ملخص
تتسبب موجات الحر المتكررة وارتفاع درجات الحرارة في أوروبا في تغيير سلوك السياح، حيث بات كثر يعيدون النظر في وجهاتهم الصيفية التقليدية مثل إيطاليا وإسبانيا، مفضلين أماكن أكثر برودة وأقل ازدحاماً، مما يعكس تحولاً في العادات السياحية نتيجة تفاقم أزمة المناخ وتغير أولويات المسافرين.
يتمثل أحد الجوانب الغريبة في الطبيعة البشرية أنه عندما يكون الجو حاراً جداً، يصعب علينا تخيل الشعور بالبرد الشديد. وعندما يكون الجو قارس البرودة، يصعب علينا تخيل الشعور بالحر الشديد. رغبة البريطانيين والإيرلنديين في قضاء عطلة صيفية حارة هي تقليد متجذر، لكن المصطافين في شمال أوروبا يدركون أن ارتفاع درجات الحرارة في وجهاتنا المفضلة كإيطاليا وإسبانيا وفرنسا، قد يُفسد العطلة تماماً كما يُفسدها المطر الغزير في رحلة تخييم في كورنوال.
عادت صديقتي كيت، وهي معدة مهرجانات اسكتلندية، أخيراً من ميلانو، من رحلة كان من المفترض أن تكون عطلة صيفية مبكرة حافلة بالأنشطة الثقافية. قالت لي: "كان هذا بمثابة جرس إنذار، لأن موجة الحر حالت دون قضاء العطلة التي خططت لها". وتابعت شارحة "سرعان ما أدركنا أن زيارة المتاحف من دون مكيفات هواء هو أمرٌ مُرهقٌ للغاية في ذروة حر الظهيرة. أعدنا حجز مختلف المواعيد والأنشطة، مُستغلين أوقات الصباح الباكر وأواخر المساء، واضطررنا إلى دفع المال لسيارات الأجرة مقابل الرحلات لمسافات قصيرة كنا ننوي قطعها سيراً على الأقدام، لذا كان النزول في مكان إقامة في وسط المدينة أمراً من دون جدوى".
وتوضح أنها عندما انطلقت من إدنبرة، كانت تتطلع إلى الاستمتاع بأشعة الشمس الإيطالية ولكنها "للمرة الأولى، أدركت أن الحرارة الشديدة يمكن أن تشكل عائقاً - وربما حتى خطراً - أثناء العطلة".
من البديهي القول إن موجات الحر وارتفاع درجات الحرارة في جميع أنحاء أوروبا ترخي بظلالها وتخلف عواقب وخيمة تتجاوز إفساد العطلات. وفي هذا السياق، قدر العلماء أن موجة الحر الأوروبية الأخيرة التي استمرت 10 أيام (والتي خفت حدتها في بداية يوليو "تموز") تسببت في أكثر من 2300 حالة وفاة في 12 مدينة أوروبية، وطاولت بشكل متفاوت كبار السن والأطفال والأشخاص الذين يعانون مشكلات صحية وعمال البناء وغيرهم من العاملين في الهواء الطلق.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبغض النظر عن موجات الحر القصيرة، فإن الارتفاع المستمر في درجات الحرارة يُعد مؤشراً سوداوياً على تفاقم أزمة المناخ. وفقاً لخدمة كوبرنيكوس لتغير المناخ التابعة للاتحاد الأوروبي، كان الشهر الماضي ثالث أشد شهور يونيو (حزيران) حرارةً على الإطلاق.
بصفتي كاتبة في شؤون السفر والرحلات مقيمة في برشلونة، يصعب عليّ إيجاد أية نقطة إيجابية حول هذا الوضع، إلا الأمل في أن يشجع ذلك السياح على تجنب الوجهات المزدحمة في ذروة أشهر الصيف. وكما تقول كيت "نخطط العام المقبل لعطلة نهاية أسبوع ثقافية في مدريد - ولكن في مارس (آذار). لن أخطط مطلقاً لعطلة قصيرة كهذه في مدينة في جنوب أوروبا في يوليو أو أغسطس (آب)".
وفي سياق متصل، يبرز بصيص أمل في أن تشجع درجات الحرارة المرتفعة في الصيف المسافرين على التفكير خارج نطاق وجهات الصيف التقليدية. فقد كشف تقرير لشركة ماكينزي لعام 2024 أن 80 في المئة من المسافرين يزورون 10 في المئة فقط من الوجهات السياحية في العالم، وبرز وعي متزايد بأن هذا الإقبال السياحي الكثيف يُسبب مشكلات في البنية التحتية، ويُلحق الضرر بالمواقع الطبيعية والثقافية، ويُسبب إحباطاً للسكان المحليين.
ربما تكون عطلة جنوب أوروبية كلاسيكية شديدة الحرارة عادة بريطانية وإيرلندية عزيزة على قلوب المصطافين، وعادة متأصلة ومتجذرة فيهم. ومع ذلك، يكفي قضاء عطلة واحدة أثناء ذروة موجة حر لتغيير رأي المسافر. ينظم صديقي كولم، الذي يعمل في مجال التعلم الإلكتروني، رحلة ركوب دراجات هوائية لمجموعة من الأصدقاء المقيمين في دبلن وباريس في يوليو من كل عام.
