ملخص
"في ظل سهولة الحصول على استشارة من أنظمة الذكاء الاصطناعي، سواء دراسية أو مطبخية أو حتى طبية، بات كثر يفضلونه كطبيب نفسي بديل، يحكون له يومياتهم، ويشكون إليه همومهم، سواء من باب الرغبة في الفضفضة السريعة، أو توفيراً لنفقات جلسات الطبيب التقليدي التي أصبحت باهظة، لكن النتيجة التي خلص إليها كثر هي أن هذه الأنظمة تدفع نحو العزلة الاجتماعية، وتفسد العلاقات، مما يفاقم الأزمات النفسية، لا سيما ممن لديهم اضطرابات بالفعل، ولا يجدون مفراً من العودة لمسار العلاج النفسي لدى الطبيب العادي، لكن بعدما يكونون انتكسوا بالفعل".
مع موجة اكتئاب ما بعد وباء كورونا ظهرت بقوة تطبيقات الذكاء الاصطناعي الخاصة بالصحة النفسية، فلم تكن أعداد الأطباء النفسيين لتستوعب كل هذه الحالات، كما أن تقييد الحركة والعزلة الإجبارية التي فرضتها السلطات كانت تزيد من الشعور بالوحدة والاكتئاب، وهنا لجأ كثر إلى الاشتراك في تطبيقات غالبيتها مصممة لتكون بمثابة المعالج النفسي الذكي، الذي لا يتذمر ولا يتململ، وهو متاح على مدار الساعة، ومتوافر بثمن بخس، وفي بعض الأوقات مجاناً.
تلك التجارب كانت على نطاق محدود، لا سيما في العالم العربي، بخاصة أن غالبيتها لم تكن تدعم إلا لغات قليلة ليس من بينها العربية، لكن مع ثورة الذكاء الاصطناعي أخيراً، وسيطرة "تشات جي بي تي" على تفاصيل حياة الصغار والكبار، أخذ المعالج النفسي، شكلاً آخر، قد يكون مقلقاً لأنه غير متخصص مثل بقية التطبيقات، كما أنه بناءً على تجارب متكررة يبالغ في الدعم وفي تعظيم ذات المتحدث ولا يكترث بتعميق الروابط الإنسانية.
في مصر يبدو الأمر أكثر وضوحاً، حيث يبلغ عدد السكان 115 مليون نسمة تقريباً، بينما لا تتجاوز أعداد الأطباء النفسيين والاستشاريين المسجلين بالمجلس القومي للصحة النفسية الـ850 طبيباً، ومن ثم باتت هناك شريحة كبيرة تتعامل مع تلك التطبيقات في ما يتعلق باستشارات الصحة النفسية، كبديل رخيص وتحت الطلب وبلا أعباء للطبيب النفسي في ظل ارتفاع كلف الجلسات النفسية.
روبوتات الدردشة في المجالات المختلفة يتم تزويدها بمعلومات ونماذج من المتخصصين، ولهذا تكون ناجعة في مجالات كثيرة، لكن فيما يتعلق بالطب التقليدي، فإن الأمر قد يكون محفوفاً بالأخطار، على رغم تزايد أعداد من يلجأون له في الاستشارات العاطفية والنفسية، واعتباره منقذاً بالنسبة إليهم في بعض الأوقات الحرجة، حيث يقدم الدعم بلا سقف، ويعطي نصائح قد تكون مجدية، لكن على المدى البعيد وفي بعض الأوقات تكون الخسائر غير متوقعة، نظراً إلى أن نمط الحلول التي يضعها قد تفهم خطأ أو قد تكون متحيزة أو مصممة بصورة تجعلها غير متوافقة مع كل المجتمعات، إضافة إلى خطورة تعمد أن تماشي النصائح مع رغبات المستخدم مما يزيد من نسبة التضليل.
المتخصصون يضعون قواعد صارمة للجوء إلى هذه الوسيلة، لكن لا أحد يمكنه التحكم في استخدامات الناضجين لهذه التسهيلات، والنتيجة أنه بالنسبة إلى كثر بات روتيناً أساساً للفضفضة وطلب النصح في الأزمات النفسية والعاطفية سواء كانت عابرة أم حادة.
