Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ديفيد هوكني رائد البوب آرت بين المسابح والطبيعة

الجرأة البصرية والتجريب التقني ورهافة الضوء واللون في معرض تكريمي باريسي

هوكني الثمانيني جالساً في المعرض امام لوحة ذاتية له (مؤسسة هوكني)

ملخص

يطل الرسام البريطاني ديفيد هوكني الذي بلغ من العمر 88 سنة، على عالم الفن من نوافذ واسعة، من خلال أكبر معرض استعادي يقام له، تنظمه مؤسسة لويس فويتون في باريس.

برز الفنان البريطاني ديفيد هوكني منذ ستينيات القرن الماضي نجماً ساطعاً على ساحة البوب آرت، ولم يتوقف منذ ذلك الحين عن إعادة ابتكار لغته التشكيلية، جامعاً بين الجرأة البصرية، والتجريب التقني، وحساسية مرهفة تجاه الضوء واللون. من مسابحه المشمسة في كاليفورنيا، إلى لوحات البورتريه النابضة بالحياة، ومناظره الطبيعية الآسرة ومشاهد الفضاءات الداخلية. فرض هوكني أسلوباً بصرياً مميزاً في حواره الدائم مع الرسم وتقنيات عالم الصورة، كما عرف بشخصيته الجريئة والصادقة، التي لا تخشى الإفصاح عن ميوله ومشاعره، وعلاقاته العاطفية، ومجريات حياته اليومية. ومع تقدم السنوات، أدهش هوكني الوسط الفني بجرأته على اعتناق الوسائط الجديدة والفنون الرقمية وآخرها استخدامه لشاشة جهاز الآيباد iPad، في تحول نوعي يثبت أنه فنان لا تحده أداة، بل تحدده الرغبة الدائمة بالتجريب على ضوء التغيرات من حوله، إذ كثيراً ما ردد بأن: "الفن هو البهجة، ومرور الوقت هو الحياة، وهذا ما أرسمه".

بعد معرضه الأخير الذي أقيم له في مركز جورج بومبيدو عام 2017، يطل ديفيد هوكني في معرض استعادي تنظمه مؤسسة لويس فويتون  في باريس، ويمتد على مدار سبعة عقود من مسيرة الفنان البالغ من العمر 88 سنة، احتفاء بعطاءاته وإسهاماته في إثراء المشهد الفني في القرن الـ21، وكشخصية تعد من الأبرز والأكثر تأثيراً وحضوراً، لا سيما بعد أن سجلت لوحاته في السنوات الأخيرة أرقاماً قياسية في مبيعات أسواق الفن العالمية. هوكني الذي يتنقل حالياً على كرسي كهربائي، وعلى رغم تدهور حالته الصحية المتزايدة، وضع مخاوفه الصحية جانباً، ليشرف بشغف لا ينضب، على ما وصفه بأنه أكبر معرض في مسيرته الفنية الحافلة بالتحولات. يضم المعرض (الذي يستمر حتى الـ31 من أغسطس 2025)، أكثر من 400 عمل فني موزعة على أربعة طوابق، اختارها الفنان بنفسه، مع تركيز خاص على السنوات الـ25 الأخيرة من مسيرته، وهو ما دفع إلى تسمية المعرض بـ"هوكني 25". وفي هذا السياق اعتبرت سوزان باجيه، المديرة الفنية لمؤسسة فويتون، بأن "هوكني نفسه كان القيم الحقيقي على المعرض، حتى أنه تولى مسؤولية تصميم ديكور المعرض واختيار ألوان الجدران، التي تتراوح من البرتقالي الفاتح إلى الأزرق المخضر إلى الأصفر الليموني".

