ملخص
سلطت حوارات ملتقى الخليج للأبحاث الضوء على ازدواجية المعايير الغربية تجاه حقوق الإنسان، وتناولت الهاجس العربي الأكبر المتمثل هذه الأيام في امتداد آلة الحرب الإسرائيلية إلى خارج غزة، كما حدث في حرب الـ12 يوماً مع إيران، وأخيراً في معركة السويداء السورية.
انطلق مؤتمر الخليج للأبحاث، أمس الثلاثاء، بهدوء يشابه هدوء مدينة كامبردج وجامعتها العريقة التي تحتضن المؤتمر، لكن ذلك لم يدم طويلاً، فسرعان ما اشتعلت الجلسة الافتتاحية بكلمات التنديد والاستياء تجاه السياسات الإسرائيلية، مما يعكس الهاجس العربي الأكبر المتمثل هذه الأيام في امتداد آلة الحرب الإسرائيلية إلى خارج غزة، كما حدث في حرب الـ12 يوماً مع إيران، وأخيراً في معركة السويداء، حيث تدخلت إسرائيل، باستهداف وزارة الدفاع السورية، وشنّ غارة على محيط القصر الرئاسي في دمشق.
ضمت الجلسة الافتتاحية للمؤتمر البحثي في دورته الـ15 أربعة متحدثين من خلفيات متنوعة ما بين الحكومة والمنظمات المتعددة الأطراف ومراكز الأبحاث، وسبقتها كلمتان رئيستان مسجلتان لوزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان والأمين العام لمجلس التعاون الخليجي جاسم البديوي. وفي الجلسة الحوارية شارك من قطر مستشار رئيس الوزراء ماجد الأنصاري، ومن مجلس التعاون أمينه المساعد للشؤون السياسية عبد العزيز العويشق، ومن الاتحاد الأوروبي ممثله الخاص لمنطقة الخليج لويجي دي مايو، كما شاركت رئيسة "مجموعة الأزمات الدولية" كومفورت إيرو.
رئيسة "مجموعة الأزمات الدولية" كومفورت إيرو: من المؤسف أنه على مذبح الشرق الأوسط، ومذبح غزة تحديداً، أصبحت قيم أوروبا محل تساؤل عميق.
ازدواجية المعايير الغربية
وفي حين تتزايد المخاوف العربية إزاء تعنّت إسرائيل في غزة، واستهدافها السيادة السورية، اقتصر الموقف الأوروبي على إبداء القلق، وهو ما دفع "اندبندنت عربية" إلى توجيه سؤال إلى الممثل الخاص للاتحاد الأوروبي لمنطقة الخليج لويجي دي مايو حول ما إذا كانت الدول الأوروبية الـ27 تشارك الدول العربية قلقها واعتقادها بأن إسرائيل المنفلتة أصبحت أكثر جرأة في ضرب دول الإقليم بلا رادع.
يجيب دي مايو، الذي شغل منصب وزير الخارجية في إيطاليا من 2019 إلى 2022، قائلاً إن المنطقة تعيش في زمن أصبح فيه اللايقين هو القاعدة، وإسرائيل جزء من هذا التحول، وأشار إلى أنه بالنظر إلى حرب الـ12 يوماً، فمن الواضح أننا نتعامل مع دولتين غير قابلتين للتنبؤ، أي إسرائيل وإيران.
المناخ اللايقيني وفق دي مايو يهدد 3 قيم أساسية، أولاً التعددية، فبدلاً من أن تلجأ أطراف الصراع إلى الحوار الدبلوماسي، أصبحت فكرة حل المشكلات بالقوة العسكرية أكثر جاذبية. ثانياً سيادة الدول، وهي نقطة مرجعية في النظام الدولي لكنها ليست في أفضل حالاتها. وثالثاً، الانتشار النووي، مشيراً إلى أنه لا يمكن إنهاء البرنامج الإيراني عبر الحل العسكري، فقد يؤخره لكنه لا يحل جوهر المشكلة في الحد من الانتشار النووي.
لكن رئيسة "مجموعة الأزمات الدولية" كومفورت إيرو تطرح رؤية مخالفة لما قاله الممثل الأوروبي، أولاً عبر التأكيد أن هناك الكثير مما يمكن التنبؤ به، وذلك في إشارة إلى الأصوات المنادية داخل إسرائيل "بإكمال المهمة" في إيران، مما قد يعني جولة جديدة من الحرب لإلحاق ضرر أكبر بالقدرات النووية الإيرانية.
واعتبرت إيرو موقف الاتحاد الأوروبي من غزة مثالاً صارخاً على "ازدواجية المعايير" في سياساته، فمن جهة يندد بالحرب على أوكرانيا في كل مناسبة ويدعمها بالسلاح، ومن جهة أخرى لا يلعب دوراً فاعلاً في الضغط على إسرائيل لوقف الحرب على غزة واستهداف جيرانها.
