ملخص
تسرد رواية "روح الله الفضل حبش" حكاية فتاة وُلدت بعلامة على وجهها تُشبه ورقة شجر، لتتحوّل حياتها إلى سلسلة من العذابات النفسية والتنمر الاجتماعي، لكنها في الوقت نفسه تملك قدرات عجائبية تمكنها من خرق قوانين الطبيعة كأنها بطلة قادمة من رحم الحكايات الشعبية.
تعيش بطلة رواية "روح الله الفضل حبش" (دار العين – القاهرة) للروائي المصري مجدي نصار، التي وُلدت بعلامة (وحْمة) في وجهها، مصيراً مرتبطاً بهذه العلامة التي تحدد علاقتها بالعالم.
منذ طفولتها، واجهت الفتاة "روح الله" تنمر زملائها في المدرسة، ثم يجهض حبها الأول برفض أم الحبيب شكلها. وفي الجامعة، تمنع من حضور اجتماع مع وزير البيئة، "لأن وجهها غير لائق". وحين تتقدم إلى وظيفة، تُعيَّن في قسم لا يتعامل مع الجمهور، كما لو أن ملامحها جريمة يجب إخفاؤها. خيبات متتالية وأزمات وجودية لا يد لها فيها تدفعها إلى الانزواء: "لا أترك شارعنا إلا للضرورة، أحفظ شوارع المدينة وقد أتوه في قريتي... قاسٍ جداً أن تتأمل اختلافك بين جمع من الناس، في قرية أو شركة أو جامعة، وكلما اتسعت الدائرة التي تنظر حالك في محيطها، اتسعت حسرتك" ص21
يتشابه شعور بطلة قصة "القبح والناس" لرجاء عليش، الذي انتحر بعد معاناة طويلة من التنمر بسبب ولادته قبيح الوجه: "شعرتُ بقبحي وسوء مظهري، سمعت سخرية الآخرين في أذني، كنت أتمنى أن تنشق الأرض وتبتلعني، أنا التي طالما شعرت أني غير مرئية"، مع المشاعر القاتمة التي تُسيطر على بطلة رواية مجدي نصار.
ولدت "روح الله" بوحمةٍ بُنيَّة تشبه ورقة الشجر، تبدأ أسفل العين، تتجاوز ملتقى الشفتين، وتمتد من الأذن إلى الأنف، وكأنها خريطة للحزن محفورة على الوجه. هذه الوحمة تدفعها إلى دوامة من الكآبة والريبة في نوايا الآخرين، حتى من يعاملونها بلطف تسيء فهمهم: "لو كنت طبيعية، ورأيتُ فجيعتي على وجه آخر، هل كنت سأتصرف مثلهم؟". ترى أن طيبتهم ليست يقيناً، وأن الرفض هو الأصل. يخنقها الشعور بالرفض حتى حين يراها بعض الناس، ويتمتمون: "الحمد لله الذي عافانا"، فتعلّق بمرارة: "يقتلونني ببساطة" ص14.
لكن "روح الله"، على رغم قبحها الظاهري، تحمل في داخلها جانباً نورانياً، أسطورياً، يكاد يضيء. تمتلك "كرامات" تمكنها من شفاء المرضى، وترويض الحيوانات المفترسة، بل والانتقام من الذين يسيئون إليها، لكنها ترفض هذه الهالة الخارقة، ولا تريد أن تُعرف بين الناس، خشية أن تُسجن في صورة أخرى من التمييز.
المولد الشعبي
يأتي مولدها متبوعاً بنبوءة تشبه تلك التي تسبق مولد الأبطال في السير الشعبية. تكشَّف مصيرها في مقام الشيخ العجباني، قبل مولدها، حين أخبرت عجوزاً الداية "أم مجيدة" أنه خلال خمسة أيام تبدأ من الآن سيولد على يديها ثلاث بنات في شارع القطايفة: "واحدة فيهم عندها بَركة في وشها، حتة ضلمة في وش أبيض كله نور، امسحي على دمع أمها، بشريها بنور كتير في الطريق". هكذا جاءت "روح الله"، التي ورثت هذه الروح العجائبية من أمها "راجية"، ابنة عائلة النواعم، تلك العائلة التي يتحدث رجالها إلى الهواء، وتصاب نساؤها بالتيه والنسيان، ويعشقون الأشجار والطبيعة.
هذه الجينات الأسطورية تتجلى على وجه الابنة بوضوح: "كأن ورقة شجر نبتت على خدها، تعلن انتماءها لعالم برزخي بين الحكاية والواقع"، لكن هذه "البركة" لم تحمِها من فاجعة الفقد، فقد ماتت الأم فجأة، لتعيش الفتاة في كنف زوجة أب، وتبدأ رحلتها في الحياة موزَّعة بين قدريْن متناقضين: قبح يبعد الناس عنها، وكرامة تجعل من يعرفها عنها يسعى إلى إرضائها.
يشكّل القبح الخارجي الذي وُسمت به "روح الله"، نقطة ارتكاز سردية لبناء ثنائية ضديّة حاسمة في الرواية. فالفتاة، على ما تحمل من "تشوّه" ظاهري، تمثّل في باطنها صورة للنقاء الإنساني، للبراءة الجريحة، ولروح لا تزال تؤمن بالحب على رغم خيباتها. في الجهة المقابلة، تبرز "صباح" – عمتها – كامرأة كاملة الأنوثة، ذات جمال صارخ كثيراً ما حلمت به "روح الله"، لكن "صباح"، التي تنعم بصورة تَمنّتها البطلة لنفسها، تمثل نقيضها على مستوى الروح: فراغ عاطفي، توق دائم للحب، عطش لا يُروى على رغم الجمال. تلتقط الرواية هذا التوتر النفسي الدفين في لحظة تأمل شديدة الشعرية: "تتنهد روح، الشمس تنام على رأس روح، تغوص في خصلاتها، تهمس: حلوة صباح ومرغوبة؟ أنتِ أيضاً جميلة ومشتهاة: تغبطين لونها؟ تحسد قلبك. تنقصك الثقة؟ ينقصها الحب" ص103.
