ملخص
في العام 1904 ظهرت للأديب الروسي مكسيم غوركي مسرحيته "المصطافون"، مع ظهور بوادر ثورة روسية أولى ستندلع وتخفق في العام التالي 1905، إنما ممهدة لثورة عام 1917 البولشفية التي كان غوركي نفسه من مفكريها وداعميها الكبار
كان الكاتبان الروسيان الكبيران، مكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، يعرفان بعضهما بعضاً إلى حد كبير، وكانا صديقين تقريباً على رغم أنهما لم يكونا متجايلين. ولكن غوركي سيقول إنه ما كان من شأنه أن يكتب أياً من المسرحيات التي كتبها لولا تأثير صاحب "الشقيقات الثلاث"، و"بستان الكرز" عليه. أما تشيخوف فكتب في واحد من أعوام حياته الأخيرة (1904) يقول عن غوركي إن "ميزته الكبرى تكمن في أنه كان أول من في روسيا، وفي العالم بصورة عامة، تحدث باحتقار ونفور عن الطبقة البورجوازية الصغيرة، في وقت كان المجتمع مستعداً تماماً لسماع احتجاجاته ضدها".
كان عام 1904 ذاك الذي ظهرت فيه لغوركي مسرحيته "المصطافون"، والعام الذي توفي فيه تشيخوف، الذي ظهرت فيه بوادر ثورة روسية أولى ستندلع وتخفق في العام التالي 1905، إنما ممهدة لثورة عام 1917 البولشفية التي كان غوركي نفسه من مفكريها وداعميها الكبار، ولا سيما بمسرحياته الثلاث التي ربما يمكن الاعتماد عليها للتوصل في فهم تلك الثورة بل الثورتان تباعاً. وهي تباعاً "الحثالة" و"البورجازية الصغيرة"، وأخيراً "المصطافون" التي نتناولها هنا، وربما لأن الأوان حان لإخراجها بعض الشيء من نسيان غابت فيه منذ زمن طويل.
ومن المعروف عادة أن تلك "الثلاثية" الطبقية كانت من الإبداعات التي مهدت للثورة الروسية الأولى ونالت في حينها شعبية كبيرة، ولكن لم تصمد منها حتى الثورة الكبرى سوى "الحثالة" التي تحققت لها شهرة وشعبية كبيرتان في العالم أجمع بينما كان النسيان الجزئي من نصيب "البورجوازية الصغيرة" والنسيان التام مصير "المصطافون"، وفي الأقل بالنسبة إلى هذه الأخيرة حتى عام 1976 حين أخرجها الألمانيان بيتر شتين وبوتو شتراوس من ذلك النسيان ليقدماها على خشبة شوباون البرلينية في اقتباس حقق نجاحاً كبيراً في حينه، وأعاد مسرح مكسيم غوركي لواجهة الأحداث المسرحية في العالم.
لا شيء يحدث
ولكن مهما كان من شأن العلاقة الفكرية بين غوركي وتشيخوف فإن "المصطافون" لا علاقة حقيقية لها بمسرح سيد الحداثة الروسية عند بدايات القرن الـ20، اللهم إلا انطلاقاً من كون الاثنين يتحدثان عن الطبقة نفسها ولكن بقدر متفاوت من الاهتمام، المحايد والتحليلي عند تشيخوف، والمليء بالتنديد والاحتقار لدى غوركي. ونحن نعرف على أية حال أن تشيخوف لم يكن مناضلاً اشتراكياً كغوركي الذي على رغم قوة مسرحه حرص على أن يسخره دائماً في خدمة مواقفه السياسية. وهو ما يفعله على أية حال في "المصطافون" التي لا بد من الإشارة إلى أنها كتبت في زمن كانت فيه روسيا تغلي وتعيش أزمنة ما - قبل - الثورة. والحقيقة أن المسرحية عرفت تماماً كيف تعبر عن هذا الغليان، حتى وإن لم تبلغ حد أن تجد ما يكفي من أحداث للتعبير عنه. صحيح أن معظم شخصيات المسرحية تعلن بقوة انتسابها لما يحدث، في "العالم الخارجي"، ولكن دون أن تشارك فيه حقاً. فهي في نهاية الأمر، تكتفي بالثرثرة من حوله. وذلك من خلال وجودها في كل لحظة وحين، في الديكور المسرحي البهيج الذي هو عبارة عن منتجع سياحي للأثرياء يمضون فيه إجازة الصيف كمصطافين يعيشون فراغاً لذيذاً بعيداً من ذلك "العالم المجنون"، بحسب تعبير واحدة من الشخصيات ذات