Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

السبيل الأمثل لاستخدام قوة أميركا الاقتصادية

من دون حنكة دبلوماسية فحتى أقوى الأدوات ستنقلب على أصحابها

 أعلام أميركية ترفرف أمام حاويات شحن في لونغ بيتش بكاليفورنيا خلال يوليو (تموز) 2025 (دانيال كول / رويترز)

ملخص

تحولت أدوات الإكراه الاقتصادي إلى ساحة تنافس رئيسة بين القوى الكبرى، وسط تصاعد استخدامها من دون ضوابط مؤسسية أو أهداف واضحة، ما يهدد بتفكيك النظام الاقتصادي العالمي القائم على الدولار. لتفادي دوامة التصعيد والانقسام، تحتاج الولايات المتحدة إلى عقيدة استراتيجية متماسكة ومؤسسات قوية توازن بين الترغيب والترهيب، وتضمن فعالية الضغط الاقتصادي من دون المساس بالاستقرار الدولي.

نحن نعيش في عصر تسخير القوة الاقتصادية كأداة للإدارة السياسية، ففي غضون عقدين فقط انتقلت القوى الكبرى في العالم، وفي مقدمها الولايات المتحدة، من الاستخدام المحدود للضغوط الاقتصادية إلى اعتمادها كعنصر رئيس في السياسة الخارجية، ونتيجة لذلك شهدت أدوات الإكراه الاقتصادي، مثل العقوبات وقيود التصدير والرسوم الجمركية والقيود على الاستثمارات، انتشاراً متسارعاً على نحو مذهل، فمنذ عام 2000 ازداد عدد الأفراد والجهات الخاضعين للعقوبات 10 أضعاف، وتضاعفت الرسوم الجمركية والحواجز التجارية حول العالم خمس مرات خلال خمسة أعوام فقط، واليوم أصبحت أكثر من 90 في المئة من الاقتصادات المتقدمة تجري تدقيقاً على الاستثمارات الأجنبية في القطاعات الحساسة، بعدما كانت النسبة أقل من الثلث قبل 10 أعوام فقط، وعندما غزت روسيا أوكرانيا في فبراير (شباط) 2022 جمدت الولايات المتحدة وحلفاؤها أكثر من 300 مليار دولار من احتياطات المصرف المركزي الروسي المودعة في دول مجموعة السبع، متجاوزين بذلك خطوطاً مالية كانت تعد سابقاً من المحرمات.

وفي الواقع فبعد أكثر من ثلاثة أعوام بات واضحاً أن صندوق باندورا قد فتح، فخلال الأيام الـ 100 الأولى من ولاية إدارة ترمب الحالية، سعت الولايات المتحدة إلى فرض رسوم جمركية بسرعة ونطاق يفوقان أية تجربة مماثلة في التاريخ الحديث، وردت بكين بفرض قيود على صادرات المعادن الأساس، ولوحت بقدرتها على خنق سلاسل الإمداد في القطاعات الإستراتيجية، مما يبرز حقيقة أن الحرب الاقتصادية لم تعد استثناء بل أصبحت الساحة الأساس للتنافس بين القوى الكبرى.

ومع ذلك فإن تسخير القوة الاقتصادية يحمل في طياته مكامن قوة ومواطن خطر في آن، فالإكراه الاقتصادي غير المنضبط قد يؤدي إلى تفكك الأسواق العالمية وتعميق الانقسام بين الكتل وإثارة حالات من عدم الاستقرار قد تشعل نزاعات عسكرية هي أصلاً ما يفترض أنها تتجنبها، وعلى رغم هذه الأخطار لم تبلور أية إدارة أميركية حتى الآن عقيدة واضحة لتنظيم هذا النهج، كما لا توجد آليات مؤسساتية للحد من إساءة استخدامه، وفي المقابل يخضع استخدام القوة العسكرية لقواعد صارمة راسخة منذ زمن طويل، وينبغي أن تطبق المبادئ ذاتها على القوة الاقتصادية وإلا فإن صانعي السياسات يخاطرون باستخدامها من دون ضوابط أو شرعية، وإذا كانت الولايات المتحدة تسعى إلى الحفاظ على دورها القيادي الفريد في الاقتصاد العالمي، فعليها أن تحدد بوضوح أهداف هذه الأدوات الاقتصادية، وأن تبني قدرة مؤسساتية تتماشى مع هذه المهمة، وأن تتبنى رؤية أكثر إيجابية لاستخدامها.