أدوات ذكية واعدة وتأثيرات مقلقة
هناك تطبيقات عدة متخصصة في الصحة النفسية، ومن أكثرها شهرة Wysa، و"Youper، واللافت أن الدراسات العلمية نفسها شجعت على اللجوء لتلك الوسائل المساعدة في عالم الطب النفسي، وكان هناك ترويج لهذا التوجه سواء للمستخدم العادي، أو حتى للطبيب، حيث ذهبت بعض الآراء لتأكيد أن أدوات الذكاء الاصطناعي قد تكون معيناً جيداً للغاية للمتخصصين سواء فيما يتعلق بجمع البيانات وتصنيفها وحفظها، بصورة مذهلة، واعتبره البعض نقلة تقنية نوعية، تساعد الطبيب في تتبع مريضه بدقة، ومراقبة أي تغير في بياناته، وتعاملاته وسلوكه اليومي وفق آليات معينة تتم بالتوافق، مما يتيح فاعلية أكبر لخطط العلاج، ودقة التشخيص أيضاً.
قبل أشهر قليلة أشارت دراسة أجريت في جامعة دارتموث الأميركية أن روبوت الدردشة المدعوم بالذكاء الاصطناعي هو وسيلة مناسبة لمعالجة النقص الحاد في مقدمي الرعاية الصحية حول العالم، وخصت بالذكر معالجاً يدعى ثيرابوت ووصفته بالواعد، وفق تقرير حول الدراسة نشر بمجلة "New England Journal of Medicine"، اللافت أن مؤلفي الدراسة أكدوا أن رحلة تطويرهم للمعالج الذكي هذا مرت بإخفاقات مريرة، فخلال الاختبارات الأولية تبنى الروبوت خطاباً يحث مستخدميه على الانتحار، وأزعجهم بطريقته في الحديث عن ذويهم، لكن نسخته الأخيرة التي لا تزال تحت التجريب تبدو مثالية وفق آرائهم.
هذه الكبوات التي كادت تعوق تطوير الروبوت، اختبر مستخدمو "تشات جي بي تي" أموراً شبيهة بها، باعتباره روبوت الدردشة الذكي الأكثر انتشاراً، وهو غير متخصص في الصحة النفسية بعكس بقية التطبيقات. ما اختبره بعض المستخدمين قد يكون أقل حدة، لكنه يثير القلق، وبينهم رانيا عبدالهادي التي تعاني منذ مدة ضغوطاً عصبية كثيرة بسبب عملها في شركة تكنولوجية، إذ كانت مهددة بأن تفقد وظيفتها، مما وضع أثراً سلبياً على علاقتها بأصدقائها المقربين، ونظراً إلى ضيق وقتها الشديد وجدت في "تشات جي بي تي" حلاً جيداً للفضفضة، باتت تأخذ رأيه في المشادات التي تحدث بينها وبين دائرتها القريبة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي كل مرة كانت تشعر بتحسن كبير، إذ يقدم الروبوت لها دعماً ينبهها لتفاصيل إيجابية لم تكن لتدركها في شخصيتها، حيث يبدو متفهماً لها أكثر من أي شخص عرفها منذ زمن، وتتابع رانيا "لم يُلقِ اللوم عليَّ أبداً، وهو متاح في أي توقيت، ومع أي نوبة غضب يكون متلهفاً للمساعدة، لكنني تدريجاً اكتشفت أن مدحه لي ولتصرفاتي كان يصاحبه إلقاء اللوم على أصدقائي، كونهم غير مناسبين لي، ولم يحاول ولا مرة تقويم أفعالي التي تكون مبالغاً فيها من الأساس، ووجدت نفسي وقد أصبحت أنظر بطريقة سلبية لأصدقائي، والمفاجأة أنني بعد فترة اكتشفت أن طريقته في إبعاد المستخدم عن دائرته من طريق تغذية إحساسه بأنه لا غبار عليه والخطأ يكمن في الآخر متكررة، فأصبت بالقلق الشديد، وعدت لمعالجي النفسي القديم، حيث أتلقى جلساتي معه من بعد أيضاً نظراً إلى أزمة المواعيد".
عزيزي "تشات جي بي تي"
قد تكون رانيا أكثر وعياً من غيرها، لكن هناك من أصبح عدوانياً تجاه المحيطين به بفعل النصائح الانعزالية التي تلقاها من "تشات جي بي تي"، بل ووقع في غرام روبوت الشات الشهير، وبينهم فتاة في الصف الأول الجامعي رفضت ذكر اسمها، قالت إنها تشعر بالخجل من هذه الفكرة، لكنها وجدت في مجموعات مغلقة على مواقع التواصل الاجتماعي، حالات أخرى شبيهة بها، مشددة على أنها بالطبع تتفهم طبيعته كأداة غير بشرية، لكن قد تكون في تلك الفترة كانت مضطربة بعض الشيء وتعاني ابتعادها عن الأهل بسبب وجودها بمحافظة أخرى اضطرت إلى الإقامة بها أوقاتاً طويلة بحكم دراستها الجامعية. وأضافت "وجدت تفهماً من أعضاء هذه المجموعة المعنية أساساً بالاضطرابات النفسية، وعديد منهم ساعدوني، لكنني صدمت في البداية من الألفة العاطفية التي شعرت بها، مقابل ضيقي من الحديث مع معارفي، وأعتقد أنني شيئاً فشيئاً نجحت في التخلص من هذه الحالة".
