Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

التحليق في زمن الحرب... البؤر الساخنة تحير الطيارين

تغيير الوجهات يرفع الأعباء المالية على الشركات فضلاً عن التأثير البيئي

يجد الطيارون أنفسهم يشاركون السماء مع وابل من الطائرات المسيرة والصواريخ (رويترز)

ملخص

ارتفعت حالات التشويش بنسبة 500 في المئة عام 2024 لتؤثر في نحو 1500 رحلة يومياً في المتوسط.

كانت أول إشارة إلى وجود خطب ما عندما بدأ الوقت على لوحة قيادة الطائرة يسير إلى الوراء، وكانت الطائرة تحلق على ارتفاع آلاف الأمتار فوق إسرائيل، وعندما لاحظ الطاقم هذا الخلل، تحققوا من إشارة نظام تحديد المواقع GPS، إذ أظهرت الأجهزة الداخلية للطائرة أنها تحلق على ارتفاع 1500 قدم (457.2 متر) فحسب، أي أقل بكثير من ارتفاع التحليق الاعتيادي البالغ 38 ألف قدم (11583.4 متر)

وبعد ثوان، بدأت أجهزة الإنذار في الصراخ وأضاءت الأضواء في جميع أنحاء قمرة القيادة.

يقول قائد الطائرة، "انطلق نظام تجنب التضاريس لدينا، محذراً من أننا نتجه نحو الاصطدام بتضاريس جبلية". وعلى مدى سنوات من الطيران، تدرب الطاقم على سحب المقود عند سماع مثل هذا الإنذار، لكن في هذه المرة لم يتخذ القائد أي إجراء.

كان الطاقم مستعداً لتعامل النظام مع تحذيرات "كاذبة"، وكانوا يعلمون من خلال الخبرة أنهم لا يزالون يحلقون على ارتفاع آمن.

قائد الطائرة الذي يعمل على خطوط الرحلات الطويلة لمصلحة شركة طيران بريطانية، قال إنهم تعرضوا لما يعرف بـ"خداع نظام تحديد المواقع GPS""، وهو واحد من سلسلة متزايدة من الأخطار التي تواجه شركات الطيران في عالم باتت فيه الحروب "أمراً طبيعياً جديداً" وسط تفكك في الدبلوماسية العالمية.

وفي حديثه لصحيفة "الغارديان" بشرط عدم الكشف عن هويته، وصف الطيار الحادثة التي وقعت العام الماضي بأنها كانت "مقلقة"، لكنه شدد على أن الرحلة لم تكن معرضة للخطر في أي لحظة. ومع ذلك عبر عن قلقه من أن مثل هذه الحوادث تجعل الطيارين أقل ثقة تدريجاً بالأنظمة الداخلية التي اعتمدوا عليها لعقود. وقال، "أنت مدرب على الشعور بعدم الارتياح عندما لا تتخذ إجراء، وهذا بالضبط ما شعرت به".

الطيران عبر الصراعات

ومنذ الحرب الروسية على أوكرانيا عام 2022، شهد العالم تصاعداً في النزاعات التي ترعاها الدول، وبحسب بعض المقاييس، فإن نسبة المناطق المنتظمة في الحروب حول العالم ارتفعت بنسبة 65 في المئة منذ عام 2021، وهي مساحة تعادل تقريباً ضعف حجم الهند، مع بروز بؤر توتر جديدة أو متجددة في أوكرانيا، والشرق الأوسط، وميانمار، ووسط أفريقيا.

ومع تقلص المسارات الآمنة في المجال الجوي وتشوهها، اضطرت شركات الطيران إلى تحويل مسارات رحلاتها لتجنب مناطق الصراع والنقاط الجيوسياسية الساخنة، بل وألغت بعض الخطوط تماماً.

وباتت معظم شركات الطيران الغربية ممنوعة الآن من التحليق فوق الأراضي الروسية، مما أجبرها على سلك مسارات أطول، مما أدى إلى زيادة في أوقات الرحلات وارتفاع الكلفة، ونتيجة لذلك، ألغت شركتا الخطوط الجوية البريطانية (British Airways) و"فيرغن أتلانتيك" (Virgin Atlantic) العام الماضي رحلاتهما المباشرة بين لندن وبكين.