عصر جديد

ثمة قوى بنيوية عدة تدفع الدول إلى الاعتماد بصورة متزايدة على أدوات الإكراه الاقتصادي ضمن إدارة الدولة، ولعل أبسط هذه العوامل من حيث الفهم هو العامل الجيوسياسي، فقد أفسح الزمن الأحادي القطبية الذي تلا الحرب الباردة المجال أمام عودة التنافس، لكن بما أن معظم القوى الكبرى تمتلك أسلحة نووية فإن منطق "الدمار المتبادل المؤكد" دفع النزاعات المباشرة، ولا سيما بين روسيا والغرب وبين الصين والولايات المتحدة، إلى الانتقال من ميادين القتال إلى الميادين الاقتصادية.

وفي الوقت نفسه تشهد الديمقراطيات، بما في ذلك الولايات المتحدة، حيث بلغ الاستقطاب السياسي أعلى مستوياته منذ أكثر من قرن، حالاً من التصدع الداخلي، ومع تراجع نفوذ التيار الوسطي بات القادة من كلا الحزبين يميلون بصورة متزايدة إلى استخدام أدوات الإكراه الاقتصادي لتحقيق مكاسب سياسية فورية، ويجسد تدخل إدارة بايدن مطلع عام 2025 لمنع استحواذ شركة "نيبون ستيل" اليابانية على شركة "يو إس ستيل" هذا التوجه، إذ فضلت الإدارة الأميركية ملكية محلية في قطاع حيوي على شراكة طويلة الأمد مع حليف موثوق بهدف بناء قدرة إستراتيجية مستدامة.

وكذلك فإن الابتكار المتسارع في التكنولوجيات ذات الاستخدام المزدوج، مثل أشباه الموصلات والذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمية والبيولوجيا التركيبية والانصهار النووي، يعيد تشكيل سبل تحقيق الدول للنمو الاقتصادي والقوة العسكرية في آن، ونظراً إلى ما تنطوي عليه هذه الابتكارات من قدرة على تغيير ميزان القوى العالمي، تسارع الدول إلى عزل منظوماتها التكنولوجية واستخدام مواقع السيطرة في سلاسل الإمداد كورقة ضغط، فالصين مثلاً تستثمر بكثافة لتحقيق هيمنة في التكنولوجيات ذات الاستخدام المزدوج، وفي الوقت نفسه تشدد الرقابة على صادرات المدخلات الأساس مثل المعادن النادرة والغاليوم والجرمانيوم، وتهدف من خلال ذلك إلى ترسيخ تفوقها التكنولوجي وتعزيز اعتماد العالم على إنتاجها.

ومع تزايد الطلب العالمي على الطاقة مدفوعاً بتطورات الذكاء الاصطناعي والتحول نحو الطاقة الكهربائية وتنامي الطبقة الوسطى، تواجه الإمدادات تحديات في مواكبة هذا النمو وسط قيود تنظيمية وضغوط سياسية، وتفتح هذه الندرة وحال عدم اليقين المجال أمام الدول الغنية بالطاقة لاستغلال مواطن الضعف في الأسواق لتحقيق مكاسب جيوسياسية، فعلى سبيل المثال قلصت روسيا صادراتها من الغاز الطبيعي إلى أوروبا للضغط على الحكومات بهدف تخفيف العقوبات وتأخير الدعم العسكري لأوكرانيا، أما الصين التي تهيمن على أكثر من 70 في المئة من سلسلة توريد مواد البطاريات، فقد فرضت قيوداً على تصدير الغرافيت ولوّحت بإمكان توسيع هذه القيود لتشمل معادن أخرى حيوية في مسار التحول إلى الطاقة الكهربائية.