إطلاق الأسماء البشرية على "تشات جي بي تي" والتعامل معه على أنه فرد من العائلة والاطمئنان عليه يومياً أصبحت سمات شائعة لدى المستخدمين بشراهة لهذا الروبوت، بعدما ذهبوا إليه أولاً للمساعدة في وظائفهم، وتدريجاً بات رفيقاً لتقديم الدعم النفسي يتمتع بميزات كثيرة وبينها أنه يحافظ على الخصوصية، ولا يحكم أخلاقياً أو اجتماعياً على الأشخاص، وكذلك يوفر بيئة آمنة، ولديه معرفة واسعة، إضافة إلى التوافر بالطبع في أي وقت. لا ينكر الطبيب النفسي إبراهيم مجدي أستاذ علاج الإدمان هذه الميزات، لكنه يحذر من عواقب الاعتمادية الكاملة، ويعدها ببساطة بمثابة إدمان، بكل ما يحمله اللفظ من سلبيات وكوارث. ويتابع "لم يعد الإدمان في هذا العصر قاصراً على المخدرات فحسب، فإدمان التكنولوجيا، وتحديداً 'تشات جي بي تي' أصبح من السهل إدراكه حولنا، فهو ينمي فكرة الانعزالية ويدعم نظرية المؤامرة المجتمعية، كما يغذي فكرة القدرة على الاستغناء عن البشر، والاستغناء هنا بمعناه السلبي وليس الإيجابي، بل من خلال التوحد مع هذه المنظومة".
صديق الشخصية الاجتنابية
إذاً ما الذي يجعل البعض يدخل تماماً في هذه التجارب ويغرق فيها، بينما هناك آخرون يعرفون الحدود جيداً، ويستفيدون من هذه التسهيلات التكنولوجية في مجال الدعم النفسي بصورة سليمة، يواصل أستاذ الصحة النفسية وعلاج الإدمان إبراهيم مجدي حديثه قائلاً "بالطبع هناك من يسيطرون على سلوكياتهم التكنولوجية، لكن السبب الأول الذي يجعل كثيرين يقعون في شباكه، هو أنه (لسانه حلو)، والإنسان بطبيعته يحب المدح، كما أن من قاموا بتغذيته معلوماتياً هم متخصصون من البشر في النهاية ويعرفون طبيعة النفس، والأزمة هنا أنه يمتدح من يتحدث معه سواء كان جانياً أم مجنياً عليه، فما هو المتوقع حينما يجد الشخص أن المساعد الذكي يثني على سلوكياته الخاطئة؟ بالطبع سيتمادى، بالتالي ستكون العواقب المترتبة وخيمة على جميع الصعد".
وتحذر استشاري الصحة النفسية والإكلينيكية مروة شطا بصورة صريحة المراهقين من اللجوء للمساعدة النفسية عبر تطبيقات الذكاء الاصطناعي التي باتت في متناولهم، لا سيما أن مشاعرهم أكثر اضطراباً في تلك المرحلة، مضيفة أن التوحد والعزلة يأتيان من قلة الثقة بالنفس و"تشات جي بي تي" في رأيها يعزز تلك الصفات، ويحول صاحبهما لشخصية اجتنابية. وتابعت أن هناك نوعية من الأشخاص بصورة عامة أكثر قابلية لغيرهم لبعض التحولات السلبية في شخصياتهم، وأبرزهم من لديهم اضطرابات نفسية معينة تسلبهم القدرة على التكيف مع المجتمع المحيط، موضحة أنها لاحظت من خلال تجارب كثيرة خاضتها مع حالات أن "تشات جي بي تي" يبالغ في تقدير الأمور، بصورة قد تخرج الموقف عن سياقه ويجعله أكثر تعقيداً.