يستعيد المعرض لوحات من بداية مسيرته الفنية، ويسلط الضوء على بعض اللوحات الأيقونية التي دفعته إلى صدارة الفن العالمي في الستينيات والسبعينيات، كما يضم غرفة كاملة من البورتريهات، إضافة إلى مناظر طبيعية نابضة بالحياة ومشاهد ساحرة لضوء القمر. في الغرفة الأخيرة من بين 11 غرفة، يعرض عدد من الأعمال الجديدة التي أنجزها خلال العامين الماضيين، من بينها تأملات آسرة في الحياة الأخرى، مستوحاة من الكوميديا الإلهية لدانتي. وتبرز من بينها صورة ذاتية لهوكني من أحدث إبداعاته، تتجلى فيها لمسات من حسه الفكاهي، إذ يظهر جالساً في حديقته الزاخرة بأزهار النرجس، يرسم نفسه وهو يدخن سيجارة، ويرتدي شارة صفراء مثبتة على سترة بدلته الصوفية (التويد)، كتب عليها: «انته من التسلط قريباً».

تصدرت هذه اللوحة ملصق المعرض، إلا أن المفارقة كانت في قرار الرقابة التي منعت تعليق الملصق في محطات الميترو الباريسية، بسبب السيجارة الظاهرة في يد الفنان. وعلق هوكني على هذا القرار في صحيفة "اندبندنت" البريطانية قائلاً: «إنه قرار مؤسف، كثيراً ما كان الفن وسيلة للتعبير الحر»، وأضاف: «إنهم لا يعترضون إلا على الصورة، بينما في اللوحة التي أحملها تظهر السيجارة أيضاً! إنه ضرب من الجنون، بدأت التدخين في الـ16 من عمري، وأبلغ الآن 88 سنة، وأنا بصحة جيدة، شكراً لكم. أعشق التبغ، وسأواصل التدخين حتى أسقط».

تحت شمس كاليفورنيا

يستكشف المعرض بدايات موهبة هوكني (من مواليد عام 1937)، في منتصف خمسينيات القرن الماضي، حين كان طالباً في مدرسة برادفورد للفنون، من خلال أولى لوحاته الشخصية: صورة والده، الذي كان يصطحبه بانتظام إلى السينما في طفولته. يصور الفنان الشاب والده مرتدياً بدلة المحاسب، يحدق في الفراغ. تهيمن على اللوحة درجات الألوان الترابية، التي سرعان ما تخلى عنها هوكني عند التحاقه بالكلية الملكية للفنون في لندن عام 1959. ومن حقول مسقط رأسه يوركشاير، حيث كان يرسم بلا كلل، إلى منازل كاليفورنيا الخاصة المشمسة، بدأت رحلته الاحترافية في قلب مشهد فني كان مبهوراً آنذاك بالتجريدية الأميركية. اختار هوكني طريقاً مختلفاً عن مسار بولوك أو روثكو وسواهما من رموز مدرسة نيويورك، فابتعد من النزعة الاختزالية، وفضل الاحتفاء بالتشخيص والتصوير الواقعي، مصوراً العالم من حوله بعين منفتحة ومرحة ومتمردة. كان يرى أن الواقعية لا تقل ثورية عن التجريد، ما دامت نابعة من صدق التجربة ومشحونة بروح الاكتشاف. في هذا السياق، ابتكر لنفسه أسلوباً فنياً قائماً على الجمع بين عناصر عدة: حس البوب الجريء، وألوان فاقعة ومبسطة، وتكوينات مستوحاة من الصورة الفوتوغرافية، ومقاربات بصرية مبتكرة في معالجة المنظور.

تعد الشخصية البشرية مصدر إلهام لا ينضب له، ولغزاً حاول سبر أغواره في أعماله على الورق والقماش. لم يرسم هوكني الشخصيات بصرامة واقعية باردة، بل منحها بعداً حميماً، مستلهماً من قصصه الخاصة ومن حياة أصدقائه وعشاقه والمحيطين به. ومن طرائفه أنه حين طلب منه رسم بورتريه للملكة إليزابيث الثانية، أجاب قصر باكنغهام قائلاً: "مشغول للغاية". وغالباً ما رفض هوكني تنفيذ أعمال بتكليف رسمي، مفضلاً رسم من تربطه بهم علاقة شخصية، وقد صورهم في لوحات فردية أو مزدوجة، من أشهرها صورة الكاتب كريستوفر إيشروود والرسام دون باتشاردي، التي نجح فيها بمهارة في تجسيد العلاقة المعقدة وغير المتوازنة بين الرجلين. كان هوكني مثلياً بصورة علنية ومدافعاً عن الحرية الجنسية، وكانت لوحاته بمثابة صياغة ملونة لسيرته الذاتية، تتقد بالعاطفة والحس الشخصي، إذ تبقى التجربة الفردية أهم من أي تأطير نظري.

