ملخص
لا تعتبر الحرائق في غابات لبنان مستجدة بصورة عامة، فهي تقضي سنوياً على قسم من المساحات الخضراء التي تتميز بها البلاد. إنما في الأعوام الأخيرة، اختلفت الحرائق من نواحٍ عدة سواء كان السبب مرتبطاً بتداعيات التغير المناخي أو بعوامل أخرى أدت دوراً في ذلك.
مع حلول فصل الصيف، لا يستعد اللبنانيون لموسم السياحة فقط، بل أيضاً لموسم حافل بالحرائق التي تقضي على الأخضر واليابس أحياناً. وقد شهدت الأعوام الأخيرة موجة من الحرائق الكبرى التي تقضي على قسم كبير من الغابات والثروة الحرجية، ومنها ما يهدد أحياناً المواطنين مع الاقتراب من المنازل عندما تخرج الأمور عن السيطرة، فيما يؤكد المختصون أن موسم الحرائق بات يبدأ مبكراً ويمتد خلال فترة أطول من العادة.
وعلى رغم الجهود التي بُذلت لوضع حد لها، فإن الحرائق اندلعت بصورة كبيرة أخيراً، حتى إنها توسعت وامتدت أكثر فأكثر خلال أيام، فيما يبقى الوعي شرطاً أساساً في هذه الفترة من العام، كما في أي وقت آخر لمواجهة هذا التحدي وتجنب مثل هذه الحوادث المؤسفة، بخاصة أن منها ما يكون متعمداً من قبل جهات معينة مستفيدة بصورة أو بأخرى.
حرائق غير مسبوقة ومتعمدة
لا تعتبر الحرائق في غابات لبنان مستجدة بصورة عامة، فهي تقضي سنوياً على قسم من المساحات الخضراء التي تتميز بها البلاد. إنما في الأعوام الأخيرة، اختلفت الحرائق من نواحٍ عدة سواء كان السبب مرتبطاً بتداعيات التغير المناخي أو بعوامل أخرى أدت دوراً في ذلك.
يكشف رئيس وحدة الخدمة والعمليات في المديرية العامة للدفاع المدني وليد الحشاش عن المتغيرات التي سجلت في هذا السياق، ويقول "كان هناك دوماً استعداد لمواجهة الحرائق في فصل الصيف مع ارتفاع معدلات الرطوبة والرياح، لكن الأمور اختلفت في هذا العام تحديداً. فمع انتهاء موسم الشتاء، بدأت الحرائق تندلع مباشرة بصورة مفاجئة، لهذه الأسباب مجتمعة يبدو وكأن الحرائق باتت متصلة بعضها ببعض، وتحصل بصورة متواصلة من دون توقف".
ولزيادتها أسباب عدة باتت معروفة، ومن ضمنها المطامر المنتشرة في غالبية المناطق اللبنانية، التي تُحرق فيها النفايات بطريقة عشوائية، مع ما يعنيه ذلك من خطر خروج الحرائق وامتدادها من نطاق المطامر إلى المناطق المحيطة.
وفيما تعتبر الحرائق التي تحصل عن طريق الخطأ قليلة، يؤكد الحشاش أن معظم الحرائق متعمدة ومنها حريق القبيات الكبير في شمال لبنان، الذي اندلع قبل أسابيع من مواقع عدة، وكانت هناك تحديات وصعوبات كبرى في إطفائه. والأسوأ أن الرياح المتزايدة الناتجة من التغير المناخي تسهم في إشعال النار أكثر فأكثر، بعد أن تبدأ الشرارات الأولى، وقد تبين بنتيجة التحقيقات أن أحد الفعاليات في المنطقة وراءه.
ويضيف "بالنسبة إلى الحرائق المتعمدة، غالباً ما تندلع في المناطق الجردية البعيدة من العيون التي لا يمكن أن تكشف فيها هوية المفتعلين كما يمكن التحرك فيها من دون مراقبة. أما المستفيدون من هذه الحرائق كثر، فقد يكون الهدف هو جمع الحطب، أو تكسير الأشجار، أو الاستثمار في الأراضي، أو إلحاق الأذى. وهي كلها أسباب تدفع جهات معينة إلى إشعال هذه الحرائق التي تمتد لتحرق الغابات الحرجية".