حلقة مفرغة

أسهمت هذه الاتجاهات المتداخلة في زيادة كبيرة في الطلب على "الأسلحة الاقتصادية"، بينما لم تكن فرص استخدامها يوماً بهذا القدر من الوفرة، فعلى رغم أن عصر العولمة المفرطة قد بلغ ذروته لكن تدفقات التجارة ورأس المال ونقل التكنولوجيا لا تزال قريبة من مستوياتها التاريخية المرتفعة، مما يمنح الدول طيفاً واسعاً من الروابط الاقتصادية التي يمكن تفكيكها أو تعطيلها، ولهذا تسارع الحكومات إلى تعزيز قدراتها الإدارية، ليس فقط لتفعيل هذه الأدوات الاقتصادية بل أيضاً لتحصين نفسها من تداعياتها، فقد أنشأت الصين جهازاً بيروقراطياً يشرف على إدراج الشركات الأجنبية في القوائم السوداء وتنظيم حملات مقاطعة جماهيرية وتطوير أنظمة دفع تتجاوز الاعتماد على الدولار، أما روسيا فتركز على إتقان أساليب الالتفاف على العقوبات من خلال العملات الرقمية والاتفاقات التبادلية وشبكات السوق الرمادية [أسواق غير رسمية شبه قانونية تستخدم للتحايل على العقوبات].

وأنشأت اليابان وزارة على مستوى مجلس الوزراء تعنى بالأمن الاقتصادي، فيما يعمل الاتحاد الأوروبي على تطوير أدوات جديدة لمواجهة الضغوط الاقتصادية، أما الهند فقد خصصت وحدة للأمن الاقتصادي ضمن مجلس الأمن القومي التابع لها، إذاً لم تعد أدوات الإكراه الاقتصادي وظيفة ثانوية ضمن وزارات المالية بل باتت ركيزة أساسية في الإستراتيجيات الوطنية للدول حول العالم.

لكن كلما ازداد استخدام هذه الأدوات تعاظم خطر انفلاتها من السيطرة، فالعالم على وشك الدخول في حلقة مفرغة تتحول فيها كل أزمة في السياسة الخارجية إلى عقوبة أو رسم جمركي أو قيود على التصدير، مما يشعل موجات متتالية من التصعيد دون مخرج واضح.

وفي هذا السياق تواجه الولايات المتحدة اختباراً مصيرياً للحفاظ على شرعية النظام الاقتصادي العالمي الذي أنشأته والذي يقوم على هيمنة المنظومة المالية المعتمدة على الدولار، وهو نظام يمنح واشنطن مزايا هائلة، من كُلف اقتراض منخفضة للأسر والشركات إلى قدرة مالية فائقة على امتصاص الصدمات الاقتصادية ومرونة أكبر في أوقات الأزمات، فضلاً عن القدرة على ممارسة النفوذ عبر أدوات الإكراه الاقتصادي.

لكن إذا تُركت هذه السياسة للاجتهادات العشوائية فلن تقتصر الخسائر على تآكل صدقية الولايات المتحدة، بل ستسرع أيضاً وتيرة الجهود الدولية لتقليص هيمنتها الاقتصادية، وتقود الصين هذه الجهود بالفعل من خلال قيادتها لمشروع "إم بريدج" mBridge، وهو منصة رقمية متعددة البنوك المركزية تهدف إلى تسوية التعاملات التجارية مباشرة بـ "اليوان" الرقمي وعملات أخرى، وتستخدم هذه المنصة بالفعل البنوك المركزية في الصين وهونغ كونغ وتايلاند والإمارات العربية المتحدة، مع اهتمام العشرات من الدول الأخرى بالانضمام إليها، وقد يسرع نجاح هذا المشروع من تجاوز الدولار كلياً مما يضعف فعالية العقوبات الأميركية وقيود التصدير ويفكك التشابك الاقتصادي العالمي إلى تكتلات مالية متنافسة.

