Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لينا هويان: البادية السورية مجهولة والمرأة العربية بلا بوصلة

قصص عن نساء وساحرات وغرائب في رواية "حاكمة القلعتين"

الروائية السورية لينا هويان الحسن (صفحة الكاتبة - فيسبوك)

تقول الروائية السورية لينا هويان الحسن أن "من حق الكاتب أن يختلف. من حقه أن يختلف عن نفسه وعن غيره، فلا بأس أن يغامر لحظة الكتابة". قد يرى البعض في هذا الكلام أمراً عادياً وطبيعياً لكنه في الحقيقة صعب المنال. فطالما اتهم الكتاب العظام بأنهم يكررون أنفسهم مضموناً وأسلوباً وطالما وقع الكاتب في فخ الألفة الأدبية لدى كتابته نصاً جديداً، بمعنى أنه يكتب عما يعرفه وعما عايشه من دون أن يوسع آفاقه الأدبية، لكن لينا هويان الحسن تطبق في عملها الجديد مقولتها هذه وتقدم لقارئها نصاً جديداً غير متوقع مؤلفاً من اثنتي عشرة أسطورة واثنتي عشرة قصة واثنتي عشرة امرأة.

بعد "نازك خانم" بطبعاتها الكثيرة و"ألماس ونساء" التي وصلت القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية عام 2015، وبعد رائعتها "ليست رصاصة طائشة تلك التي قتلت بيلا" وأعمال روائية أخرى، تقدم لينا هويان الحسن لقارئها رواية جديدة بعنوان "حاكمة القلعتين، عن جنيات الشام وساحراتها وعرافاتها" (دار الآداب، 2022). رواية مختلفة وغير متوقعة ليس من ناحية الموضوعة أو الحبكة بل من حيث تقنية السرد وتطور الأحداث.

لينا هويان الحسن التي تعرف في الوسط الأدبي بأنها تميل إلى قصص البادية السورية وأخبارها هي التي وثقت لها في عدة روايات وعدة دراسات ("مرآة الصحراء، كتاب توثيقي عن البدو"، 2000، "رجال وقبائل، كتاب توثيقي عن أعلام البادية السورية"، 2013، إلخ) تقدم في نحو مئتي صفحة قصص عرافات وساحرات وأميرات ونساء فاتنات باهرات وسمن التاريخ بصلابتهن وعزمهن وأحلامهن.

السحر طريقة ومنازل

على غرار الطرق الصوفية التي يتبع فيها المريد طريقة شيخه تتبع راوية لينا هويان الحسن الخطوات التي تلقنها إياها أمها خاتون المغولية وتطبق أوامرها بحذافيرها لتتقن فنون السحر والغيب وفهم البشر، "من منكم ولد وأمه ساحرة؟! علمتني كيف أقرأ الفلك وكيف أقرأ قلوب الآخرين، وأسافر عبر السماء وأحمل كلامي للرياح". (ص: 12). تتبع الراوية تعليمات أمها وتمر باثنتي عشرة مرحلة لتتقن فنون السحر، فتلقى نساءً وساحرات وأميرات، تلقى الجن والعفاريت والأطياف، فتكتشف قصصهم وتنقلها للقارئ بفصول تكاد تكون مجموعة قصص قصيرة أو مجموعة أساطير. في كل سنة "وقت طلوع الشعرى اليمانية في يوليو (تموز)" تخوض الراوية مغامرة جديدة وتكتشف أسطورة وامرأة وقصة جديدة، ليتحول السرد إلى مراحل أو تحديات على الراوية البطلة أن تمر بها وتتخطاها لتبلغ مأربها وتبلغ مبلغ المرأة العارفة المتمكنة.

وفي حوار أجريناه مع لينا هويان الحسن لمناسبة صدور عملها هذا سألناها عن المجهود البحثي والجمعي الذي تطلبته كتابة هذه الرواية وعن شخصية الأم "المعلمة"، فقالت، "كان أبناء جيلي يشاهدون أفلام كارتون قبل النوم وأنا أستمع لحكايات عن ملكات الجان اللاتي يتقاسمن حكم البادية الشامية، فاستحضرت الماضي المبكر والمفعم بالرومانسية والخيال. يعلم الجميع براعة أبناء الصحراء في إضفاء طابع شعري زاخر على الكلام والعالم المحيط بهم، فزبدة ما يملكه البدوي (الخيال). أيضاً يعلم كل سكان البادية الوسطى في سورية والمدن المتاخمة لها -حلب وحمص وحماة وسلمية- عدد العرافين والمشتغلين بأعمال السحر، ولهؤلاء قدرات مدهشة بينها التنبئية، وقد كان لهم زوار من دول عربية بعيدة. حدث وأن سمعت عن كثير منهم ولكن كانت ثمة امرأة بعينها هي الأشهر والأقرب جغرافياً إلى دياري، حصلت منها على تميمة كان لها قصتها التي حركت ذاكرتي مجدداً وكتبت (حاكمة القلعتين). عشت متعة التغذي بغنى الموروث (السحري) المنسي والمتجاهل، والمشوه بتصورات سطحية أسهمت في ترسيخها روايات التسلية الشعبية حول قصص الجان والسحرة والأرواح وتناولتها على نحو تجاري مجحف ينم عن جهل كتابها. حاولت بشكل جاد اختطاف هذا العالم الجميل والمغوي من فك كتب التسالي الخفيفة. لم يكن ذلك سهلاً سواء على مستوى جمع المعلومات أو التقاط الأسلوب الأدبي الملائم لقص عوالم يترفع عنها عادة الأدب الجاد. كنت أمام التحدي الجمالي للغة التي يفترض اقتناصها لأجل فكرة غير معتادة بالعموم".