أما حريق الربوة في محافظة جبل لبنان، الذي اندلع خريف العام الماضي وقد امتد أياماً طويلة، فقد تبين أنه كان هناك أفراد يعيدون إشعاله في كل مرة يطفأ فيها من نقاط عدة، كما تم العثور على مواد مشتعلة في نقاط معينة، بحسب ما كشفت القوى الأمنية. وما ساعد في إطفائه بعد أيام التعاون من قبل البلديات والمجتمع المدني، بما أن تجهيزات للدفاع المدني غير كافية.
الصعوبة في مواجهة الحرائق
تكثر الأسباب التي يمكن أن تؤدي إلى اندلاع الحرائق، سواء كانت متعمدة أم لا، وسواء نتجت من خطأ، أو عن صدفة، أو عن عمد، في كل الحالات كلها حرائق تمتد صيفاً بفعل العامل المناخي، وتكثر الصعوبات في مواجهتها وووضع حد لها، في ظل قلة الإمكانات وضعف التجهيزات، خصوصاً بعد الحرب الأخيرة بين إسرائيل و"حزب الله".
يقول الحشاش "على رغم ذلك، ما من حريق خرج عن السيطرة، وإن بدت الأمور كذلك أحياناً. ونحرص على تعويض النقص في التجهيزات والإمكانات بالقدرة البشرية التي تعمل على استباق اندلاع النيران وامتدادها"، كاشفاً أن مواجهة الحرائق التي تندلع في المطامر هي الأصعب بسبب الغازات التي تنبعث منها وتزيد الوضع سوءاً. فمثل هذه الحرائق تتطلب وسائل مختلفة لإطفائها وتستدعي الطمر بالرمل وليس بشكل أساس الماء للسيطرة على النار. وفي هذه المطامر قد تكون هناك مواد لا يمكن اعتماد الماء لإطفاء الحريق فيها ومنها بطاريات ليثيوم، كذلك فإن وجود الرياح والغازات التي تنبعث منها تشعل النيران أكثر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
نقص في الإمكانات اللوجيستية
بوجود آليات قديمة تستهلك بكثرة من قبل الدفاع المدني اللبناني، ومنها ما يعود إلى عام 1978، وفي ظل الأزمة المالية في البلاد، لم يكن من الممكن صيانتها والحفاظ عليها. لذلك يسجل نقص كبير في الآليات المخصصة لمواجهة النيران التي تمتد في الغابات. هذا ما يزيد من التحديات في مواجهة الحرائق على اختلاف أنواعها وأسبابها.
في المقابل يسعى الدفاع المدني بالتعاون مع البلديات والدولة اللبنانية إلى تأمين كاميرات في الأحراج والمطامر بهدف كشف من يشعل النيران عمداً، ومحاسبته حتى يكون درساً لغيره، ويساعد ذلك أيضاً على التدخل سريعاً لمواجهة الحرائق.
يصف الحشاش حريق القبيات بكونه أكبر الحرائق التي واجهها عناصر الدفاع المدني في الأعوام الماضية، فيشبهه بحرائق الولايات المتحدة الكبرى. ويقول "يجري العمل دوماً على سرعة إخماد الحريق لأن عامل الوقت يؤدي دوراً مهماً في مواجهة الحرائق. أما في حال التأخير فتزداد الصعوبات، من هنا أهمية التدخل المباشر والسريع. لذلك، يطلب من المواطنين التبليغ عن أي حريق بأسرع وقت ممكن مع أهمية إرسال موقع الحريق لتصل إليه سيارات الدفاع المدني سريعاً"، محذراً في الوقت عينه من خطورة إقدام العائلات والأفراد على إشعال الأعشاب اليابسة قرب المنازل بغرض التخلص منها، فيتحول الحريق الصغير إلى حريق يهدد المنزل والمنطقة المحيطة.
بيئة مواتية للحرائق
لا تقتصر الحرائق على فصل الصيف، فثمة تحديات حتى في موسم الشتاء وغالباً ما تحصل الحرائق عندها بسبب وسائل التدفئة. لكن، ما يبدو واضحاً أن الظروف تكون مواتية من النواحي كافة خلال الموسم الحار مما يستدعي الجهوزية التامة.
يكشف الخبير البيئي، مؤسس ورئيس جمعية الأرض-لبنان بول أبي راشد، عن أن الجفاف شرط أساس لاندلاع الحرائق، ويكون موجوداً في موسم الصيف، إذ إن المياه خلال هذا الموسم تسحب من الأرض وتتبخر، ومن ثم بغياب المياه، ومع ارتفاع درجات الحرارة تكون الظروف مواتية جداً لاندلاع الحرائق، إذ تكون الغابة عندها جافة إلى درجة يسهل فيها أن تحترق.