قواعد الاشتباك

في ظل هذا الواقع يتعين على الولايات المتحدة أن تضع، على أعلى المستويات الحكومية، مبادئ توجيهية واضحة وقواعد اشتباك تحدد متى ولماذا وكيف وضد من تستخدم الإجراءات الاقتصادية العقابية، وعلى رغم أن واشنطن قد تلجأ في بعض الحالات إلى فرض إجراءات عقابية بأقصى شدة لكن ذلك يجب أن يبقى استثناء لا قاعدة، ويجب ربط استخدام هذه الأدوات بأهداف جيوسياسية واضحة وقابلة للتحقيق، وقبل اللجوء إلى مثل هذه التدابير ينبغي على صانعي السياسات أن يوضحوا أهدافهم الإستراتيجية، بما في ذلك السلوك المستهدف بالعقوبة والنتائج المرجوة من دمج الضغط الاقتصادي مع الأدوات العسكرية أو الدبلوماسية أو الإنسانية.

وهذا النهج يضمن بقاء أدوات الإكراه الاقتصادي كعوامل لتعزيز فعالية الإستراتيجية الشاملة لا أن تكون إستراتيجية بحد ذاتها، ولنا في حملة "الضغط الأقصى" الأميركية على فنزويلا مثال صارخ، إذ هدفت إلى إسقاط النظام من خلال قطع عائدات النفط عن حكومة مادورو وحرمانها من الوصول إلى الأسواق المالية العالمية، لكن في غياب مسار دبلوماسي موثوق لانتقال السلطة، أدى النهج إلى انهيار اقتصادي من دون أي تحول سياسي، ونتج منه كارثة إنسانية وهجرة جماعية، ومهد الطريق لتوسع النفوذ الروسي والصيني.

كما يتطلب استخدام الضغط الاقتصادي ضرورة تقدير دقيق ومدروس لتأثيره، فالإجراءات يجب أن تكون متناسبة مع التأثير المتوقع وأن تأخذ في الحسبان الآثار الجانبية المحتملة، وفي كل حال يجب أن تفوق فعالية العقوبات المتوقعة الكُلف والأخطار المترتبة عليها، ويتحمل القائمون على إدارة أدوات الضغط الاقتصادي مسؤولية تقليص الأضرار غير الضرورية التي قد تطاول المدنيين أو دولاً أخرى، وتجنب استهداف الغذاء أو الدواء أو المساعدات الإنسانية، والامتناع من مصادرة الممتلكات الخاصة من دون الإجراءات القانونية الواجبة.

وتشكل العقوبات الواسعة التي فرضتها الأمم المتحدة على العراق خلال تسعينيات القرن الماضي تحذيراً بالغ الدلالة، إذ كانت شديدة الاتساع إلى حد أنها قيدت الوصول إلى الغذاء والدواء والبنية التحتية الحيوية، وبدلاً من إجبار النظام العراقي على الامتثال أدت إلى معاناة إنسانية مروعة، وقلصت الدعم الدولي للعقوبات ومنحت النظام العراقي ذريعة دعائية قوضت شرعية الحملة برمتها.

