Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

نظرات ذاهلة تجأر بالصراخ... نازحو السودان الصامتون

انتشار حالات اضطراب ما بعد الصدمة والاكتئاب بمعظم مراكز الإيواء في غياب الدعم النفسي

هنا يجلس الناس صامتين وكأنهم يراقبون حياتهم من الخارج (اندبندنت عربية - حسن حامد)

ملخص

نزح أكثر من 12 مليون شخص، بينهم 7.7 مليون داخل البلاد، في أكبر أزمة نزوح داخلي عالمياً، ففي مخيمات مثل "زمزم" في دارفور، يتضاعف الاكتظاظ وتغيب الخصوصية مع ندرة الخدمات النفسية، مما يترك النازحين في حال تجمد منذ اللحظة الأولى، إذ يتحول الصمت إلى وسيلة وحيدة لتحمل اليأس.

منذ اندلاع الحرب في السودان بين الجيش وقوات "الدعم السريع" قبل 28 شهراً، يواجه ملايين النازحين تحديات نفسية عميقة تتجاوز فقدان المأوى والغذاء، إذ كشفت تقارير ميدانية عن انتشار كثير من حالات اضطراب ما بعد الصدمة والاكتئاب وسط النازحين بمعظم مراكز الإيواء، في ظل غياب شبه تام لخدمات الدعم النفسي.

ونزح أكثر من 12 مليون شخص، بينهم 7.7 مليون داخل البلاد، في أكبر أزمة نزوح داخلي عالمياً، ففي مخيمات مثل "زمزم" في دارفور يتضاعف الاكتظاظ وتغيب الخصوصية مع ندرة الخدمات النفسية، مما يترك النازحين في حال تجمد منذ اللحظة الأولى، إذ يتحول الصمت إلى وسيلة وحيدة لتحمل اليأس.

صمت وإنكار

تقول المعالجة النفسية مع فرق الإغاثة في مناطق النزوح بدارفور سحر بدوي "عندما يواجه الإنسان خطراً مباشراً يدخل العقل في حال طوارئ قصوى، إذ تختزل الأولويات إلى النجاة فقط. وفي تلك اللحظة لا يعود الحزن أو الخوف شعوراً منفصلاً، بل يصبح جزءاً من رد فعل جسدي كامل، لذا تتسارع ضربات القلب، ويكون التنفس سطحياً، فضلاً عن توقف القدرة على التفكير المنطقي، وهذا ما نسميه في علم النفس حال التجمد".

 

وزادت بدوي "يظل اليوم الأول للنازح في مركز الإيواء هو الأصعب، إذ يجلس الناس صامتين وكأنهم يراقبون حياتهم من الخارج، حتى الأطفال الذين يفترض أنهم أقل وعياً بالكارثة تجدهم ينظرون بشرود، فالصدمة في هذه المرحلة ليست واضحة عبر الصراخ أو البكاء، بل تكمن في الصمت العميق الذي يلف المكان".

وعن أثر فقدان البيت والأحبة على النازح توضح "الفقد في ظل هذه الظروف مركب، فبعضهم يخسر البيت والممتلكات وربما الجيران أو الأقارب في وقت واحد، بالتالي فإن الدماغ لا يستطيع معالجة هذا الكم من الخسارات فجأة، فيبدأ بعملية إنكار موقتة أشبه بآلية تأجيل الألم، لكن هذه المشاعر لا تختفي، بل تتراكم وتظهر لاحقاً على شكل كوابيس ونوبات هلع، أو انسحاب من الحياة الاجتماعية".

قلق مزمن

تشير الباحثة الاجتماعية ليلى عبدالرحمن، التي عملت في ولايتي الجزيرة ودارفور، إلى أن "القلق المزمن هنا ليس مجرد إحساس عابر، بل حال مستمرة، فالنازح يعيش في مكان لا يعرف مدته، ويستيقظ كل صباح من دون خطة واضحة، إذ يعتمد بالكامل على المساعدات، لذا فإن مثل هذا الشعور بالعجز عن السيطرة على مصيره يخلق ضغطاً نفسياً مضاعفاً". وتابعت "النساء أكثر عرضة للقلق بسبب المسؤولية المزدوجة المتمثلة في حماية الأطفال وتدبير الحياة اليومية في ظروف شبه مستحيلة. أما الأطفال فيظهر القلق لديهم في صورة انعزال واضطرابات نوم أو سلوكيات عدوانية، حتى اللعب الذي يفترض أن يكون مساحة للتفريغ يتحول أحياناً إلى وسيلة للتنفيس عن التوتر".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وواصلت الباحثة الاجتماعية "داخل الغرفة التي يسكنها أكثر من 20 شخصاً، يكفي أن يبكي طفل في منتصف الليل حتى يستيقظ الجميع. لا يوجد وقت شخصي ولا مساحة شخصية، فالنساء يتبادلن نصائح حول كيفية حفظ بعض الطعام بعيداً من الرطوبة، أو كيفية إيجاد ركن صغير للجلوس في صمت، أما الرجال فيخرجون غالب الوقت بحثاً عن عمل موقت، لكنهم يعودون غالباً بلا نتيجة، مما يزيد من إحساسهم بالعجز".

