ملخص
في المدافن لم يجد كاظم قبراً لشقيقه، أنزل الجثة على الأرض ووقف حائراً يبحث عن حفرة فارغة لمواراة أخيه، جال في المكان وسأل حارس المقبرة عن قبر، فجاءه الرد المتوقع "نفدت القبور".
هرع كاظم إلى المستشفى لإلقاء نظرة الوداع على شقيقه عدي، الذي قتله الجيش الإسرائيلي جراء غارة على محافظة خان يونس جنوب القطاع، وعندما وصل إلى مشرحة المرفق الطبي شد انتباهه لافتة سوداء على أسوار المكان مكتوب عليها "نفدت القبور".
قرأها كاظم ولم يعرها اهتماماً، فمصابه في فقدان أخوه كان عظيماً. وبعد الوداع حمل الشاب جثمان شقيقه لمواراته الثرى، وأثناء المغادرة ركز ثانية في اللافتات المعلقة على أسوار المشرحة وأخذ يقرأ "نعلم حضراتكم أنه لا قبور لدينا، نفدت الكمية التي كانت متوافرة".
وفي المدافن لم يجد كاظم قبراً لشقيقه، أنزل الجثة على الأرض ووقف حائراً يبحث عن حفرة فارغة لمواراة أخيه، جال في المكان وسأل حارس المقبرة عن قبر فجاءه الرد المتوقع، "نفدت القبور".
يصرخ كاظم بصوت عال، ويقول "حتى الموتى لم يجدوا مكاناً يضم أجسادهم تحت التراب، في غزة الموت يطرق الأبواب من دون توقف، وجثث القتلى لا تجد تراباً يضمها، هذا المشهد تقشعر له الأبدان، وأمر لا يستوعبه العقل".
مرت ساعة ولم يجد كاظم مكاناً لدفن أخيه. وإلى جانب الجثة اصطفت نحو سبعة جثامين لم يجد ذووها قبوراً لها.
مقابر فاضت واكتفت
من بين أزمات غزة العديدة برزت أزمة القبور بفعل الأعداد الكبيرة من قتلى الحرب، وتواجه السلطات المحلية صعوبات جمة في مجاراة الأعداد اليومية من القتلى وتوفير ما يلزم لدفنها، ابتداء من أكياس الموتى المستخدمة لانتشال القتلى من تحت الأنقاض، مروراً بالأكفان، وحتى القبور التي فاضت بما استقبلته من جثث.
أخيراً، أعلنت وزارة الأوقاف والشؤون الدينية داخل قطاع غزة نفاد القبور في المناطق جميعها، مشيرة إلى أن الواقع المأسوي دفع الأهالي إلى استخدام ساحات المستشفيات والمدارس والمنازل كمواقع طارئة للدفن.
يقول المدير العام للأملاك الوقفية في وزارة الأوقاف والشؤون الدينية مازن النجار "هذه نكبة مزدوجة، لم نعد نملك قبوراً ولا حتى ساحات كافية لدفن القتلى، استخدمنا الساحات العامة كملاذ أخير، وحولنا باحات المستشفيات إلى مقابر موقتة، لكنها لم تعد تكفي".
ويضيف "من لم يُدفن في المقابر الموقتة تُرك في العراء تحت أشعة الشمس، بينما ذووهم يرفعون أيديهم نحو السماء، عاجزين عن تأمين متر واحد من الأرض لمواراتهم الثرى".
أمام هذا الواقع الصعب، اضطرت السلطات المحلية إلى الدفن الجماعي عبر حفر قبور جماعية في مقبرة الطوارئ بطريقة الخطوط المتوازية وبعمق متر واحد فحسب، ويجري فيها رص الجثث إلى جانب بعضها بعضاً، وإهالة التراب عليها من دون وضع حجارة تحيط بالجوانب الداخلية للقبور.
ويوضح النجار أنه داخل غزة لجأت وزارة الأوقاف إلى فكرة الدفن الجماعي بعدما حصلت على فتوى وإجازة من الفقهاء تراعي حجم الكارثة والزيادة غير المسبوقة في أعداد القتلى، لكن حتى المدافن الجماعية نفدت، حيث دُفنت جثامين على مساحة 13 دونماً بصورة جماعية.