تعتمد فعالية الأسلحة الاقتصادية في نهاية المطاف على مدى قدرتها على التأثير في سلوك الجهات المستهدفة لا على محدودية آثارها الجانبية، فخبراء العقوبات يتقنون تصميم إجراءات تحدث اضطراباً في الاقتصادات والأنظمة المالية مع تقليل الأثر الجانبي إلى الحد الأدنى، وهي مهارة ضرورية، لكن السؤال الإستراتيجي الذي على صناع القرار أن يطرحوه هو هل تحدث هذه العقوبات تحولاً حقيقياً في حسابات صانعي القرار الرئيسين في الدولة أو الكيان المستهدف؟ وللإجابة عن هذا التساؤل لا بد من دمج التحليل الاقتصادي مع التحليل السياسي الاستخباراتي، لكن غالباً ما تفتقر السياسات إلى تقدير دقيق لكمية "الألم الاقتصادي" المطلوبة لتغيير السلوك، أو حتى إلى تقييم ما إذا كان مثل هذا التغيير ممكناً أساساً، ولا سيما حين يتعلق الأمر بأوتوقراطيين مثل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي قد يواصل غزوه التوسعي بغض النظر عن الكُلف الاقتصادية، كما ينبغي على واضعي السياسات أن يوازنوا بدقة بين التوقيت وطريقة إيصال الرسائل السياسية، وهل تستخدم بصورة استباقية أم كرد فعل؟ وهل يعلَن عنها صراحة أم تبقي غامضة لتعظيم الأثر؟

على الولايات المتحدة أن تكون قادرة على استخدام أدوات الترغيب والترهيب الاقتصادي معاً

 

ويعد التنسيق مع الحلفاء ضرورياً بالقدر نفسه، إذ إن توحيد الإجراءات التقييدية يعزز فعاليتها ويقلص فرص الالتفاف عليها ويضفي عليها شرعية أكبر، فالغرض من استخدام أدوات الضغط الاقتصادي لا ينبغي أن يكون فرض القوة من طرف واحد، بل الدفاع الجماعي عن المبادئ التي تدعم السلام والأمن، ولقد أبرز انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي الإيراني عام 2018 وإعادة فرض العقوبات من جانب واحد، على رغم التزام الحلفاء الأوروبيين بالاتفاق، الكُلف السياسية والاقتصادية التي تترتب على التصرف الانفرادي، فقد أدى ذلك إلى إثارة ارتباك قانوني وزاد حدة التوتر عبر الأطلسي مع تقويض صدقية الولايات المتحدة، وهو ما يؤكد أن فاعلية أدوات الضغط الاقتصادي تتطلب بناء وحدة وتفاهم مشترك.

ومع ذلك فإن حتى أكثر الإجراءات تصميماً بعناية تبقى أدوات غير دقيقة تستخدم عادة في ظروف يسودها عدم اليقين، لذا ينبغي أن تكون المرونة وتقبل إعادة التقييم عنصرين أساسيين في أية عقيدة تنظم استخدام هذه الأدوات، ولا ينبغي أن يكون مفاجئاً إذا جاءت النتائج على خلاف التوقعات، فتقبل إعادة التقييم يفرض على صانعي السياسات الاعتراف بالأخطاء في التقدير والتكيف معها، بل حتى في غياب الخطأ تظل الظروف قابلة للتبدل، فقد تتغير تركيبة التحالفات التي تطبق العقوبات صعوداً أو هبوطاً، وقد يشهد الوضع الاقتصادي في الدولة المستهدفة تحسناً أو تدهوراً، كما قد تطرأ مستجدات سياسية تستدعي إعادة التقييم وتعديل المسار.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويعد مثال العقوبات المفروضة على شركة "روسال" الروسية عام 2018 نموذجاً جيداً على سياسة عقوبات قابلة للتكيف، فقد فرضت الولايات المتحدة تدابير على الشركة، وهي من كبار منتجي الألومنيوم ومرتبطة برجل الأعمال الروسي أوليغ ديريباسكا، مما تسبب في اضطرابات حادة داخل أسواق الألومنيوم العالمية، وردت وزارة الخزانة الأميركية حينها بإصدار سلسلة من التراخيص العامة لتأجيل التنفيذ، ثم ألغت العقوبات لاحقاً بعد تعديل هيكل ملكية الشركة، وقد شكلت هذه المراجعة توازناً بين الضغط على الهدف وحماية المصالح الاقتصادية الأوسع، وهو نموذج مرن يفترض الاسترشاد به في تصميم السياسات المستقبلية.