وخاطبت إيرو ممثل الاتحاد الأوروبي قائلة، "لويجي، سرّني أنك تحدثت عن أوروبا، لأن أوروبا أيضاً عليها أن تطرح أسئلة كثيرة ليس فقط حول انقسامها، بل أيضاً حول ازدواجية المعايير، وتقدير حياة على حساب أخرى. وقد لمّحتَ إلى ذلك بنفسك، وأنا سعيدة أنك قلت ذلك بصفتك الشخصية، لأن الاعتراف بذلك ليس أمراً سهلاً".
وأضافت "من المؤسف أنه على مذبح الشرق الأوسط، ومذبح غزة تحديداً، أصبحت قِيَم أوروبا محل تساؤل عميق... أنا لا أرى مستقبلاً مشرقاً في هذه اللحظة. أرى مزيداً من الحروب، ومزيداً من المعاناة الإنسانية، ومزيداً من المآسي، للأسف، بسبب ما نشهده في غزة".
وفي حديثه، اعترف الإيطالي دي مايو أن المجتمع الدولي لم ينجز واجباته كما ينبغي قبل هجوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، وقال، "كنت وزيراً للخارجية لمدة ثلاث سنوات قبل 7 أكتوبر، وأتذكر أنه خلال الاجتماعات الثنائية، لم تكن هذه القضايا على رأس الأولويات"، ويقصد بذلك الملفات المتعلقة بإسرائيل وفلسطين ولبنان وسوريا واليمن وإيران، وحتى أوكرانيا.
وزراء خارجية الخليج: لا سلام دون حل القضية الفلسطينية
أوضح الممثل الأوروبي الخاص لمنطقة الخليج أن وزراء الخارجية الخليجيين لطالما قالوا له إن المنطقة لن تنعم بالسلام من دون حل القضية الفلسطينية، مضيفاً، "من ينظر إلى الديناميكيات بين إسرائيل وفلسطين يدرك أن اتفاقات أوسلو التي تعود إلى أوائل التسعينيات، لم نعمل على تنفيذها كما يجب"، مؤكداً أهمية السعي لإبرام اتفاق سلام دائم بعد تأمين وقف إطلاق النار في غزة.
من جانبه، تطرق ماجد الأنصاري مستشار رئيس الوزراء القطري والمتحدث باسم وزارة الخارجية إلى المحادثات الجارية في الدوحة، معرباً عن أمله في أن تقود إلى وقف إطلاق النار في غزة، لكنه اعترف بأن "التوجيهات الإسرائيلية قائمة بتعطيل أي محادثات، وما لم يكن هناك ضغط جدي من المجتمع الدولي، وبخاصة من الولايات المتحدة، فلن تتغير شروط التفاوض". وتعد المحادثات الجارية في الدوحة هي المحاولة الثالثة للتوصل إلى اتفاق، إذ أسفرت المحاولة الأولى عن هدنة أسبوع، والثانية عن وقف إطلاق نار مدة شهر.
وقال الأنصاري إن قطر تلعب دور الوساطة بين "حماس" وإسرائيل منذ عام 2006، حين طلبت الولايات المتحدة منها القيام بهذا الدور عقب فوز "حماس" في الانتخابات، وقرار واشنطن الانسحاب من المشهد، لافتاً إلى أن بلاده حذرت من ذلك الحين من أن هذه الوساطات، بما فيها التوصل إلى وقف إطلاق النار خلال حرب 2014 بوساطة قطرية - مصرية، ليست سوى "لصقة" على جرح مفتوح، وأن جهود التهدئة ستظل قاصرة ما لم يتم التوصل إلى حل شامل للقضية الفلسطينية.
وكشف متحدث الخارجية القطرية أنه بعد هجوم 7 أكتوبر 2023، أدركت الدوحة أن الوساطة هذه المرة ستكون أكثر تعقيداً، وقال، "في 8 أكتوبر، حين بدأنا التواصل مع الطرفين، أدركنا أن ما يجري هذه المرة مختلف، لكنه كان نتيجة طبيعية للتصعيد المتراكم عبر السنوات، وخنق الفلسطينيين في غزة، والقضية الفلسطينية ككل".
الوضع السوري من وجهة نظر خليجية
يرى الأمين المساعد لمجلس التعاون الخليجي عبد العزيز العويشق أن سوريا الجديدة "عالقة في المنتصف"، بين قوتين تسعيان إلى تحقيق مصالح متعارضة، هما الولايات المتحدة وتركيا. فبينما تدعم واشنطن الأكراد بهدف منع عودة تنظيم "داعش"، تُبدي أنقرة قلقها من تحول سوريا إلى منصة لشن هجمات من قبل الجماعات الكردية المرتبطة بحزب العمال الكردستاني.