وعلى رغم أن لبنان اعتاد على اندلاع الحرائق صيفاً، فإن البلاد لم تكن تشهد هذا النوع من الحرائق التي تتحول إلى كوارث، ويضيف أبي راشد "يتحمل الإنسان عامة مسؤولية تحوّل الحريق إلى كارثة بإشعاله الشرارة الأولى التي تسببت به، سواء حصل ذلك عمداً أو بصورة غير متعمدة، فالتساهل بحرق الأعشاب اليابسة في الغابات، أو الحدائق أمام المنازل، أو في الحقول كما يفعل المزارعون، من العوامل المساهمة. والمشكلة أن المواطن لا يفكر بالتداعيات الكارثية لخطوة تبدو له بسيطة للوهلة الأولى، لكنها تتسبب بكوارث في الطبيعة والبيئة، كما حين تُرمى السيجارة في الطبيعة حيث تشتعل في الأعشاب اليابسة. وأخيراً نسبة كبيرة من الحرائق التي اندلعت كان سببها الرئيس المطامر العشوائية، إضافة إلى الحرائق التي تندلع بسبب المزارعين الذي يشعلون الأعشاب اليابسة بطريقة عشوائية".
عن اختلاف الوضع بين الماضي والحاضر، يؤكد المتخصص في الشأن البيئي أنه في السابق كانت القشرة النباتية توقف النيران، فيما اليوم نشهد ازدياد الجفاف مقابل تراجع القشرة الرطبة.
الصيد العشوائي وتأثيره
وأيضاً من العوامل التي أسهمت في زيادة الوضع سوءاً في الأعوام الأخيرة، الصيد العشوائي، إذ لم تعد الطيور بصورة كبيرة موجودة لتأكل دودة الصندل التي تأكل أوراق الأشجار، وهذا يؤثر سلباً في التنوع البيولوجي، إذ فقدت الشجرة بهذه الطريقة مناعتها وأصبحت جافة مما يجعلها أكثر عرضة للاحتراق سريعاً.
لكن ما يبدو مستغرباً لأبي راشد بصورة خاصة، الرياح التي اشتدت صيفاً في الأعوام الأخيرة. ففي لبنان، كانت البلاد تشهد رياحاً ابتداءً من سبتمبر (أيلول)، أما اليوم فإذا بأشهر الصيف تشهد رياحاً تعطي مزيداً من القوة للنيران، "هذه الظاهرة تبدو مستجدة في بلادنا على أثر التغير المناخي. فقد حدث ارتفاع في درجات الحرارة بمعدل ثلاث إلى ست درجات ما يمكن أن يحدث اضطراباً كبيراً على مستوى العالم. إضافة إلى ذلك، كل ما يحدث من تداعيات بسبب التغير المناخي يطرح علامات استفهام في شأن ما يمكن أن يحصل مستقبلاً، ومن ثم يجب تجنب أي خطأ يمكن أن يسهم في اندلاع النيران".
ويشدد على أهمية عدم ترك الغابات من دون مراقبة، فالمطلوب أن يكون هناك في كل بلدة حرس للغابات بهدف الحد من الكوارث البيئية التي تحصل.
وينوه بأن الحرائق باتت تصل إلى مناطق لم تكن تصل إليها سابقاً. ففي المناطق العالية والجرود لم تكن تُسجل حرائق، أما اليوم فهي تطاول أشجار الأرز والشوح واللزاب، وللمرة الأولى سجلت حرائق في جرود بلدة فرزل البقاعية شرق لبنان.
قد لا يكون الإنسان قادراً في مرحلة معينة على مواجهة آثار التغير المناخي التي يصفها أبي راشد بـ"الحرب العالمية" على الإنسان. فقد أسهم بها وهي الآن تتفجر وتلقي بتداعياتها عليه، لكن يبقى للدفاع المدني الدور البطولي في حماية البيئة والغابات.
ويختم "ما لا يعرفه الكل أن الأشجار الكبيرة مثل أشجار الصنوبر ترمي البذور عند التعرض للحرارة فتولد من الرماد من جديد فتنمو الأشجار الخضراء من حولها فيما هي تموت. وهذا ما حصل سابقاً في منطقة بعبدا بعد اندلاع حريق كبير في أحراجها، إذ أمطرت بعد أيام ونمت مئات الأشجار بدلاً من تلك التي احترقت".