضع إلى انتخابات نيابية جديدة، خصوصاً أن الرئيس يملك صلاحية حل البرلمان والدعوة لانتخابات مبكرة، حتى وإن كانت ولايته مستمرة حتى 2027، بالتالي فإن المسألة ليست مجرد إجازتين رسميتين، بل ترتبط بتوازنات سياسية دقيقة داخل قصر الإليزيه".
وفي ما يخص التداعيات الاقتصادية المتوقعة على فرنسا في حال إلغاء عطلتين وطنيتين أوضح المحلل السياسي نبيل شوفان أن الخطوة تأتي ضمن حزمة من الإجراءات الحكومية الرامية إلى خفض العجز المالي المقدر بنحو 43.8 مليار يورو (51.24 مليار دولار) العام المقبل والحد من المديونية العامة.
وبحسب شوفان فإن إلغاء يومين عطلة يمكن أن يدر على خزانة الدولة ما يقارب 4.2 مليار يورو (4.9 مليار دولار) سنوياً، بفضل زيادة الإنتاج وتحفيز الإيرادات الضريبية مثل ضريبة القيمة المضافة والاشتراكات الاجتماعية.
ووفقاً لوزارة المالية الفرنسية، فإن يومي عمل إضافيين يعادلان نحو 0.5 في المئة من النمو الإضافي سنوياً، مع الأخذ في الاعتبار أن السنة تتكون من 365 يوماً. في المقابل تشير تقديرات مؤسسة الإحصاء الوطنية الفرنسية أن يوم عطلة غير عمل يكلف نحو 1.5 مليار يورو (1.75 مليار دولار) ويعادل خسارة بنسبة 0.06 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لأن هذه الأيام تحفز الاستهلاك أيضاً، لا سيما في قطاعات السياحة والفنادق والمطاعم وتجارة التجزئة، حيث تشهد نشاطاً مصرفياً ملحوظاً خلال عطلات مايو.
يوضح شوفان أن بعض الخبراء ينظرون إلى الفكرة من زاوية حسابية بحتة، إذ يعادل إلغاء يومي عطلة يومين إضافيين من العمل على المستوى الوطني، ويرى فريق من الخبراء أن المنطق بسيط "كلما عملنا أكثر زاد الإنتاج"، بشرط أن تنتظم مختلف القطاعات الاقتصادية في العملية، وفي هذه الحالة وفق قول شوفان، لا تظهر الوفورات مباشرة في الموازنة العامة، بل من خلال تنشيط الاقتصاد الذي ينعكس تلقائياً على زيادة الإيرادات الضريبية، لا سيما ضريبة القيمة المضافة وضريبة الشركات والاشتراكات الاجتماعية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويتابع شوفان أن الفكرة الثالثة التي يعبر عنها رئيس الوزراء فرنسوا بايرو نفسه فهو يصف شهر مايو بـ"الشهر المليء بالعطلات كقطعة جبن سويسرية"، أي إن تركز العطلات الرسمية في هذه الفترة يحول العطلات إلى "جسور عطلات"، مما يؤدي إلى تباطؤ الاقتصاد، بالتالي لا تريد فرسا أن توفر في نفقاتها وحسب، بل تحاول زيادة إيراداتها من طريق تقليل الإجازات الجماعية.
وعلى رغم ما سبق يؤكد شوفان أن عدداً من التحليلات تشدد على أن المكاسب المتوقعة من إلغاء العطلات قد تكون محدودة للغاية على المدى المتوسط، إذ تميل الشركات إلى التكيف مع الوضع القائم ولا ينعكس ذلك دائماً على زيادة الإنتاج على المدى الطويل، ويستشهد في هذا السياق بتجربتين سابقتين في كل من البرتغال والدنمارك، لم تسفرا إلا عن نمو هامشي، وأحياناً منعدم.
ففي البرتغال، التي ألغت أربع عطلات رسمية عام 2012، اضطرت الحكومة إلى التراجع عن القرار بعد أربع سنوات، لغياب النتائج الاقتصادية المرجوة، إذ لم يسجل النمو أي تحسن ملحوظ، فيما قوبل الإجراء باستياء شعبي واسع، أما في الدنمارك، فبعد إلغاء "يوم الصلاة الكبير" عام 2023، لم تسجل الحكومة أي انتعاش واضح في الناتج المحلي الإجمالي، إذ تكيف الاقتصاد ببساطة مع القرار من دون آثار مباشرة ملموسة.
عند سؤاله عما إذا كان إلغاء عطلتين وطنيتين قد يرفع الإنتاجية بالنسبة ذاتها التي حققتها إصلاحات 2016، يفصل شوفان بالقول إن ذلك الإصلاح استهدف مرونة أكبر لسوق العمل وتحفيز التوظيف، لكن أثره في الإنتاجية لا يزال محل نقاش، كما يستشهد بتجارب دولية تظهر أن إلغاء العطل غالباً ما يحقق نتائج محدودة، مستبعداً أن تكون مكاسبه مماثلة لإصلاحات 2016، بخاصة أن هذه كانت تهدف إلى إحداث تغييرات هيكلية عميقة ودائمة في لوائح العمل، ومع ذلك يذكر بأن المكاسب الإنتاجية آنذاك كانت بطيئة وتوقفت مع جائحة كورونا.
وفي السياق ذاته يعقب المتحدث بأن قانون 2016 صمم لتحسين بيئة العمل وتعزيز مردودية الموظف، بينما الطرح الحالي يفرض يومين إضافيين بلا مقابل، وهو ما يراه متناقضاً، بخاصة في ظل تراجع القدرة الشرائية للعمال بنحو اثنين في المئة منذ أزمة الطاقة مقابل سباق مستمر بين الأجور والتضخم.
