Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"الذراري الحمر"يصور بقسوة ذاكرة العنف في تونس

رأس الفتى المقطوع على يد جماعة إرهابية جعل من صدمة الجمهور أداة سينمائية

جو الرعب في الفيلم التونسي "الذراري الحمر" (مل فالفيمل)

ملخص

 حملَ فيلم "الذراري الحُمر" (يقدم على نتفليكس) للمخرج لطفي عاشور صدمةً سينمائية غير متوقعة، إذ لم يخطر ببال أحد أنّ قصته مستوحاة من جريمةٍ حقيقية هزّت الرأي العام التونسي قبل خمس سنوات.

تعود الحادثة التي يقدمها فيلم "الذراري الحمر" لمراهق يدعى مبروك السلطاني، قامت جماعة إرهابية بذبحه في جبل مغيلة، بعد أن نشرت له مقطع فيديو في منصات التواصل، ظهر فيه وهو يرد على أسئلة القتلة، مبرراً تعاونه مع الجيش بفقره وحاجته إلى المال.

 نقل عاشور مأساة عائلة السلطاني بكل تفاصيلها المؤلمة، في عمل يكاد يكون من أقسى الأفلام التونسية التي يمكن مشاهدتها، سواء من حيث معالجته البصرية أم السيناريو المحكم الذي يعيد للواجهة حدثاً مأسوياً طواه النسيان في الذاكرة الجماعية، على رغم ما خلفه من وجع. حصد الفيلم 10 جوائز عالمية كأفضل فيلم روائي طويل، وشارك في 70 مهرجاناً سينمائياً، وكان موضوع جدل حول المشاهد العنيفة وتغيير أسماء الضحايا.

العنف البصري

يتضمن فيلم "الذراري الحمر" في بدايته مشاهد قاسية، شديدة العنف إلى حد الإرباك والإزعاج، حين يظهر مراهقان، نزار البالغ من العمر 16 سنة، وقريبه أشرف الأصغر منه بسنتين، وهما يمرحان في الجبل أثناء رعي الأغنام، فيباغتهما مسلحون بالاعتداء والضرب. تركز الكاميرا على جسد أشرف الممدد على الأرض، مذهولاً مما يحدث لقريبه نزار، ولا يستوعب شيئاً مما يراه إلى أن يسود الهدوء. يتحسس أشرف ساق قريبه بالقرب منه، ليطمئن إن كان بخير، قبل أن يتلقى ضربة جديدة من الخلف، ويلقي أحد القتلة رأس نزار المذبوح أمامه كي  يوصله إلى أهله، قائلاً: "كي يمسكوا أفواههم عنا".

 على رغم أن مشهد الرأس لم يدم سوى ثوان معدودة إلا أنه كان مفجعاً، عرضت الكاميرا الملامح الميتة لرأس نزار بصورة مطابقة لوجه الممثل ياسين سمعوني، وما ضاعف وقع الصدمة كونها جاءت بعد مشاهد تمهيدية بطيئة قربت ملامح الطفلين، ونظراتهما المليئة بالحياة.

المشهد برمته بدا متعمداً في عنفه البصري، لكنه كان مدروساً بدقة، وفي حين يتجنب معظم المخرجين المعاصرين مشاهد دموية مباشرة لما تسببه من نفور وآثار نفسية وخيمة، برر المخرج لطفي عاشور في مداخلة له بأنه لم يسع إلى استفزاز المشاهد، ولكنه اختار الصدمة كأداة فنية ضرورية، تمكن المتلقي من المعايشة الكاملة للمأساة واستيعاب تأثيرها في الطفل الناجي، فالفيلم كله يدور حول ما يحدث في ذهن أشرف من ارتباك واضطراب بعد هذه التجربة القاسية.

 كل هذه الأحداث المتسارعة والحابسة للأنفاس تقع في الدقائق الأولى من الفيلم، إذ ينطلق من الذروة بأقوى المشاهد وأقساها، لتتفرع حبكة الأحداث بناء على تبعات الفاجعة وأثرها في الطفل وعائلة الضحية. لا ينتهي الرعب النفسي عند المشاهد الأولى، بل يستمر ويتصاعد في مشاهد أخرى مشحونة بالتوتر، من لحظة تنفيذ أشرف لما طلب منه، وهو يحمل رأس صديقه في الحقيبة، عائداً من الجبل عبر طرقه الوعرة، وسط هلوسات وتخيلات وحالة إنكار وتردد، تحيره في شأن اتخاذ القرار الصحيح بين التقدم والقول أم الاكتفاء بالصمت. أما السيناريو فعلى رغم حواراته القصيرة والمكثفة، فقد عبرت جمله المقتضبة بقوة عن مشاعر الحزن والحسرة والارتباك، مثل مشاهد الأم مباركة )أدت دورها لطيفة القفصي(، فهي عبرت عن حزنها بدموع صامتة وملامح هادئة، بدلاً من الصراخ والنحيب.