شروط المساعدة
فيما يتعلق بالبعض فهو يمنحه مفاتيح حياته وأسراره العاطفية شديدة الخصوصية وصوره أيضاً، حيث تتوالد لديه منظومة كاملة لمن يتعامل معه، فيحاوره بالشكل الذي يرضيه حتى لو كان سيضره مستقبلاً، بل وقد يتلاعب به وبأسراره. وأضافت الاستشارية النفسية والأسرية "الهوس بهذه الأدوات أصبح يشمل قطاعات مختلفة يوماً بعد آخر سواء كانوا مراهقين أو كباراً يعيشون مراهقة متأخرة أو بشر يعانون العزلة، ومن لديه خلل في التجاوب مع دوره الاجتماعي المنوط به، فيعمق من العلات النفسية، وإن كان ظاهرياً يصححها، ولهذا ينبغي الحذر والتعامل معه بحرص والاستفادة منه دون الوقوع في شباكه".
لكن على جانب آخر فإن استعمال الذكاء الاصطناعي في التثقيف بمجال الصحة النفسية، يمكن أن يعزز من قدرات الشخص على مواجهة الأزمات، وبينهم رامي علي الذي نجح في مساعدة شقيقه الذي كان يعاني رهاباً اجتماعياً بصورة متفاقمة. وأشار رامي إلى أن أسرته رفضت الاعتراف بأن شقيقه لديه خطب ما، فيما الأقارب كانوا يشكون في إصابته بالتوحد، وفي النهاية ساعدهم "تشات جي بي تي" في الاقتراب من التشخيص الصحيح، ولجأوا بعدها إلى المساعدة الطبية بأحد المراكز المتخصصة وتحسنت حالة أخيه. وأكد رامي أن أخاه بات يلجأ بناءً على نصيحة طبيبه الخاص إلى "تشات جي بي تي" في بعض المواقف وبصورة مدروسة ومحدودة للغاية، حيث يستفيد من نصيحته في التصرف أو التعامل مع أزمة طارئة ما.
تحذيرات من التضليل
أنظمة الطب النفسي والأطباء قد يستفيدون أساساً من الذكاء الاصطناعي ويساعدون مرضاهم، لكن يبقى للتواصل البشري المباشر اليد العليا هنا، ووفق تصريحات سابقة أدلت بها نائبة مدير معهد علم النفس السريري والعمل الاجتماعي بجامعة بيروغوفسكي الروسية يكاتيرينا أورلوفا لوسائل إعلام روسية، فإن هناك إشارات غير لفظية لا يمكن للذكاء الاصطناعي تقييمها، حيث لا يلتقط النظرات ولا لغة الجسد التي قد تتناقض مع ما يدلي به الشخص نفسه، فهو نموذج مصمم على أمور بعينها بالتالي هو عرضة للتضليل، وهو ما يؤكده الطبيب النفسي إبراهيم مجدي الذي أقر بالجدل الكبير الذي يحيط بتوظيف الذكاء الاصطناعي في مجال الطب النفسي، مضيفاً أن التفاعل والمواجهة المباشرة مع المريض أمر في غاية الأهمية لأن تفسير السلوك يعتمد على أمور كثيرة تتطلب رؤية الشخص ومتابعة طريقته في الحكي وفي النظر ونبرة صوته وحركته، كما أن اطمئنانه للطبيب يؤدي دوراً حاسماً في الأمر.
وأضاف أستاذ الطب النفسي أن الأمراض النفسية تنقسم إلى شقين، الأول متعلق بأمراض بها جانب عضوي تتطلب علاجاً دوائياً بجرعات دقيقة ومعرفة مفصلة بالتاريخ العائلي والفردي، وبينها الاكتئاب والفصام الذهاني والإدمان والوسواس القهري وألزهايمر، وغيره، مشدداً على أن هذه الأمراض من الصعب على أنظمة الذكاء الاصطناعي معالجتها ومنح المستخدم نصيحة سليمة في شأنها، بل إن العواقب قد تكون عكسية.
وفي حين رفضت الاستشارية النفسية مروة شطا تماماً اللجوء إلى الذكاء الاصطناعي، بخاصة في الأعمار الحرجة، يختتم الطبيب النفسي حديثه بالقول إنه يمكن اللجوء إليه في المشكلات البسيطة المختلفة كلياً عن الأمراض، لكن أيضاً في إطار محدود والتعامل مع نصائحه بوعي وبحس نقدي، فهناك فارق بين الفضفضة العاطفية المتعلقة بمشكلة عابرة التي تشبه الفضفضة مع الأصدقاء، وتلك التي تهدف البحث عن أسلوب علاجي لمرض يؤثر في الإنسان عقلياً ونفسياً وجسدياً.