Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عندما يصبح الفولكلور سلاحا شعبيا لمواجهة العولمة

تحذر الـ"يونيسكو" من أن ثلاثة أرباع النزاعات لها أبعاد ثقافية و89 في المئة من الصراعات تدور ببلدان فقيرة

فتاة يابانية تنظر بابتسامة إلى طبق لوجبة "الناتو" (279victoriast)

ملخص

تعود الشعوب إلى تقاليدها وعاداتها وفلكلورها بعدما شعرت بتهديد الذوبان في العولمة. فمن اليابان إلى فلسطين، تحيى الأغاني القديمة، وتطهى أطعمة الجدات، وترتدى الأزياء التراثية، كوسيلة لحفظ الهوية وتجديد الانتماء.

بدأت الشعوب والمجتمعات الإنسانية بالعودة إلى جذورها بعدما شعرت بأن ألوانها وطقوسها وتقاليدها وعاداتها وطعامها والفلكلور الخاص بها على وشك أن يذوب في بحر التشابه أو التوحد العالمي المعولم.

في كل بلاد الأرض اليوم يمكنك أن ترى عودة الأكلات التقليدية التي كادت تنقرض، وأغاني الجدات وقصصهن التي كاد التلفزيون والسينما والهاتف المحمول يقضي عليها، وقد أنزلت ثياب الأجداد العتيقة عن الرفوف، كأن البشرية اكتشفت فجأة أن لا حياة بلا ذاكرة ولا حاضر بلا جذر.

أما في اليابان، فكادت وجبة "الناتو" (فول الصويا المخمر) أن تختفي من موائد الشباب لمصلحة وجبات "الهامبرغر"، إلى أن قامت جمعيات محلية ومدارس حكومية بإحياء الطبق وتدريسه في حصص الطبخ المدرسية مع تصنيفه من التراث القومي. وفي كوريا الجنوبية، لم يعد "الهانبوك"، الزي التقليدي، مجرد لباس للمناسبات، بل تحول إلى موضة بين الشباب، مع عودة مهرجانات ومسابقات أفضل تصميم تقليدي على السوشيال ميديا، ومبادرات رسمية لإدراجه في الأعياد الوطنية.

وفي جبال المغرب، هب شباب القرى لإحياء طقوس تحضير الكسكس وحماية نكهاته من الغزو الحديث، وراجت فيديوهات الجدات وهن يفسرن سر الطهو القديم على "يوتيوب". أما في أستراليا، فبدأ أبناء السكان الأصليين بتنظيم ورش تعليم اللغة القديمة لأطفالهم التي كادت تنقرض. وفي إيرلندا، بعد قرون من القمع اللغوي، عاد الآباء ليعلموا أبناءهم "الغايليك" في البيوت والمدارس، حتى إن اللغة أصبحت تكتب على اللافتات العامة، وصار الرقص الشعبي يبث في برامج الأطفال كحدث وطني.

المكسيك بدورها لم تكتف المدن الكبرى بإحياء احتفالات "يوم الموتى" كعرض للسياح، بل فرضت الحكومة تعليم رمزية الاحتفال وتاريخه في المدارس، ودعمت إنتاج أفلام كرتونية عالمية تحكي للأطفال لماذا لا بد أن تبقى الجماجم الملونة جزءاً من طفولتهم. أما في أفريقيا فقد خرج شباب داكار ولاغوس من عباءة الهيب هوب الأميركي ليعيدوا مزج الإيقاعات الأفريقية القديمة مع موسيقى العصر، فظهر نمط "الأفروبيت" الذي اجتاح العالم وأصبح رمزاً للفخر القومي وللتواصل بين القارة وأبنائها في المهجر.

وكذلك في المدن الأوروبية الكبرى، تحولت أسواق نهاية الأسبوع إلى مهرجانات تعرض فيها "أطعمة الجدات" ونتاجهن من المونة المختلفة، من المعكرونة الإيطالية المصنوعة يدوياً إلى الخبز الأسمر، وصار السكان يحتفون بجذورهم من خلال الطعام كأنهم يبتعدون عن عصر الوجبات السريعة. وفي فلسطين أيضاً، لم تكتف النساء بزراعة الزعتر وحياكة الأثواب المطرزة في البيوت، بل تحولت هذه الممارسات إلى شكل من المقاومة الثقافية ضد النسيان، حتى صارت معارض التطريز وورش تحضير المأكولات جزءاً من تأكيد الهوية والحفاظ على الذاكرة التي تكاد تتلاشى.