الآن نفدت المساحات
في الوضع الطبيعي تستنزف غزة كل عام نحو تسعة دونمات من المقابر، يكفي كل دونم لنحو 240 قبراً، لكن ضمن الحرب ومع النزوح المستمر وسيطرة إسرائيل على الأرض تزداد الأزمة ولا يجد السكان مكاناً يدفنون فيه القتلى.
في حالات الحروب، تشكل أزمة الجثث تحدياً وتخلف أخطاراً صحية تترتب على التعامل غير السليم معها، وفق بروتوكولات التحضير والتخلص منها بصورة آمنة حتى لا تتحلل وتتعفن، بالتالي تؤدي إلى انتشار الأمراض.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يقول مدير المكتب الإعلامي الحكومي إسماعيل الثوابتة "في بداية الحرب خصصنا قطعة أرض فضاء لدفن الجثث بصورة جماعية، لكن المقابر لم تعد تستوعب مزيداً من الأعداد، لذا يحول أهالي غزة مزيداً من مواقع الفضاء بما فيها الأسواق والملاعب وخلافه إلى مقابر جماعية، والآن نفدت المساحات".
لم تعد فرق وزارة الأوقاف تتبع الدليل الميداني للجنة الدولية للصليب الأحمر لدفن جثث قتلى الحرب، ويضيف الثوابتة "نواجه محدودية الإمكانات اللوجيستية نتيجة عدم وجود وسائل مساعدة في التعامل مع آلاف الجثث حتى ننفذ المعايير الصحيحة لتجنب الأخطار الفعلية التي تشكلها الجثث".
ويوضح أنه مع فرض إسرائيل قرارات إخلاء المناطق السكنية والنزوح القسري والسيطرة على نحو 77 في المئة من مساحة غزة وازدياد أعداد القتلى بصورة يومية، تقلصت الأراضي المتاحة للدفن حيث تحولت إلى خيام تؤوي النازحين، مما أدى إلى تكدس الجثامين داخل المستشفيات وساحاتها".
كل معالم الحياة والموت
ودمرت إسرائيل ضمن حربها على غزة نحو 40 مقبرة من أصل 60 مدفناً داخل القطاع، ومنعت المواطنين من الوصول إلى المقابر الواقعة ضمن مناطق سيطرة الجيش الأمنية والعسكرية، مما أدى إلى تقلص المساحات المخصصة للدفن واستنزاف المقابر القائمة، وتفاقم العجز الحاد في القبور اللازمة لدفن القتلى.
وخلال وقت نفدت القبور اضطر أحمد إلى فتح قبر والدته القديم من أجل دفن جثامين إضافية داخله، ويقول "لم أجد وسعاً لمواراة أختي، اضطررت لدفنها في قبر أمي، كان هذا الحل الوحيد المتاح أمامي".
توافر القبور أمر صعب جداً، وبخاصة إذا ما وضعنا في الاعتبار أن ثمن بناء القبر الواحد وصل إلى 320 دولاراً، وهو مبلغ مرهق للأسر التي فقدت معيلها، إذ تقول رنين "اشتريت قبراً لأدفن طفلتي بقيمة 320 دولاراً، ولم يكن كما عهدناه في المدافن".
لم يعد حفارو القبور يبنون المدافن كما في السابق من الحجارة والأسمنت، إذ يقول المدير العام للأملاك الوقفية مازن النجار "منذ بداية الحرب عملنا على مواجهة هذه المعضلة باستخدام الحجارة المستخرجة من المباني المدمرة، والطين كبديل للأسمنت، وألواح الزينكو بديلاً عن البلاط لتغطية القبور، غير أن الأزمة تتفاقم في ظل شح تلك المواد أو بدائلها، وارتفاع أسعارها بصورة كبيرة".
ويضيف "ممنوع دخول مواد البناء والأكفان والمعدات اللازمة لتجهيز القبور، مما يعوق دفن القتلى وفق المعايير الشرعية والإنسانية. إن حرمان السكان من حقهم في دفن موتاهم ليس فقط انتهاكاً خطراً للكرامة الإنسانية، بل يرقى إلى مستوى الأعمال الممنهجة التي تستهدف تقويض كل معالم الحياة والموت على حد سواء".