أما بالنسبة إلى شركات الطيران الأخرى، فأدى تحويل مسارات الرحلات عبر الشرق الأوسط لتجنب المجال الجوي الروسي إلى استبدال الأخطار بأخطار أخرى، إذ إن الصراع يتوسع في المنطقة، ويجد الطيارون أنفسهم يشاركون السماء مع وابل من الطائرات المسيرة والصواريخ، بعضها اقترب بما يكفي ليشاهده الطيارون والركاب على حد سواء.

اندلاع الصراعات المفاجئة، كما شهدنا في وقت سابق من هذا الشهر عندما تحولت التوترات بين إسرائيل وإيران إلى حرب مفتوحة، أجبر شركات الطيران على الاستجابة بسرعة. وحين شنت إيران وابلاً من الصواريخ على قاعدة أميركية في قطر، اضطرت نحو 20 رحلة جوية إلى تحويل مساراتها بعيداً من أحد أكثر المحاور الجوية ازدحاماً في العالم، بين دبي والدوحة.

هذه الحادثة بينت كيف يمكن لآثار الضربات غير المتوقعة وإغلاق المجال الجوي أن تمتد تأثيراتها إلى أنحاء العالم، إذ اضطرت شركة "كانتاس" إلى تحويل مسارين جويين أثناء التحليق، في حين أعلنت "إير إنديا" تعليق جميع رحلاتها إلى شرق أميركا الشمالية وأوروبا بسبب ضيق المسارات بين هذه الوجهات وشبه القارة الهندية، وألغيت مئات الرحلات الأخرى بالكامل.

كلفة زيادة مسارات الرحلات والتداعيات البيئية

وتتسبب هذه التحويلات في زيادة الأعباء المالية على شركات الطيران، فضلاً عن تأثيرها البيئي، وعلى سبيل المثال، تستغرق الرحلات بين هلسنكي وطوكيو الآن ما يصل إلى ثلاث ساعات ونصف أطول مما كانت عليه قبل بدء الحرب في أوكرانيا، بحسب أستاذة مساعدة في إدارة الطيران بجامعة دبلن سيتي، فيكتوريا إيفانكوفا. وقالت إيفانكوفا، "كلما زادت مسارات الرحلات الجوية، سيزداد استهلاك الوقود وانبعاثات ثاني أكسيد الكربون".

وأظهرت أبحاثها أن الكلفة على بعض المسارات بين أوروبا وآسيا ارتفعت بنسبة تراوح ما بين 19 و39 في المئة، بينما زادت الانبعاثات بنسبة بين 18 في المئة و40 في المئة.

وأشارت إيفانكوفا أيضاً إلى تزايد خطر تعرض الطائرات للإصابة بصواريخ أو طائرات مسيرة، ففي عام 2014، شكلت حادثة إسقاط طائرة الخطوط الجوية الماليزية "الرحلة MH17" فوق شرق أوكرانيا مثالاً مبكراً على هذا التهديد الجديد. وأوضحت الاتصالات التي جرى اعتراضها بين الانفصاليين الموالين لروسيا أنهم كانوا يعتقدون في البداية أنهم أسقطوا طائرة عسكرية، وليس طائرة مدنية. ولفتت إيفانكوفا أيضاً إلى حادثة طائرة الخطوط الجوية الأذرية التي تحطمت في كازاخستان في ديسمبر (كانون الأول) 2024، مما أسفر عن مقتل 38 شخصاً. وبحسب الرئيس الأذري، فإن الطائرة أسقطت من طريق الخطأ بواسطة الدفاعات الجوية الروسية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وحتى بعيداً من مناطق النزاع النشطة، تظل الأخطار قائمة، إذ تدفع الدول بحدود الأعراف الدبلوماسية إلى أقصاها، ففي فبراير (شباط) الماضي، تحول مسار رحلات جوية بين أستراليا ونيوزيلندا بينما كانت الصين تجري تدريبات بالذخيرة الحية في بحر تسمان. ولم يكشف عن هذه التدريبات التي أجرتها ثلاث سفن حربية صينية إلا لأن السفن كانت تبث إشعاراً تنبيهياً على قناة لا تراقبها جهات مراقبة الحركة الجوية، لكنها التقطت من قبل أحد طياري "فيرغن أستراليا".