الأمم المتحدة ومنظمة الـ"يونيسكو" بدورها راحت تعلن عاماً بعد عام قوائم التراث الثقافي غير المادي المهددة بالزوال، وتدعو العالم إلى حمايتها من أكلة "المنسف" الأردنية إلى رقصات الأنهار في الصين، ومن سرديات القص في النيجر إلى طقوس الشاي في إيران والمغرب.

الفلكلور وإحياء الذاكرة

الفلكلور هو مجموعة قصص تُروى للأطفال قبل النوم، والزينة على ثياب الأمهات، والرقصات التي نقدمها في مهرجانات السياح، وهو أيضاً الروح التي تسري في شريان أي أمة ووجدانها، وهو صورة عن الانتماء والمعنى العميق للهوية الخاصة بكل أمة من الأمم وكل شعب أو جماعة. انطلاقاً من الحكواتي الذي يروي أسطورة سندباد من "ألف ليلة وليلة"، أو الزجل في لبنان أو التروبادور في إسبانيا والبلوز في أميركا وأهازيج العرس في المغرب وأغاني الحصاد في سهول الشام. إنه أيضاً شكل من الأشكال المادية وليس اللغوية فقط.

فهو العباءة المطرزة في فلسطين والكيمونو في اليابان والساري في الهند، وهو طعام أيضاً كالكشري المصري والمحشي الشامي والسوشي الياباني وخبز الشعير في جبال الأطلس. فالفلكلور ليس شيئاً من الخارج يضيفه الإنسان إلى حياته وذاكرته ويورثه لأولاده، بل هو شرط تعريفه في العالم كبطاقة هوية تخلقها الجماعة الحية؟

 

ليست العادات والتقاليد عبارة عن نزوات جمالية، بل هي في جوهرها نتيجة صراع الإنسان مع الطبيعة والحاجة إلى البقاء وترك الأثر وبطاقة تعريف وتمييز عن الآخر.

فما بدأ في جبال نيبال كحاجة إلى تخزين الطعام كمسألة فاصلة بين الحياة والموت، صار أقرب إلى فولكلور في الزمن المعاصر، وفي أفريقيا باتت رقصة المطر أو طقوس الختان مظاهر ثقافية ولكنها نشأت في الأصل كعلاقة رابطة بالطبيعة وتغييراتها الموسمية وتأثيرها في حياة الناس. حتى الكرم العربي الشهير في الصحراء، لم يكن مجرد ضيافة بل ضمانة بقاء للضيف والمستضيف، أو كان بمثابة عقد حماية اجتماعي، فبدلاً من دفع الضيف الجائع والتائه إلى السرقة والقتل مثلاً يتم تكريمه واستضافته، فيكون الكرم الظاهر حامياً لجميع الأطراف. وهكذا، ينقلب معنى الفلكلور مع الزمن من طريقة للبقاء إلى احتفاء بالجمال والرمز.

كيف نصنع هويتنا الجماعية؟

كي تكون جزءاً من أي مجتمع يجب أن تحمل في أعماقك الخيوط التي نسجتها ذاكرة الأسلاف، الذاكرة التي تشد المهاجر المغربي في باريس إلى الدار البيضاء، ويجعل الفلسطيني في المخيم ينتظر العودة إلى وطنه حين يسمع زغاريد "الدحية" أو يشم رائحة الزعتر. في تجربة اسكتلندا أعادت الكيلت والموسيقى الشعبية رسم هوية كانت شبه مفقودة تحت الهيمنة البريطانية. وفي الهند بات مهرجان "هولي" السنوي عرضاً هندوسياً لا كعقيدة جامدة بل كلحظة انفجار ألوان، تلغي الطبقات وتخلق لحظة وحدة لا تتكرر.

 

ولكن حتى في العادات والتقاليد هناك ما هو راسخ كجذع شجرة وبعضها يذبل كزهرة في مزهرية منسية. الذي يستمر منها هي تلك التي تحتفظ بوظيفة حقيقية، إما دينية أو اجتماعية أو رمزية. مثلاً استمرت عادة الختان لارتباطها بالدين، وكذلك الأعياد الشعبية أو الدينية أو العائلية التي تجدد الروابط بين أفراد العائلة. أما العادات التي لم تعد تقدم فائدة أو أصبحت عبئاً كطقوس التضحية البشرية عند الأزتيك اختفت مع دخول الكاثوليكية. كذلك الأمر بالنسبة إلى ليلة الحناء في المغرب التي لا تزال صامدة، على رغم العولمة، لأنها تعني أكثر من مجرد نقش بالحناء على جسد العروس بل هي إعلان جماعي عن انتقال العروس من عالم إلى عالم.