أخيراً يجب ألا تظل هذه العقيدة المنظمة لاستخدام الأدوات الاقتصادية محصورة ضمن الإطار الأميركي الداخلي، وينبغي لواشنطن أن تقود جهود وضع إطار دولي يستند إلى هذه المبادئ، أشبه ما يكون بـ "اتفاقات جنيف"، لاستخدام أدوات الضغط الاقتصادي، فالمسألة هنا لا تتعلق بالمثالية بل بإدراك عملي أن استخدام الإكراه الاقتصادي من دون ضوابط يؤدي إلى أضرار متبادلة ويسرع تفكك النظام الاقتصادي العالمي إلى مناطق نفوذ متنافسة.
ولإقناع دول مثل اليابان والهند، وكلتاهما تستثمران في تعزيز قدراتهما في استخدام الأدوات الاقتصادية لتحقيق أهداف سياسية، بالانضمام إلى هذا الإطار، يجب أن تقود الولايات المتحدة هذا الجهد، لا من موقع الهيمنة بل من خلال الدبلوماسية وقبول تقييد بعض جوانب نفوذها، وسيكون انضمام دول أخرى مرهوناً برؤية الإطار كمصدر للاستقرار والتكافؤ لا كمجرد أداة لترسيخ التسلسل الهرمي، وعلى رغم أن دولاً مثل الصين وروسيا قد تتردد في الانضمام مبدئياً فإن وجود هيكل تحالفي موثوق كفيل بتوحيد الاقتصادات الديمقراطية حول مبادئ مشتركة، والحد من الاستخدام المفرط أو المسيء للأدوات الاقتصادية القسرية، وكما حدث في تجارب سابقة لوضع قواعد دولية، فإن التفاهم الباكر بين شركاء موثوقين قادر على بلورة أعراف جديدة تؤثر لاحقاً في سلوك النظام الدولي، أما في غياب مثل هذا الإطار فإن البديل سيكون دوامة من المواجهات الاقتصادية التي تقترب من حافة الانفجار وتقوض النظام الذي مكن الولايات المتحدة من الحفاظ على موقعها القيادي في النظام الدولي والازدهار العالمي.

اختبار تحمل

يتطلب تطبيق هذه المبادئ تعزيزاً كبيراً في القدرة المؤسسية للحكومة الأميركية، إذ يجب التعامل مع استخدام أدوات الإكراه الاقتصادي لا بوصفها استجابات موقتة، بل جزءاً من ترسانة إستراتيجية منضبطة وممولة بصورة كاف، وهذا يعني بناء بنية تحليلية قادرة على محاكاة التفاعلات الاقتصادية المعقدة، بدءاً من محاولات التحايل والرد من قبل الأطراف المستهدفة، مروراً بردود الفعل المتسلسلة والتأثيرات غير المتوقعة، ووصولاً إلى استجابات السياسات الاقتصادية الكلية، وذلك باستخدام نماذج إستراتيجية مستمدة من نظرية الألعاب (Game Theory) تأخذ في الحسبان تعدد الأطراف وتعدد المراحل.

ويجب أن تأخذ هذه النماذج في الحسبان نتائج محتملة مختلفة مثل تحويل السلع الخاضعة للعقوبات عبر دول وسيطة، والتأثيرات غير المباشرة للعقوبات الثانوية في اقتصادات الحلفاء، ورد الخصوم عبر فرض قيود تصدير في قطاعات إستراتيجية، ومدى قدرة الولايات المتحدة على تعويض النقص في الواردات من خلال الإنتاج المحلي.