رسخ هوكني مكانته كرسام رائد في التعبير عن لذائذ الحياة الكاليفورنية، إذ بدأت تحت شمس كاليفورنيا تظهر أجمل أعماله داخل الفضاء الأزرق لمسابح المنازل الخاصة. ومن بين هذه الأعمال تبرز لوحة "صورة شخصية للفنان" التي تصوره إلى جانب شخص غامض (يعتقد أنه حبيبه السابق)، بينما يحدق هذا الأخير في حوض السباحة حيث تتراقص الخطوط مع بقع الضوء الشمسي، كذلك تعد "الرذاذ الأكبر" A Bigger  Splash  التي رسمها عام 1967، من أبرز أعماله، إذ يستكشف فيها هوكني كيفية تمثيل سطح الماء المتحرك باستمرار، وهي من اللوحات التي أسهمت بصورة كبيرة في شهرته وانتشاره.

استند هوكني في رسم الرذاذ إلى صورة فوتوغرافية عثر عليها في دليل لحمامات السباحة، وأسره أن الصورة تلتقط لحظة حدث في جزء من الثانية، فسعى إلى إعادة خلق هذه اللحظة عبر الرسم. أما المبنى الظاهر في اللوحة، فهو مأخوذ من رسم سابق لمنزل في كاليفورنيا، في حين تتناقض ديناميكية الرذاذ مع ثبات العناصر المعمارية الصارمة. هذا التباين بين الحركة والسكون أضفى على اللوحة طابعاً مفككاً مقصوداً. ويزيد من هذا الأثر الإطار الأبيض العريض للوحة، الذي يذكر بحواف صور البولارويد، التي استخدمها هوكني كثيراً لاحقاً في أعماله. في الواقع، واحدة من السمات المميزة لأسلوب هوكني، هي تحقيق تأثير بصري قوي من خلال بساطة التكوين، واعتماد مساحات لونية مسطحة، ومشهدية اصطناعية الطابع، تخلق معاً عالماً متخيلاً نابضاً بالحيوية والدهشة.

المناظر كآفاق مفتوحة

إن الفترة التي اختارها ديفيد هوكني لمعرضه في باريس، إلى حد ما، فترة استقراره في أوروبا، بعد سنوات قضاها في كاليفورنيا. ففي أواخر التسعينيات ومطلع الألفية الجديدة، بدأ هوكني حواراً أكثر عمقاً مع الطبيعة والمكان، عاد لحقول يوركشاير، موطنه الأول، ليستكشف مناظرها الخضراء وأشجارها المتعرجة بخطوطها النابضة. فظهرت أعماله واسعة الأفق، زاهية النبرة، تحتفي بدورة المواسم، وتبرز فيها قدرته الاستثنائية على الجمع بين دقة الرؤية وحس المشاعر. في عام 2004، اختار الاستقرار في بلدة بريدلينغتون الساحلية الصغيرة. أدار ظهره للبحر، وجاب الريف المحيط به، يملأ دفاتر رسمه بالألوان المائية والرسومات يتتبع تغير الفصول، في انصهار مع الطبيعة، معيداً التواصل مع الانطباعيين وتقنية الرسم الزيتي.