ولو أصبح كل العالم نسخة واحدة، فماذا فلن تبقى الدهشة فالتجانس يقتل المعنى، وجمال الإنسانية يكمن في هذا التنوع لا في التكرار الممل. خذ مثالاً اللغة في الصين حيث اندثرت آلاف اللهجات لمصلحة لغة رسمية واحدة. لكن لا بد من القول إن العولمة ليست بالضرورة قوة محو، فأحياناً تسهم في صنع هجائن ثقافية جديدة مثل موسيقى الريغي التي تجمع بين أفريقيا وإسبانيا وأميركا.

متاحف متحركة أم حياة حقيقية؟

تُعد اليابان فنونها التقليدية كنوزاً وطنية وتكرم المبدعين فيها رسمياً، وفي إيرلندا واسكتلندا تدرسان اللغة والرقص الشعبي في المدارس، أما المجتمعات اليهودية والأرمنية والأمازيغية فقد حافظت على الطقوس واللغة والأغاني والرموز رغم الشتات والضغط الثقافي. فالعادات تمنح الأفراد شعوراً بالأمان وسط فوضى الحداثة. وفي غياب هذه العادات المتوارثة يولد القلق والاغتراب والاضطراب الهوياتي.

وبات معروفاً أن شباب المدن في اليابان يعانون الاكتئاب بعد الانقطاع عن التقاليد. وكذلك أبناء المهاجرين العرب الذين يعيشون في حيرة بين ثقافة البيت الأصيلة وضغط المجتمع الجديد. فجيل "اللامكان" بات يملأ حياته بالصور والمنتجات ولا يملأ شعوره بالفراغ إلا بالعودة إلى الجذور. هذا رغم أن الشباب لا يريدون تقليد الكبار، بل تلوين الموروث على طريقتهم في مهرجانات الرقص الإيرلندي مثلاً، التي تمزج الشعبي بالمعاصر، وفي مبادرات تعليم الحرف اليدوية، وفي السينما التي عادت لتدخل القصص الشعبية في قلب أفلامها.

ما الذي نريده فعلاً من العولمة أو من العالم كقرية؟ عالم "القرية الواحدة" حيث الجميع متشابهون أم عالم "الألف قرية" حيث لكل بيت أغنيته، مأكله، قصته؟ القرية الواحدة قد تريح الأعصاب، لكنها تقتل الدهشة وتفرغ الحياة من نكهتها.

الألف قرية، ولو كانت مليئة بالصخب، تمنح المعنى، تبقي للإنسان حكايته ونكهته. فالعالم الحقيقي ليس مصنع نسخ، بل هو متحف أحياء نابض لا يشبه فيه أحد أحداً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

اليوم، وعلى رغم الحقوق التي أقرتها الأمم المتحدة عبر إعلان حقوق الشعوب الأصلية وحق تقرير المصير وحماية الأراضي، فإن الواقع أكثر قسوة. إزالة الغابات، وتوسع الصناعات الاستخراجية، حتى محاولات "تطوير" حياة هؤلاء تشكل أحياناً تهديداً مباشراً على وجودهم الجسدي والثقافي. وليس من قبيل المصادفة أن 28 في المئة من سطح الكرة الأرضية اليوم هي أراض تسكنها الشعوب الأصلية. وفي هذه الرقعة التي تبدو هامشية في حسابات الاقتصاد العالمي توجد أكثر من 11 في المئة من الغابات المتبقية، ومعظم التنوع البيولوجي البري الذي لم يدمر بعد.

وتحذر الـ"يونيسكو" من أن ثلاثة أرباع النزاعات في العالم اليوم لها أبعاد ثقافية، و89 في المئة من الصراعات تدور في بلدان فقيرة في الحوار بين الثقافات.

ولم تعد الثقافة ترفاً فكرياً كما يتخيل بعض الساسة، بل قطاع يولد أكثر من 48 مليون وظيفة حول العالم، نصفها تقريباً للنساء، ويوفر فرصاً هائلة للشباب دون سن الـ30. ومع ذلك يظل العمل الثقافي هو الحلقة الأضعف في السياسات العامة للدول، ولا يحظى بما يستحق من تمويل أو حماية.

اقرأ المزيد

المزيد من منوعات