ومثلما يقوم "الاحتياط الفيدرالي" بإجراء مراجعات دورية لأدواته ويخضعها لاختبارات تحمل في ظروف مختلفة، ينبغي للحكومة الأميركية أن تحتفظ بتقييم محدث باستمرار لمجمل أدوات الضغط التقييدية المتاحة لديها، ويجب أن يشمل هذا التقييم مراجعات دورية لمدى جاهزية كل أداة وفاعليتها المحتملة وحدود استخدامها، فمثلاً يجب أن يكون في مقدور صانعي السياسات تقييم ما إذا كانت ضوابط التصدير ستؤثر فعلاً في القدرات التكنولوجية للخصم، وكذلك مدى سرعة ظهور بدائل محلية أو موردون جدد، ويجب أن يكون هذا التقييم قادراً على إجراء تحليلات استباقية لتحديد أين تتقاطع مكامن القوة الاقتصادية الأميركية، مثل الهيمنة المالية في النظام العالمي والتكنولوجيا المتقدمة وإنتاج الطاقة والطلب الاستهلاكي مع مواطن ضعف الخصوم، وفي المقابل أين يمتلك الخصوم أدوات ضغط يمكن أن تستخدم ضد الولايات المتحدة أو حلفائها.

ولضمان انسجام إستراتيجي في هذا المجال فقد تحتاج الولايات المتحدة إلى إنشاء وزارة جديدة للأمن الاقتصادي تضم خبراء في الاقتصاد الكلي والسياسات التجارية والتكنولوجيا والتمويل والطاقة والدبلوماسية والقانون الدولي، ويمكن أن تعمل هذه المؤسسة كمركز عمليات يتمتع بالحجم والقدرة التحليلية والطاقة الاستيعابية اللازمة لإدارة أزمات عدة في وقت واحد، وعلى رغم إمكان بناء هذه القدرات ضمن وزارة الخزانة فإن الواقع يشير إلى أن أياً من الوكالات القائمة حالياً لا تمتلك الصلاحيات أو التفويض أو الخبرة متعددة التخصصات اللازمة لتصميم أدوات اقتصادية وتنفيذها في مواجهة طيف واسع من تحديات الأمن القومي، فقد أثبتت فرق العمل الموقتة وآليات التنسيق بين الوكالات أنها غالباً ما تكون بطيئة ومجزأة وتقتصر على ردود الأفعال، وبالتالي لا تواكب وتيرة التهديدات الجيو-اقتصادية المعاصرة، فعلى سبيل المثال عندما أدى غزو روسيا لأوكرانيا إلى تعطيل تدفقات الطاقة في أوروبا وأثار سباقاً لإيجاد بدائل، أو حين أثرت القيود الأميركية على تصدير الرقائق المتقدمة في سلاسل التوريد التكنولوجية من تايوان إلى هولندا، تبين أن الولايات المتحدة بحاجة إلى جاهزية تشغيلية أكثر تطوراً لتوقع التداعيات الاقتصادية لقراراتها وإدارتها.

إن إنشاء وزارة متخصصة سيكرس أدوات النفوذ الاقتصادي باعتبارها ركيزة أساسية من ركائز القوة الوطنية، إلى جانب الدفاع والاستخبارات والدبلوماسية، ويمنحها التركيز الإستراتيجي والقدرة التنفيذية التي تفتقر إليها اليوم، ولا يكفي أن يقتصر تعزيز القدرات المؤسسية على تحسين أدوات الضغط والعقوبات بل لا بد من أن يشمل أيضاً تصميم وتنفيذ أدوات تحفيزية [مثل المساعدات الاقتصادية والتعاون التجاري]، فحتى لو كانت العقيدة واضحة والتحليل دقيقاً فإن التدابير التقييدية وحدها لا تعبر عن مكامن القوة الحقيقية للاقتصاد الأميركي، والتي تقوم على جذب الشركاء وتشجيعهم وخلق الفرص الجديدة.