لحظة. ولئن كانت الشخصيات تبدو على الدوام خاوية تافهة فإن الكاتب حرص ومنذ البداية على أن يجعلنا نفهم أنها في حقيقتها شخصيات غير عادية، إذ إنها في معظمها من المثقفين والطبقات العليا انطلاقاً من مهن كبيرة وناجحة تمارسها، فهنا ثمة أطباء ومهندسون وصحافيون ومحامون وعدد من رجال الدولة. هنا معظم الحاضرين هم ممن يطلق عليهم عادة اسم "كبار القوم"، غير أن أياً منهم لا يتصرف أو يتحدث كما يفعل الكبار الحقيقيون. واللافت أن غوركي صورهم وكأنهم أودعوا عقولهم وكفاءاتهم ومكانتهم المهنية في ثلاجة في انتظار أن ينتهي الصيف، تماماً كما يحدث للمصطافين الموسرين في أي مكان في العالم. لكن الذي يحدث هنا هو أن أحداث "العالم الخارجي" داهمتهم فوجدوا أنفسهم ينخرطون في تلك الثرثرة التي لا تنتهي، التي يجد الواحد منهم نفسه مجبراً على خوضها وكله أسف، لأن الأمر قد أفسد عليه إقامته في المنتجع البديع، فهل يذكرنا هذا بشيء؟
بين جولتي تسوق مثلاً
بالتأكيد يذكرنا، وكي لا نبتعد كثيراً في الزمان أو في المكان، بتلك المجتمعات العربية، إذ لا يفوت كثر منذ ما يقرب عامين أن يثرثروا حول غزة، بل حول ما يحدث في المشرق العربي وحتى في السودان واليمن، متفاعلين شاجبين، ولكن بين جولتي تسوق في المخازن الكبرى، أو سياحية في مدن الاصطياف، أو بين مبارتي كرة قدم ضمن إطار الاستعدادات لكأس العالم. وهنا قد يصل الأمر إلى حد البكاء والتفجع على مصير الأطفال الجوعى والجموع التي تسقط بفعل الصراعات المستمرة، لكن كل ذلك التفاعل يتوقف ما إن يصل المتفجعون إلى مدخل الأسواق الكبرى، إذ تنتظرهم البضائع الفارهة تنسيهم معاناة الصغار، وقد باتت معاناتهم ولكن ليس لأكثر من دقائق. وذلكم هو بالتحديد ما يتحدث عنه مكسيم غوركي (1868 - 1936)، بخاصة في هذه المسرحية التي ليس من قبيل المصادفة أن يكون ديكورها الطاغي، ذلك المنتجع الفخم في واحدة من غابات الاصطياف التي كانت على الموضة في روسيا عند بدايات القرن الـ20، ولكن ليس لكل الناس، بل للنخبة التي أكثر ما يريحها هنا هو أن المنتجع يقتطع مساحات بديعة من المكان ويسورها من حول كل صنوف الداتشا يقيم فيها المصطافون بحرية وسخاء لأسابيع أو حتى لأيام يتوخون منها أن تنسيهم أحداث العالم وهمومه، وربما همومهم العائلية أيضاً، قبل عودتهم متخمين لحياتهم المعتادة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ثرثرة في عالم الصمت
وتماماً لأن ما يهيمن أو ينبغي أن يهيمن هنا، هو عالم من الصمت المدفوع الثمن بسخاء من القادرين على الدفع، يبدو واضحاً منذ البداية أن هذا المكان لا يصلح لحدوث أي شيء، وبالفعل لن يحدث فيه أي شيء، حتى وإن كانت جرت العادة على أن يتجمع وسط سحر المكان مجمل شخصيات المسرحية في أوقات تجمع معينة، إذ يبدأ الطقس الجماعي بلحظات صمت مريح، ثم بالتدريج يتحدث أحدهم عما تناهى إليه من أحداث تعاش في ما يسميه "العالم الخارجي"، وهي غالباً أحداث لا تثير سروراً، ولكن ليس من شأنها أن تمضي من دون تعليق. وتبدأ التعليقات، خجولة في لا مبالاة أول الأمر، ثم صاخبة في تعدد مدهش للأصوات والتعليقات بعد ذلك. وهي تبدو في أحيان كثيرة غاضبة وتكاد تصل إلى حدود التسبب بالتشابك بالأيدي، غير أنها سرعان ما تهدأ، فما من أحد هنا يريد حقاً أن يسير بالأمور إلى نهاياتها المنطقية. فهم جميعاً موجودون كمصطافين وفي منأى، ولو بصورة نظرية، عن ذلك العالم الخارجي الذي ينفقون كثيراً هنا كي يبقى بعيداً منهم. أليس كذلك؟