وعندما بدأ رجال العائلة التشاور في شأن دفن الرأس، الذي وضع موقتاً في ثلاجة الصالة الكبيرة حيث تقيم العائلة، رفضت الأم دفنه من دون الجثة، قائلة بصوت مبحوح: "ابني ولد كاملاً وأريده أن يدفن كاملاً"، وأسندت للرجال مهمة استعادة جثمان ابنها. وقد استلهم الفيلم هذا المشهد من الواقع، إذ وصل رأس الفتى مبروك السلطاني فعلاً إلى أهله قبل جثته، وعرض حينها في التلفزيون التونسي داخل كيس أسود في الثلاجة، إلى جانب حبات طماطم وبعض المواد الغذائية! أما جثته، فبقيت في الجبل تحرسها كلابه حتى لحظة العثور عليها.

غرابة العنوان

 قد يبدو عنوان "الذراري الحمر" غريباً عن المشاهدين في المشرق العربي، إذ تعني مفردة الذراري في شمال أفريقيا "الأطفال"، وهي جمع لكلمة "ذري"، أما صفة "الحمر" فهي تعبير محلي يطلق على شخص شجاع لا يعرف الهزيمة. وفي الوقت ذاته، يحمل اللون الأحمر دلالات متعددة، فإلى جانب الشجاعة، يحيل اللون إلى الدم في إشارة مباشرة إلى القصة المؤلمة التي يرويها الفيلم. اختار لطفي عاشور لفيلمه أطفالاً لم يسبق لهم التمثيل، باحثاً عن مواهب من أبناء المنطقة الريفية، كي يكون أداؤهم أكثر صدقاً وإقناعاً من ناحية اللهجة والملامح وعلاقتهم بطبيعة الأرض. وقد صرح بأن هذا الاختيار ينعكس حتى على لغة جسد الممثل، مشيراً إلى أنه واجه صعوبة في تسلق الجبل أثناء التصوير، بينما صعده الممثل علي الهلالي بخفة ومن دون الحاجة إلى استخدام يديه.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 في النهاية اختار عاشور ثلاثة أطفال من بين 600 طفل قابلهم في المدارس الريفية، واستغرق ثمانية أشهر في تكوينهم وإعدادهم نفسياً لأدوارهم، ضمن ست سنوات كاملة بين كتابة سيناريو واختبارات الأداء والإعداد الكامل للفيلم.

 جاءت معظم مشاهد فيلم "الذراري الحمر" خارجية، صورت في وضح النهار. وأول ما يمكن ملاحظته هو اختلاف كادرات الصورة عما هو معتاد في السينما التونسية، ويعود ذلك لتعاون المخرج مع مدير تصوير بولندي معروف بخبرته الطويلة في تصوير الطبيعة. وقد اتسمت لقطات الفيلم بطابع شبه وثائقي، ركزت على الجبل من زوايا مختلفة، من دون أن تكون تلك اللقطات زائدة أو مملة، بل منسجمة مع السياق العام للفيلم ومحملة بدلالات بصرية دقيقة.

ضحايا الصمت والتهميش 

 قدم فيلم "الذراري الحمر" أكثر من رسالة إنسانية، وتناول الواقع التونسي من خلال رؤية نقدية ذكية وغير مباشرة، مستخدماً تفاصيل بصرية تنقل ظروف تونسيين مهمشين يعيشون في مناطق نائية، معزولة تماماً عن المدارس والمرافق والمراكز الأمنية، و تفتقر لأبسط سبل الحياة، مثل توفر المياه، وهي مناطق يحرم فيها الأطفال من مواصلة تعليمهم بسبب الفقر وبعد المسافات عن المدارس.

صور لطفي عاشور هذه الظروف بأسلوب واقعي وكأنه روتين يومي مألوف في حياة الأهالي، مركزاً خصوصاً على نقل معاناة عائلة السلطاني، التي لم تتلق أي دعم عسكري لاستعادة جثة ابنها من الجبل. واضطر رجال العائلة إلى المجازفة بأرواحهم من أجل دفنه بكرامة، وإضافة إلى هذا التقصير وعلى رغم التغطية الإعلامية للجريمة، تلقت العائلة وعوداً رسمية بترحيلهم من المنطقة، لم تف بها السلطات التونسية، في فترة عام 2015.

 ختم صناع العمل النهاية بجملة مؤثرة تذكر بأن الفيلم مستوحى من قصة حقيقية، وبأن شقيق مبروك السلطاني قتل بعد سنتين من الجريمة الأولى بالطريقة نفسها، لتعيش الأم الفاجعة مرة ثانية. بكت الام ابنين خسرتهما من دون أن تتحرك السلطات، أو يحاسَب مرتكبو هذه الجرائم. هكذا أهملت هذه القضايا، وبقي ضحاياها من المهمشين المنسيين، إلى أن أعاد الفن إحياءها بتوثيق سينمائي ومساءلة ضمنية للسلطة عما حدث ولا يزال يحدث.

اقرأ المزيد

المزيد من سينما