الحوافز

تعاني الولايات المتحدة حالياً نقطة ضعف تنافسية لأن كثيراً من الابتكارات ذات الأهمية الإستراتيجية الكبرى، مثل تصنيع أشباه الموصلات المتقدمة والبطاريات من الجيل الجديد والتصنيع البيولوجي، تتطلب آفاقاً استثمارية طويلة الأجل وقدرة عالية على تحمل الأخطار ورأسمال مبدئي كبير، وهذه ليست من نوع الاستثمارات التي تفضلها الأسواق الأميركية الخاصة التي تركز على تحقيق عوائد ربع سنوية سريعة، ويظهر هذا النقص في التمويل أيضاً في قطاعات الاقتصاد التقليدي التي تعد حيوية للاقتصاد والأمن القومي الأميركي، مثل بناء السفن والتعدين وتصنيع معدات الموانئ، أما الصين فتمضي في تنفيذ إستراتيجية شاملة تجمع بين الدعم الحكومي والإقراض التفضيلي والمشتريات العامة وقيود التصدير لضمان التفوق في هذه القطاعات واستغلال سيطرتها على نقاط رئيسة في سلاسل الإنتاج العالمية.

ويظل توفير التمويل على نطاق واسع أمراً صعباً في الولايات المتحدة لأن مسؤولي القطاع العام يفتقرون غالباً إلى المرونة اللازمة لتعويض قصر أفق القطاع الخاص، ففي عام 2022 أنشأت إدارة بايدن "مكتب رأس المال الإستراتيجي" ضمن وزارة الدفاع لدعم توجيه الاستثمارات طويلة الأجل نحو التكنولوجيات الناشئة المرتبطة بالدفاع، لكنه مخول بتقديم القروض والضمانات لمشاريع محدودة فقط، وكي تتمكن الولايات المتحدة من المنافسة بفعالية أكبر، فهي بحاجة إلى تحفيز الابتكار في التقنيات المتقدمة الرائدة وإعادة بناء قدراتها الإستراتيجية عبر النطاق الكامل لسلاسل الإمداد الحيوية، ويتطلب ذلك هيئة استثمار مرنة مثل صندوق ثروة سيادي وأدوات إقراض ميسرة مصممة لتقليل الأخطار وجذب رأس المال الخاص، والقدرة على تأمين مصادر الطاقة والتكنولوجيا الأساسية بصورة استباقية، وذلك من خلال "مخزون احترازي للمرونة الإستراتيجية" يعيد تصور "الاحتياط البترولي الإستراتيجي" ليغطي مجموعة أوسع من نقاط الضعف في القرن الـ 21.

وفي عالم يتزايد فيه التنافس الجيوسياسي يجب أن تمتلك الولايات المتحدة القدرة على استخدام كل من أدوات الضغط الاقتصادي (العصا) وأدوات الحوافز الاقتصادية (الجزرة)، فالخطوة الأولى هي وضع عقيدة واضحة تحدد كيفية وموعد وأسباب استخدام الأدوات القسرية، أما الخطوة الثانية فتكمن في بناء بنية مؤسسية قوية تمكن من تنفيذ تلك الأدوات ببصيرة إستراتيجية، والخطوة الثالثة، وربما الأهم، هي ضمان أن تستند القوة الاقتصادية الأميركية إلى طموح مبدئي يعزز المرونة في الداخل ويخلق فرصاً في الخارج، ويدفع عجلة الابتكار من أجل بناء عالم أكثر حرية وأمناً، وإذا قادت الولايات المتحدة الجهود لوضع إطار عالمي يقوم على هذه القيم فإنها ستعيد إرساء شرعية النظام الاقتصادي الذي أنشأته، وتتجنب انهياراً خطراً للنظام الدولي قد يضعف جميع الدول ولا تتضرر منه دولة أكثر من الولايات المتحدة نفسها.

 

مترجم عن "فورين أفيرز" 15 يوليو (تموز) 2025

داليب سينغ نائب الرئيس وكبير الاقتصاديين العالميين في شركة "بي جي آي إم"، شغل منصب نائب مستشار الأمن القومي الأميركي للشؤون الاقتصادية الدولية، ونائب مدير المجلس الاقتصادي الوطني في إدارة بايدن.

اقرأ المزيد

المزيد من آراء