ويعتبر العويشق أن مخاوف الطرفين مشروعة، إلا أن استمرار الخلاف يشكل عقبة رئيسة أمام استعادة الحكومة السورية الجديدة لسيادتها في شمال شرقي البلاد، ما يجعل من الضروري أن تتحمل الولايات المتحدة وتركيا مسؤولية التوصل إلى تفاهم يضمن الأمن والاستقرار.
وأكد المسؤول الخليجي ثقته بقدرة الحكومة السورية الجديدة على تولي هذه المهمة، شريطة أن تحظى بدعم حقيقي من تركيا والولايات المتحدة والمجتمع الدولي، بما يضمن منع عودة الإرهاب، وفي الوقت نفسه الاستجابة لمخاوف أنقرة بشأن احتمال وجود ملاذ آمن لحزب العمال الكردستاني داخل الأراضي السورية.
أما في ما يتعلق بالساحل الغربي من البلاد، فيرى العويشق أن بقايا نظام بشار الأسد تسعى إلى إثارة الفوضى، وربما بدعم أو بتغاضٍ من روسيا، مشدداً على ضرورة التعامل مع هذا التحدي الأمني، إلى جانب مواجهة التحديات الاقتصادية التي لا تزال تعيق تعافي البلاد بالكامل.
تحذير من نظام دولي جديد قواعده مجهولة
استعرضت رئيسة "مجموعة الأزمات الدولية"، المتخصصة في حل النزاعات، بدايات المنظمة التي تأسست في أعقاب أزمة سراييفو، وتصف تلك المرحلة بأنها كانت تمثل ذروة النظام الدولي الليبرالي القائم على القواعد، وبرزت خلالها الولايات المتحدة بدور "الشرطي الدولي"، لكنها ترى أن ذلك العصر قد ولّى، وأن النموذج الذي قامت عليه تلك المرحلة لم يعد قائماً اليوم.
تقول إيرو، "نحن نعيش في مرحلة انتقالية، نطوي فيها صفحة النظام الدولي القديم". ولم تعد غزة وحدها تمثّل المأساة على حد قولها، بل السودان أيضاً يعكس حجم الفوضى التي تخلّفها تحولات النظام العالمي.
ما يمكن اعتباره تطوراً إيجابياً هو بروز لاعبين جدد بشهية متزايدة للنفوذ وتأثير حقيقي، إذ ترى الباحثة أن دول الخليج "لم تعُد مجرّد قوى صاعدة"، بل أصبحت موجودة بالفعل ومؤثرة في المسرح الدولي، لافتةً إلى أن عام 2019 كان نقطة تحوّل مفصلية، بخاصة بالنسبة إلى الخليج والسعودية، حيث أدركت هذه الدول أن الولايات المتحدة لم تَعُد شريكاً موثوقاً، وبدأت على إثر ذلك إعادة تشكيل منظومتها الأمنية الخاصة.
لكن أكثر ما يقلق إيرو، كما تقول، هو سؤال جوهري: ما هي القيم والمبادئ التي سيُبنى عليها النظام العالمي الجديد؟
فمن وجهة نظرها، أحد أهم أركان النظام الدولي الذي ينبغي التمسك به هو مبدأ عدم التوسع واحترام سيادة الدول على أراضيها. وتضيف: "ما يُثير قلقي هو النزعة التوسعية التي قد تسعى بعض الدول إلى فرضها، سواء كانت قوى نووية، أو متوسطة، أو حتى صاعدة. هذه المبادئ أساسية لا يمكن التفريط بها، ويجب أن تبقى جزءاً لا يتجزأ من النظام العالمي المقبل".
600 مقترح بحثي
وانطلقت، أمس الثلاثاء، أعمال ملتقى الخليج للأبحاث في دورته الـ15 الذي ينظمه مركز الخليج للأبحاث، في جامعة كامبردج، ويمتد من 22 إلى 24 يوليو (تموز) الجاري. واستقبل الملتقى ما لا يقل عن 600 مقترح بحثي وسيعقد 12 ورشة عمل لمناقشة أبحاث تشمل موضوعات الأمن، والمنافسة بين القوى العظمى، والطاقة، والبيئة، والتقنية المالية.
ودعا وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان في افتتاح الملتقى إلى التمسك بالنظام الدولي القائم على القواعد، كوسيلة لمنع النزاعات وتعزيز التعاون الدولي، مؤكداً على أهمية مركز الخليج للأبحاث كمنصة لتعزيز الوعي بمنطقة الخليج وبناء الثقة بين الدول.
وجدّد وزير الخارجية السعودي تأكيده أن إقامة دولة فلسطينية مستقلة ركيزة أساسية للسلام في الشرق الأوسط، في حين أكد الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي جاسم البديوي أهمية الأبحاث المنشورة في تنوير صناع السياسات وتعزيز الاستقرار في المنطقة.