يبرز هذا التناقض بين الشخصيتين أن الجمال لا يضمن الحب، والقبح لا ينفيه. وهو ما يجعل "روح الله" أقرب إلى صورة القديسة الجريحة، بينما تظهر صباح كامرأة تضنيها الرغبة على رغم وفرة الجاذبية. ثنائية تفكك معايير الجمال التقليدية وتعيد تعريف النقص والكمال من منظور إنساني وأسطوري في وقت واحد.
صراع مزدوج
تقوم بنية الصراع في الرواية على محورين متوازيين: أولهما نفسي داخلي، وثانيهما درامي خارجي. في المستوى الأول، تخوض "روح الله" صراعاً مع ذاتها، قوامه الشعور العميق بالنقص والقبح، وما يخلّفه من انكسارات داخلية وعزلة نفسية وصرخات وجودية مكتومة، فهي لا تبحث عن الجمال وحسب، بل عن القبول والاحتضان: "تقول روح إن لحظاتها البيضاء قليلة، سعادتها لا تدوم، القلق هناك دوماً خلف كل فرحة" ص69. هذا الألم المستمر يحاصر البطلة من الداخل، ويصبغ رؤيتها للحياة بلون الرماد، حتى إن كل لحظة فرح تبدو لها موقتة، مشروطة، ومهددة بالانهيار.
أما الصراع الثاني فينمو في فضاء الحبكة، ويتخذ طابعاً خارجياً من خلال علاقتها العدائية بـ"أميرة"، زميلتها التي لا تتوقف عن التنمر عليها منذ الصغر. صراع لا يُسفر عن منتصر، بل تنتهي فيه كلتاهما خاسرة، لتقول الرواية بذلك إن التنمر يفسد الضحية والجلاد على السواء. تستخدم الرواية تقنية الاستباق بمهارة للتلميح للنهاية المأسوية منذ منتصف السرد: "وحده القمر كان يعرف كل شيء، سيعاتب روح، سيبكي حين تغرس أميرة سكيناً ثُلماً في حلم روح، وسيفتح قلبه لروح لتعرف سارق فرحتها" ص61. هكذا، حين تصل الرواية إلى لحظة الذروة، نكتشف أن "أميرة" هي من تسببت، عن عمد، في مقتل حبيب "روح الله" قبل زفافهما بأيام، لتكتمل مأساة البطلة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هيئة أسطورية
تتخذ "روح الله" في الرواية هيئة أسطورية أقرب إلى "القديسة"، صاحبة الكرامات التي تتحدى قوانين الطبيعة: فالفستان الضيق يتّسع فجأة ليليق بجسدها، والنمر الهائج في حديقة الحيوان يرتمي عند قدميها، والكلب الذي أُطلق عليها يعود ليعض صاحبه، وأي مريض تمس موضع ألمه بيدها يبرأ.
لكن هذه المسحة النورانية لا تلغي طابعها الإنساني العميق، فتظهر "روح الله" امرأة تتألم، تتعرض للتنمر، تغضب وتغتاظ، وتحمل داخلها رغبة في الانتقام ممن آذوها، لا بوصفها قديسة بل إنسانة عادية انتقمت من مدير التسويق الذي سخر من ملامحها، بكشف ملفات فساده، ففُصل من الشركة. وانتقمت من حبيبها الأول الذي خذلها، بأسلوبها الخاص بأن نفخت هواء من فمها فانقلبت سيارته. انتقمت بفضح بيع أهل "أميرة" لذهبها وزعمهم بأنها قد سرقت، لتطلَّق "أميرة" من زوجها في أقل من شهر وتعود من الكويت إلى مصر ذليلة مكسورة، لكن أميرة لم تنسَ. أعوام من الحقد المختمر دفعتها إلى الانتقام العنيف. وحين خطبت "روح الله"، دبّرت "أميرة" مكيدتها الأخيرة، بأن استأجرت شخصاً ليطارد "هاني" بسيارته إلى أن أسقطه في النيل. المخيال الشعبي
تمزج الرواية بين الواقعي المتمثل في معاناة البطلة مع قبحها وتهميشها الاجتماعي، وبين العجائبي الغارق في الأسطورة، حين تستعير من المخيال الشعبي والفانتازيا الشرقية أدواتها لتعيد صياغة العالم على نحو رمزي. فلـ"روح الله" اتصال عجيب بالشمس والقمر. تبلغ الرواية ذروتها العجائبية عندما ينزل القمر من السماء ويختفي في بيت "روح الله"، ويتحول إلى بلورة سحرية تكشف لها الماضي والحاضر، وكأن السرد يهبها "عين الحقيقة"، لا لترى العالم فقط، بل لتفهم قسوته. وحين تكشف كرامتها وأنها السبب في اختفاء القمر، تعتقلها الشرطة. لكن ما إن يفتح باب الزنزانة حتى تختفي، في مشهد صوفي التكوين، لتنتهي الرواية بنظرة بطلتها إلى السماء لتراها هناك كنقطة سوداء: "ترفع عيناها إلى البدر. يرتسم على وجهها تعبير عجيب، عيناها تدمعان لكن فمها يكاد يبتسم، تحدق بنقطة سوداء تتراقص فوق سطح القمر المضيء" ص189، في إشارة إلى تحول البطلة إلى "بدر التمام" الذي يرمز في الثقافة العربية إلى ذروة الجمال.