عزلة مكثفة

في السياق ذاته قالت سعاد القاضي، وهي متخصصة اجتماعية عملت في شمال دارفور على ملفات الصحة النفسية للنازحين "في بيئة النزوح تزداد حالات الانتحار أو التفكير فيه بصورة ملحوظة من دون أن توثق، وبحسب دراسات عالمية في بيئات تضم لاجئين فإن نسبة الأفكار الانتحارية تصل إلى نحو 20.5 في المئة مع شعور بالعبء النفسي، في حين تبلغ نسبة محاولات الانتحار نحو 0.6 في المئة فحسب، لكنها ذات دلالة عالية". وأردفت "في واقع السودان، ليس لدينا دراسات ميدانية منشورة، لكن من خلال مراقبتي الميدانية فإن المعدل مماثل أو أعلى في المخيمات المكتظة، بخاصة في ظل غياب الرصد الرسمي، فمثلاً نجد أن نحو 15 في المئة من مراجعي العيادات النفسية أبلغوا عن أفكار انتحارية، وثلاثة إلى أربعة في المئة مروا بمحاولة انتحار فعلية سواء مكتملة أو فاشلة قبل الوصول إلى المستشفى. أما الجانب الأصعب فهو أن معظم هذه المحاولات لا تبلغ للسلطات، وغالباً ينقل الشخص في السر إلى مستشفى خارجي، أو تتكتم الأسرة منعاً للوصمة الاجتماعية، وغالباً لا تظهر هذه العمليات في سجلات المراكز، ولا يدرجها أي تقرير رسمي". ومضت في القول "في مراكز الإيواء لا توجد فرق نفسية متخصصة، والأولويات تتجه لتوفير الطعام والمأوى والرعاية الصحية الجسدية، لذا يحدث سقوط الحال النفسية تحت الرادار، فالمؤشرات التحذيرية غالباً واضحة، ومن أهمها العزلة المكثفة وفقدان الشهية والنوم المفرط أو اختفاء النوم تماماً، مع الانسحاب من الأنشطة الاجتماعية، لكن في غياب من يتابع بوعي تصنف هذه المؤشرات كآثار طبيعية للنزوح، ولا يتم التدخل إلا إذا تفاقم الوضع".

جراح مدفونة

في معظم مراكز الإيواء بالسودان يظل الدعم النفسي ترفاً بعيد المنال، إذ تكون الأولوية منصبة لجهود الإغاثة المتمثلة في توفير الغذاء والماء والمأوى، بينما يبقى الجانب النفسي في الهامش.

 

عبدالله خالد مسؤول ميداني في منظمة إنسانية محلية، يوضح الصورة قائلاً "هناك محاولات لتقديم دعم نفسي لمراكز الإيواء، لكنها متقطعة وغير منظمة، فبعض الفرق التابعة للمنظمات الدولية، مثل الـUNHCR أو (أطباء بلا حدود) تنظم جلسات فردية أو جماعية، لكنها لا تغطي كل المراكز، وفي بعض الولايات لم يصل أي فريق متخصص منذ بداية النزاع".

وأضاف خالد "المراكز التي تحظى بوجود دعم نفسي، ولو محدود، تظهر فرقاً واضحاً في الجو العام، إذ نجد الأطفال يشاركون في أنشطة ترفيهية، والنساء لديهن مساحات للبوح، والرجال يجدون من يوجههم إلى كيفية التعامل مع الضغط النفسي. في المقابل، تعاني المراكز التي تفتقر إلى هذا الدعم توتراً دائماً ومشكلات متفاقمة بين النازحين".

واستطرد المسؤول الميداني "في مركز (أ) بولاية الجزيرة، زارت فرق دعم نفسي المخيم ثلاث مرات خلال العام، وأقامت ورشاً فنية للأطفال، وجلسات استماع للنساء. أما مركز (ب) في شمال دارفور فلم يستقبل أي فريق متخصص منذ افتتاحه، مما جعل التعامل مع الحالات النفسية يتم بشكل فردي وغير احترافي، وغالباً عبر نصائح من متطوعين غير مدربين، ومع غياب إستراتيجية وطنية أو تنسيق شامل يظل الصمت هو العلاج الوحيد المتاح لآلاف النازحين، إذ تدفن الجروح النفسية تحت ثقل البقاء اليومي بلا أفق للتعافي".

اقرأ المزيد

المزيد من متابعات