أخبرني أنه "قبل 10 أعوام كنت أحجز رحلات لركوب دراجات هوائية كلاسيكية في الأيام المشمسة، مثل جزيرتي لانزاروت أو مايوركا في إسبانيا. في أحد الأعوام، كان الجو حاراً جداً لدرجة أننا كنا نضطر إلى الانطلاق في الخامسة صباحاً للاستفادة القصوى من ساعات ركوب الدراجات المتاحة في اليوم. تعلمنا الدرس، وبتنا اليوم نسافر إلى وجهات شمال أوروبا الأكثر برودة وأقل ازدحاماً، مثل هولندا أو سويسرا. هذا العام، نسلك الطريق 1291، حول بحيرة لوسيرن. قليل من الرذاذ لا يُقارن بركوب الدراجات في حر شديد".
وكشف استطلاع حديث أجرته شركة التأمين على السفر "ستاي شور" Staysure (staysure.com) أن 88 في المئة من المسافرين في المملكة المتحدة يفكرون في إجراء تغييرات على وجهات عطلاتهم الصيفية، مشيرين إلى ارتفاع الكلف (32 في المئة) ومخاوف السياحة المفرطة (23 في المئة) و"درجات الحرارة القصوى" (22 في المئة) باعتبارها مصدر قلق رئيس.
وفي المقابل، يتلقف قطاع السفر هذا التحول ويستجيب له. وتقول مديرة المنتجات الأوروبية في شركة "أبركرومبي أند كينت" Abercrombie & Kent روبينا فروسيني "تتمثل أبرز التوجهات التي نشهدها في تزايد إقبال السياح على وجهات ذات مناخ أكثر برودة في الصيف، هرباً من الحر الشديد. وتضيف: "يُبدي المسافرون اهتماماً متزايداً بالمناطق الأقل استقطاباً للسياح في أوروبا، مثل سلوفينيا وجزر الأزور والسواحل الأقل شهرة في البرتغال وإسبانيا. كذلك يتجدد الاهتمام بالسفر إلى أوروبا خلال المواسم الأقل ازدحاماً، وحجز رحلات المشي في فصل الربيع لمشاهدة الزهور البرية في المناطق الجبلية، وجولات الخريف في مزارع الكروم في توسكانا الإيطالية وبوردو الفرنسية، والسفر في الشتاء لمشاهدة أسواق عيد الميلاد".
هذا الصيف، شهدت الوجهات على غرار إيرلندا والنرويج وسويسرا ارتفاعاً ملحوظاً في أعداد السياح. صديقتي كلوي التي تعمل في مجال الصحة العامة تصطحب ابنيها الصغيرين إلى ويست كورك في أغسطس المقبل. وتقول: "في العام الماضي، ذهبنا إلى الريفييرا الفرنسية، تخيلت في أحلامي بأنني سأستمتع بالمشاهد الشاعرية وأحتسي النبيذ بهدوء بينما يلعب الأولاد بسعادة في الخارج. لكن الجو كان حاراً جداً لدرجة أننا اضطررنا إلى قضاء فترة ما بعد الظهر في الشقة الصغيرة التي استأجرناها، نشغل مكيف الهواء، ونتركهم يشاهدون "نتفليكس" كثيراً. كل صباح من عطلتنا، بدلاً من أن نسأل: "ماذا نريد أن نفعل؟"، كان السؤال: "ما الذي يمكننا تحمله في هذا الحر؟".
اقتنصتُ هذه الفرصة السانحة لأخبر كلوي أن الريفييرا الفرنسية تم تسويقها في الأصل حصرياً كوجهة "شتوية"، ولم يكن أي سائح عاقل ليحلم بزيارتها في أغسطس الحار!
في أواخر العصر الفيكتوري، ازدهرت مدن المنتجعات السياحية في مينتون وكان وسان تروبيه ونيس، مقدمةً للأرستقراطيين الأثرياء والمصابين برهاب المرض (المهووسون بالصحة) بديلاً عن طقس الشتاء البارد والرطب في مدن مثل لندن ونيويورك. وتُظهر الملصقات السياحية القديمة التي تسوق لمنتجعات الريفييرا نساءً فاتنات ذوات قوام رشيق يرتدين معاطف من الفرو ويستمتعن بمياه المنتجعات الصحية المنعشة.
عندما زار فرنسيس سكوت فيتزجيرالد مدينة كان في عشرينيات القرن الماضي في يوليو، كان الهدف هو الاستفادة القصوى من أسعار العطلات خارج الموسم السياحي. وكتب أن السكان المحليين اعتبروا العائلة "مجنونة" بزيارة البحر الأبيض المتوسط في يوليو. وفي هذا السياق، لم تبدأ منتجعات البحر الأبيض المتوسط في استضافة موجة جديدة من السياح الأصغر سناً والأقل ارستقراطية إلا بعد الحرب العالمية الثانية - أولئك الذين يبحثون عن الشمس والبحر، والذين أصبحوا مرتبطين بشكل متزايد بالعطلات المدرسية. عندها انقلبت الفصول أي المواسم السياحية.
لا أخفي أنني أستمتع بإزعاج مُحبي البحر الأبيض المتوسط بهذا الجزء من تاريخ السياحة، لأنه يثبت أن اتجاهات السفر هي أكثر تقلباً مما نعتقد. فهي تُعطي أملاً في أن عاداتنا السياحية يُمكن أن تكون عرضة للتغيير. إذا وجدنا أن وجهات البحر الأبيض المتوسط شديدة الحرارة لدرجة لا تُطاق لزيارتها في صيف عام 2025، فقد اتفق الجميع على ذلك في وقت سابق يعود ما قبل 100 عام (1925).
© The Independent