ردود الفعل
وحول ردود الفعل الشعبية والنقابية على القرار يصرح شوفان بأن الإجراء يواجه معارضة قوية، ولا سيما من النقابات التي بدأت بالفعل استعداداتها للتعبئة مع مطلع سبتمبر، كما يبرز رفضاً شديداً داخل قطاع السياحة، خصوصاً الفنادق والمطاعم، التي قد تخسر ما يصل إلى 25 في المئة من إيراداتها خلال هذه الأيام التي تعد تقليدياً موسماً مربحاً لها.
ويرجح شوفان أن تضطر حكومة فرنسوا بايرو إلى فتح قنوات حوار مع النقابات وأرباب العمل وسائر الشركاء الاجتماعيين، بل وربما تقديم تعويضات مخصصة لبعض القطاعات الأكثر تضرراً، وفي مقدمها قطاع السياحة.
كذلك سيكون أمام بايرو مهمة عصيبة بمحاولة الحصول على غالبية في الجمعية الوطنية لتمرير القانون أو اللجوء في النهاية إلى المادة 49.3 من الدستور لاعتماد الإجراء دون تصويت برلماني، خصوصاً أن رئيس الحكومة يعتبر أن الدولة كانت سخية للغاية في المساعدات خلال الأزمة الصحية وجائحة كورونا، بالتالي استرداد جزء مما قدم أمر يجب تحمله.
وعن الأثر المحتمل للقرار على شعبية الحكومة الفرنسية يوضح شوفان أن كثيراً من المواطنين يرونه بمثابة "زيادة ضريبية غير معلنة" في إشارة إلى "يوم التضامن" الذي سبق أن فرضته الحكومة على الموظفين، ويستشهد في هذا السياق برأي المتخصص الاقتصادي إيريك هير، الذي يؤكد أن شريحة واسعة من الفرنسيين باتت تبدي غضباً متزايداً تجاه الطبقة السياسية، مطالبة إياها بخفض نفقاتها ورواتبها وتقليص نمط حياتها.
في المقابل يشير شوفان إلى أن هناك فئة أخرى من المواطنين مستعدة للمساهمة في الجهد المالي المطلوب، وهؤلاء يرون أن فرنسا بلغت بالفعل أقصى طاقتها، وأن المرحلة المقبلة ستتطلب من الجميع المشاركة في تحمل الأعباء.
ويتابع شوفان قائلاً إن وصول شعبية رئيس الوزراء إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق إلى جانب تشديد شروط الحصول على إعانات البطالة وصعوبة تمرير إصلاح نظام التقاعد، إضافة إلى "يوم التضامن" المفروض مسبقاً على الموظفين، يجعل الإجراء الجديد المتمثل في إلغاء عطلتين رسميتين للمساعدة في سداد الدين يبدو أكثر من اللازم، إذ يشير استطلاع معهد "إيلاب" إلى أن نحو 75 في المئة من الفرنسيين يعارضون هذا الإجراء بينهم.
إغلاق وطني
ويعكس هذا الموقف تصاعد الدعوات، خصوصاً من قبل اليمين المتطرف، لتنظيم ما يشبه "إغلاقاً وطنياً" في الـ10 من سبتمبر المقبل احتجاجاً على خطة التقشف الحكومية البالغة قيمتها 44 مليار يورو (51.48 مليار دولار)، والتي تشمل إلغاء العطلتين الرسميتين.
ويضيف شوفان أن الاحتمال قائم لتقديم اقتراح بحجب الثقة أو اندلاع أزمات سياسية جديدة، كما حدث خلال الإصلاحات السابقة، لا سيما بعدما أطلق اليسار واليمين المتطرف انتقادات لاذعة وتوعدا بحجب الثقة عن الحكومة، وفي هذا السياق يوضح أن حزب التجمع الوطني اليميني المتشدد يمتلك الكتلة الأكبر في الجمعية الوطنية، لكن أي خطوة نحو حجب الثقة تمثل مغامرة سياسية كبرى قد تدفع رئيس الجمهورية إلى حل البرلمان.
ولفت المتحدث أيضاً إلى أن عدداً من النواب الاشتراكيين ينددون بإلغاء هذه العطلات الرسمية في موازنة العام المقبل، التي يقترب موعد مناقشتها في البرلمان، مما يشي بخريف سياسي ساخن في فرنسا وخطر تكرار سيناريو حكومة ميشيل بارنييه.
في الختام يتضح أن إلغاء العطلتين الرسميتين في فرنسا ليس مجرد مسألة اقتصادية بحتة، بل قضية سياسية واجتماعية معقدة تتداخل فيها الحسابات المالية مع الاحتجاجات الشعبية والنقابية والتوازنات السياسية الداخلية في قصر الإليزيه.
وبينما تسعى الحكومة إلى تعزيز الإنتاجية وخفض العجز، تشير التجارب السابقة والدراسات الاقتصادية إلى أن المكاسب المحتملة قد تكون محدودة، وأن ردود الفعل الشعبية السلبية قد تزيد من التحديات السياسية أمام رئيس الوزراء، بالتالي يبدو أن هذا الملف سيشكل اختباراً حقيقياً لقدرة الحكومة على الموازنة بين الضرورات الاقتصادية والحساسيات الاجتماعية مع احتمالية تحوله إلى صراع سياسي أوسع خلال الأشهر المقبلة.