وقريباً من المناظر البانورامية الفخمة للغرب الأميركي، التي رسمها في تراكيب عملاقة، زاول هوكني التقنيات الحديثة، التي تمكنه من تجاوز حدود التمثيل التقليدي للرسم. فعلى سبيل المثال، استخدم المحاكاة الحاسوبية في إنجاز لوحة "أشجار كبيرة بالقرب من وارتر" (التي تحمل أيضاً عنوان "رسم من الطبيعة لعصر ما بعد التصوير الفوتوغرافي الجديد") عام 2007، وهي أكبر أعماله حتى الآن، وتتألف من فسيفساء من 50 لوحة. ثم جاء مشروعه الضخم «صورة أكبر»، الذي عرض عام 2012 في الأكاديمية الملكية بلندن، ليلخص هذه المرحلة من مسيرته: مناظر طبيعية ضخمة، بألوان مبهجة وتفاصيل كثيفة، تمد المشاهد بجسور بصرية بين التقليد والتجديد، وبين حضرة المكان وجمال اللحظة. جدد ديفيد هوكني فن المنظر الطبيعي عبر مقاربة حسية وبصرية تحتفي بجمال الطبيعة بقوله: "إن العالم جميل، لكن البشر عميان تجاه هذا الجمال".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هوكني البسيط والمتواضع والفضولي اليقظ والمثقف الخبير في تاريخ الفن، هو على غرار بيكاسو، الذي يكن له إعجاباً كبيراً، يقوم بمقارنة نفسه برسامي الماضي، ويشهد على ذلك من خلال البحث الذي يقدم أعمالاً لفنانين من مختلف الأجيال، في عمل تركيبي يحمل اسم "السور العظيم" (2000)، وهو جدار كامل علق عليه نسخاً من روائع من جميع أنحاء العالم، يجسد بذلك جرداً لمتحف خيالي، يمتد من فسيفساء بيزنطية من القرن الـ11، إلى فان غوخ وسيزان ومونخ، مروراً بأساتذة عصر النهضة الفلمنكية والإيطالية.

هوكني والنورماندي

في عام 2018، سافر ديفيد هوكني إلى نورماندي في فرنسا، إذ أعجب بنسيج بايو الشهير، وهو تطريز من القرن الـ11 بطول 68 متراً يصور الغزو النورماندي لإنكلترا. خلال إقامته، وقع في غرام المنطقة، لدرجة أنه اقتنى حظيرة نورماندية، تعرف باسم "المحكمة الكبرى". وفي عام 2019، انتقل للعيش فيها، من دون أن يدرك أنه سيجد نفسه محجوراً بين جدرانها في العام التالي، مع تفشي جائحة كوفيد.

في منزله، حول هوكني، على غرار مونيه الذي سبقه في حديقته في جيفرني، حتى أصغر زهرة إلى مصدر إلهام. تأثر بظهور أولى أزهار النرجس البري وإزهار أشجار التفاح، فالتقط أصغر علامات قدوم الربيع، جاعلاً عبارة "تذكروا أنهم لا يستطيعون إلغاء الربيع" شعاره الجديد. كان مجتهداً، يرسم ليلاً ونهاراً باستخدام شاشة الآيباد المضيئة، حتى أنه يتتبع مسار القمر فوق منزله. ومثلما اعتاد على رسم أحبائه، فقد كان يصور الأشخاص الذين يزورونه: الطبيب، وبائع الزهور، والجار القريب.

أبدع هوكني سلسلة من المناظر الطبيعية على جهاز iPad أثناء إقامته في شمال فرنسا بين عامي 2019- 2023، فرسم مجموعة من باقات الزهور المستوحاة من هنري ماتيس، إضافة إلى مناظر طبيعية نابضة بالحياة ومشاهد لا تنسى لضوء القمر. يختتم المعرض بعمل رقمي متطور، لشروق الشمس في نورماندي، باقتباس من الكاتب الفرنسي فرانسوا دولاروشفوكو François de La Rochefoucauld :"تذكروا، لا يمكنكم النظر إلى الشمس أو الموت طويلاً".

هكذا، رسم ديفيد هوكني على مدار 25 سنة من حياته منجزاً فنياً بالغ الحيوية، يشبه نهراً يجري باستمرار، متجدداً عند كل منعطف، مؤكداً أن سحر الفن يكمن في القدرة على الإصغاء للطبيعة والزمن.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة