وضعت الحرب بين إيران وإسرائيل أوزارها، فعادت الحسابات كما بدأت. من المهزوم ومن المنتصر؟ كلا الطرفين أعلن انتصاره، فيما تفرغت إسرائيل لتعميق نكبة الفلسطينيين.
لكن السؤال ظل يتردد: من حول المنطقة وفلسطين وغزة ولبنان وسوريا واليمن إلى أكوام خراب ودمار ومعاناة، ومشاهد إنسانية مفزعة للشيوخ والنساء والصبيان في قطاع غزة المنكوب؟
الجميع يعرف الجواب، حتى وإن اقتضت الكياسة تحميل إسرائيل كل المسؤولية.
أليست إيران أيضاً ألقت بالعواصم الأربع وغزة خامسها تحت أقدام الآلة الإسرائيلية العسكرية، التي جربت طهران أخيراً كيف أن منافستها في الجنون غير ممكنة؟
سألت قبل الحرب المفتوحة بين طهران وتل أبيب المحلل الإيراني محمد صالح صدقيان: هل هذا كل ما تهدد به طهران إسرائيل، حتى بعد خراب غزة وبيروت ومقتل حسن نصرالله؟ أجابني بأن "تلك مساهمة إيران، على الآخرين أن يدلو بدلوهم"!
أعدت السؤال في سياق آخر، بما يعني أن المزايدة على العرب، لا تكفي لتحرير فلسطين، فقد جرب العرب في ظل موازين القوى الراهنة مواجهة إسرائيل عسكرياً مرات عدة، ثم صارت النتيجة إلى ما هو معلوم، فكان خيار السلام والمفاوضات، الذي حقق منجزات عدة، ستكون أكثر لولا إفساد إيران ذلك وقبلها الأسدان حليفيها وصدام وغيرهم.
منذ أن دوّى زلزال 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، بدا واضحاً أن شيئاً ما أعاد تشكيل المشهد الفلسطيني برمّته. لقد بدت العملية التي نفذتها "حماس" بداية وكأنها ضربة موجعة لإسرائيل، لكنها تحوّلت سريعاً إلى بوابة جحيم على غزة، أحرقت البشر والحجر، وألقت بأهلها في أسوأ كارثة إنسانية عرفها العصر الحديث.
معالم الفخ... من التحريض إلى التخلي
اليوم، بعد مرور شهور على هذا الحدث، بدأت تتضح معالم الفخ الذي سُحبت إليه غزة، تحت غطاء "المقاومة"، وفي عمق الظلال الإيرانية التي رسمت المشهد ثم انسحبت إلى مقاعد المتفرجين، تحت غطاء الصبر الاستراتيجي، قبل أن تدخل في المعركة مرغمة لمصلحة طهران وليس غزة.
في حديث مع الصحافي السعودي المخضرم قينان الغامدي، حكى لـ"اندبندنت عربية" جانباً من تجربته مع النظام الإيراني واستهانته بدماء ضحايا معاركه، وقال "عندما غطينا الحرب العراقية - الإيرانية صدمنا بأن السائد بين الجنود أن الضحايا مهما بلغت أعدادهم فإن النصر قائم، والعدو مدحور. يرون المدد الإلهي بالمعنى العسكري لا ينقطع، حتى مع الهزيمة النكراء الماثلة للعيان"، مضيفاً أن تلك التجربة جعلته لا يستغرب إعلان إيران الانتصار في طهران أو غزة، مهما بلغت الخسائر في الأرواح، مؤكداً "لا قيمة للبشر عندهم في سبيل بقاء الأيديولوجيا".
في خلفية المشهد قبل السابع من أكتوبر، كانت طهران تبني مناخاً مشحوناً منذ شهور: تصعيد في الخطاب، وتحريك للجبهات، وتعبئة إعلامية، واجتماعات سرية لقادة المحور. حين انطلقت "حماس" في عمليتها الصاخبة، لم يكن خافياً على العارفين أن العملية لم تكن قراراً داخلياً صرفاً، بل نتيجة تشجيع وتنسيق على مستوى عالٍ مع إيران وأذرعها، بهدف استباق أي تقارب سعودي - إسرائيلي ونسف مشروع التطبيع الذي كان قاب قوسين أو أدنى من الإعلان.
لكن ما لم تحسبه طهران، أو لم تعبأ به، هو أن إسرائيل سترد بعنف غير مسبوق، خارج أي معايير أخلاقية أو قانونية، وأن المحور بأكمله سيعجز عن حماية غزة أو حتى توفير غطاء سياسي وعسكري حقيقي لها. فـ"حزب الله" بقي على الهامش، وميليشيات العراق اكتفت بالشعارات، والحوثيون أرسلوا الطائرات من دون أثر ميداني حاسم.
وبدا المشهد وفق الكاتب الأميركي توماس فريدمان، كما لو أنه مباراة بين طهران وتل أبيب أيهما أكثر جنوناً، "فإنك لن تستطيع فهم ما يجري في الشرق الأوسط الآن إذا لم تفهم أننا نرى في مسرح الصراع بين إسرائيل وإيران استراتيجية "لا يمكنك أن تتفوق عليّ في الجنون".
وحين يكون السباق على الجنون، من ذا الذي يتفوق على نتنياهو، حامل رايته حتى وسط إسرائيل، ناهيك بالمنطقة التي أسكره فيها غرور تفوق آلته العسكرية وحلفائه الغربيين، فلا ينظر إليها غير ميدان للنفوذ يلعب بخرائطه، إلا أن يشاء الله أمراً آخر.
المقتول أكرم من الحي
وحدها غزة وأخواتها، وسكانها المحاصرون، من تحملوا كلفة المغامرة الإيرانية.
بين أنقاض غزة، لم تُدفن فقط جثث الأطفال، بل دُفنت معها كرامة المواطن الفلسطيني الذي أدرك أنه كان وقوداً في معركة أكبر منه، معركة ترتبك فيها الحسابات الإقليمية والدولية، ولا أحد فيها يبكي على دموعه.
أكثر من 50 ألف قتيل وجريح، دمار شامل للبنية التحتية، وانهيار كامل للنظام الإنساني والخدمي، ثم تهجير جماعي هو الأقرب إلى التطهير العرقي. كل هذا جرى باسم المقاومة، لكن من دون مقاومة حقيقية، ومن دون غطاء ردع من محور قال يوماً إنه وجد ليحمي فلسطين.
بل إن المثير للسخرية، والمرارة، أن إيران نفسها حين تعرّضت بعض مواقعها للقصف في طهران أو أصفهان، حشدت دفاعاتها الجوية وردّت بحذر مدروس، بل وتواصلت مع الوساطات لتفادي التصعيد، بينما تُركت غزة مكشوفة تماماً، تواجه مصيرها من دون حساب.
نقمة الغدر وانكشاف الغطاء
إسرائيل ارتكبت في غزة جرائم لا تُغتفر، وأظهرت نموذجاً متوحشاً في إدارة الحرب، خالف كل قوانين الأرض والسماء، كما وصفه مراقبون من منظمات إنسانية وحقوقية حول العالم. لكن الوحشية الإسرائيلية، لا تبرر قصر النظر السياسي والأنانية الاستراتيجية لدى طهران.
أظهرت الأحداث أن طهران لا تتردد في إلقاء حلفائها في التهلكة لتحقيق أهدافها، ثم تتراجع عند أول تهديد لأمنها الداخلي. وما بين شعارات النصر في طهران، وخراب غزة، يتجلى التناقض المريع بين الخطاب والممارسة.
ففي الوقت الذي كان فيه سكان غزة يُقتَلون تحت الأنقاض، كانت كاميرات الإعلام الإيراني تحتفل بـ"الانتصار الرمزي" وتُبرّر "التضحيات الكبرى"، بينما كانت سفارات إيران تسعى لطمأنة المجتمع الدولي بأن طهران لا ترغب في التصعيد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في المقابل، وعلى رغم أن الهجوم في 7 أكتوبر جاء ليُجهض مشروع الاتفاق بين السعودية وإسرائيل، إلا أن المملكة لم تتراجع عن دورها العربي والإسلامي والإنساني، بل صعّدت جهودها عبر قنواتها الدبلوماسية كافة، ومارست ضغطاً متواصلاً على العواصم الغربية لكبح التغول الإسرائيلي ليس في غزة وحسب ولكن أيضاً على طهران، وقدّمت الدعم الإغاثي للمتضررين، وسعت بكل إمكاناتها لوقف إطلاق النار.
وأقر السفير الإيراني في السعودية علي رضا عنايتي بأن "الموقف السعودي من الاعتداءات الإسرائيلية الأخيرة كان مشرفاً"، مشيراً إلى أن الرياض لعبت دوراً فاعلاً في تهدئة الأوضاع والضغط لتفادي التصعيد. وقال: "نرحب بأي دور لإخواننا في المملكة، بخاصة سمو الأمير محمد الذي كان دائماً معنا".
تداعيات كارثية تطاول الجميع
عملت الرياض على خفض التصعيد في الإقليم، والواقعية التي لا تسمح لمصالحها بأن تُستغل في مشاريع الفوضى، ولا لأجنداتها أن تُدار من الخارج. فعلى عكس محور طهران الذي يقامر بالدم الفلسطيني، كانت الرياض تبني موقفاً أخلاقياً ثابتاً، برؤية تتجاوز اللحظة وتستشرف ما بعدها، إذ مصير الإقليم مرتبط، فلا ترى الاستقرار فيه ممكناً من دون حل للقضية الفلسطينية.
غير أن مجلس الوزراء السعودي أكد في جلسته غرة يوليو (تموز) الجاري أن ذلك يستدعي دوراً دولياً جماعياً، كي ينجح في "إنهاء التداعيات الكارثية للعدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني، وحماية المدنيين الأبرياء، وإيجاد واقع جديد تنعم فيه فلسطين بالسلام وفقاً لقرارات الشرعية الدولية".
كان المقصود من عملية 7 أكتوبر نسف مشروع السلام بين السعودية وإسرائيل، لكنه انتهى بانكشاف "محور المقاومة"، وأكذوبة الدعم الإيراني للفلسطينيين. لقد انتصرت إيران، رمزياً، في طهران على رغم الخسائر الثقيلة، حين ألحقت بإسرائيل الأذى وجنحت إلى السلم، لكنها هُزمت أخلاقياً وعسكرياً في غزة، وسقط قناع الممانعة لتتكشف خلفه سياسات لا تقيم وزناً لدماء الأبرياء كما إسرائيل، بقدر ما تنشغل برسم معارك الوهم على خريطة الهيمنة الإقليمية.
إن لم تكن هذه اللحظة مناسبة لمراجعة شاملة لفكرة "التحرير عبر المحور"، فمتى؟
"في يوم من الأيام، سيُسمح للمصورين والمراسلين الأجانب بدخول غزة من دون حراسة من الجيش الإسرائيلي. وعندما يحدث ذلك، ويتضح للجميع هول الدمار هناك، فإن رد الفعل العنيف ضد إسرائيل واليهود في كل مكان قد يكون عميقاً"، تلك هي محاكمة شهود الحقيقة التي يتوقعها فريدمان لقبيلة نتنياهو. هل بظن طهران وأذرعها أن ذلك سيطهر أياديها من الدماء الفلسطينية؟
النوم على وسادة "الشيطان الأكبر" والتغطية بملاءة "الصهاينة الأشرار" لن يكون دائماً مريحاً بما يكفي لتجنب العواقب، والحرب الأخيرة ليست نهاية المطاف، ما لم تتغير المعادلة.