ويقول الطيار المتقاعد من الخطوط الجوية البريطانية وممثل السلامة الجوية في نقابة طياري الخطوط الجوية البريطانية، مايك ثرور، "طالما كنت أطير، كان هناك دائماً حرب تدور في مكان ما"، مضيفاً أن شركات الطيران "أصبحت ماهرة جداً في التخطيط لمسارات الرحلات حول تلك المناطق".

التشويش على نظام تحديد المواقع العالمي

ومع اتساع رقعة الصراعات وتقلص المجال الجوي الآمن، يواجه الطيارون تزايداً مقلقاً في ظاهرة أخرى وهي (GPS spoofing)، وتتضمن هذه الظاهرة بث أجهزة إرسال راديوية إشارات مزيفة تتلاعب بموقع الطائرة، مما يؤدي إلى إرسال بيانات خطأ لأجهزة الملاحة. وبحسب مجموعة "أو بي أس غروب" الدولية المتخصصة برصد الأخطار الجوية، ارتفعت حالات التشويش بنسبة 500 في المئة عام 2024، لتؤثر في نحو 1500 رحلة يومياً في المتوسط.

ويتركز هذا التشويش بصورة خاصة في مناطق النزاع، إذ تستخدمه الأطراف المتحاربة لبث مواقع مزيفة بهدف إرباك الطائرات المسيرة والصواريخ. وحددت "أو بي أس غروب" أبرز البؤر التي تشهد هذا النشاط في شرق البحر المتوسط (قرب إسرائيل ولبنان ومصر)، إضافة إلى البحر الأسود وغرب روسيا والحدود بين الهند وباكستان.

وقال الطيار الذي تعرضت رحلته للتشويش فوق إسرائيل "لا أعتقد أنه خطر في حد ذاته، لكن انتشاره يؤثر سلباً في السلامة".

أما الكابتن المتقاعد مايك ثرور، ممثل السلامة الجوية في نقابة طياري الخطوط البريطانية، فعبر عن قلقه من أن الاعتياد على تجاهل التحذيرات الآلية بات يشكل خطراً متنامياً، واصفاً الظاهرة بأنها نوع من "تطبيع الانحراف عن المعايير". وأضاف، "إذا أصبح جزء منك يفكر: (ربما هذا التحذير ليس حقيقياً، لنواصل فقط)، فأنت بذلك تدخل مستوى من التدهور في سلامة غرفة العمليات". وحذر ثرور من أن ترابط أنظمة الطائرة يجعل من آثار التشويش أكثر تعقيداً، موضحاً أن الأنظمة الملاحية تغذي عدة وظائف داخل الطائرة، وقد يؤدي اضطراب  GPSإلى توقف أنظمة أخرى عن العمل.

وفي تقريرها لعام 2024، قال "أو بي أس غروب"، إن الاعتماد المفرط على نظام GPS يخلق سلسلة معقدة تجعل تقييم الأخطار صعباً، مشيرة إلى أن التحذيرات الخاطئة أصبحت أمراً روتينياً، وأن بعض الطواقم الجوية اعتادت على رؤية ساعات قمرة القيادة تعود إلى الوراء بسبب التشويش.

لكن ثرور شدد على أن الطيارين مدربون جيداً لاكتشاف هذا النوع من الأعطال، فيما أظهرت نتائج استطلاع لـ"أو بي أس غروب" أن الغالبية العظمى من الطيارين يشعرون بالثقة في التعامل مع التشويش، وأن هذا لا يؤثر في راحة الركاب.

واختتم الطيار الذي تعرضت رحلته للتشويش فوق إسرائيل بالقول "أشعر أن الطيران لا يزال آمناً كما كان قبل أربع سنوات، لكن هناك عبئاً جديداً من الإجراءات والمسؤوليات التي علينا تذكرها. نحن بشر، وعندما تطير على ارتفاع 34 ألف قدم فوق منطقة تعد آمنة فوق 33 ألف قدم، من الصعب ألا تتساءل إن كان هذا الهامش كافياً فعلاً. لكن في نهاية المطاف... الطيران لا يزال آمناً للغاية، وواجبنا كطيارين أن نحافظ على ذلك".

اقرأ المزيد