وعن علاقتها بالسحر وموضوعة الأساطير والخرافات المتكررة في أدبها، وهي التي تكتب في أحد أعمالها "كم حلمت أن أكون ساحرة". تقول الحسن، "سأعترف: أؤمن بما يسميه البشر (خرافات أو أساطير) ولا أثق بالواقع إنما أحتال عليه بتشييد مدن وعوالم وجغرافيات أخرى، تفوقه جمالاً ودهشة. كطفلة لم تبلغ سن الرشد، أرفض البشر الذين يشبهون الآلات نتيجة للغليان التكنولوجي. لا أبحث عن (الموضوع بل أترك له أمر مطاردتي)، أستعير هذه العبارة الرائعة من بورخيس، فالأمر مثلما يشعر القارئ بالرغبة في إعادة قراءة فصل من فصول رواية تعجبه، قصتي تعجبني، فأعيد روايتها في كل مرة بلغة مختلفة. في النهاية كما أعلن بورخيس: الأدب ليس أقل واقعية مما نسميه واقعاً. كان ساباتو يقول إن الإنسان في المقام الأول كائن عاطفي، وفي المقام الثاني مفكر. تلقيت تربية عاطفية وأثق أن كل حياتنا قائمة على إشارات لامرئية ترسلها روح إلى أرواح أخرى. لهذا أنا منحازة سلفاً للعالم اللامرئي، الغامض، الفاتن. لا يمكنني النظر إلى السماء من دون قراءة إشارات النجوم وخطى الكواكب".

فتنة الكلمات

يكتشف قارئ "حاكمة القلعتين" تشابهاً بين قصة الراوية وحياة الكاتبة لينا هويان الحسن، فكلتاهما ولدت في البادية السورية وكلتاهما درست الفلسفة في كلية الآداب بجامعة دمشق وكلتاهما تولي اهتماماً خاصاً للكلمات وللقص.

إن من يقرأ هذه الرواية يلاحظ أهمية الحروف وأثرها ودورها، كما يلاحظ أن التأرجح بين الكلام والصمت مهم ويملك مكانة بارزة في النص. للصمت أيامه وأوقاته وللكلام كذلك. فعل "السرد" أو "القص" نفسه يرد في مواضع متعددة من الرواية ليظهر أهمية الكلمات في السحر وفي الحياة، فتستعيد الحسن في نصها وعلى لسان راويتها وظيفة السرد الأولى وهي التمرد والتحرر وتنظيف النفس من شرور الحياة، قائلة، "إن البشر رواة قصص، لماذا؟ لأنهم يريدون تغيير عوالمهم، يتمردون، يثورون، عبر الكلمات"، (ص: 92)، "لأن الكتابة تحرر، استشفاء"، (ص: 188).

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

استعادت الكاتبة وظيفة السرد الأولى وهي تحرير الإنسانcatharsis . وأضافت في الحوار الذي أجريناه معها قائلة، "بالكلمات وحدها نواجه (النمو) الذي يدمر ويلوث العالم. انتبه اليوم مثقفو الغرب للعيوب القاتلة للحضارة الراهنة التي تجعل البشر يقفون في طوابير أمام العيادات النفسية. الكلمات هي أسلحتنا النظيفة الناعمة التي يمكنها أن تمنح البشر رؤية جديدة للحياة الملوثة بالاستهلاك. الكلمات وطني الذي لا ينتزعه أحد مني".

البادية البطلة الأزلية

يجمع النقاد والقراء ومتلقو الأدب عموماً  على أن وظيفة السرد الأولى هي الإمتاع. فالقص بدأ في جلسات حميمية وحول النار وبين أفراد العائلة الواحدة للترفيه والتسلية وتمضية أمسيات الشتاء الطويلة. ولينا هويان الحسن التي وثقت للبادية في دراسات وأبحاث جدية حرصت على التوثيق لها أيضاً في رواياتها بأسلوب سهل وممتع ينصهر ضمن نصوصها السردية. من دون أن يدرك يتشرب القارئ عادات أهل البادية ومنطقهم وأصولهم وطرق تفكيرهم. يتشرب يومياتهم وتصرفاتهم ويألفها عبر الوصف الموزع طيلة السرد وعبر الأخبار السريعة المنثورة ضمن الخط السردي العريض. فيرد مثلاً ضمن نسيج النص، "عند البدو عادة -حتى هذا اليوم- أنهم يصمتون قرب الآبار والسواقي ومصادر المياه. لا يثقون قط بالمياه الجارية، لأنها قد تبوح بأسرارها. والشابات الحسناوات يتنقبن عندما يملأن دلاءهن خوفاً من نظرة (المجهول)"، (ص: 61). أخبار جميلة مثيرة ساحرة يستمتع القارئ باكتشافها، عدا عن المصطلحات والتعابير التي تحرص الحسن على تفنيدها من دون إثقال السرد أو تحميله أكثر مما يحتمل، فتكتب مثلاً، "يختلف العراف عن الساحر. العراف يحاول قراءة الغيب، أما الساحر فهو الذي يحاول امتلاك مفاتيح السيطرة على قوى غيبية ويسخرها لمشيئته. لهذا قلت لكم إن أمي ساحرة... كان العرب يفرقون بين العرافة والكهانة. فالكهانة تنظر المستقبل أما العرافة فتنظر الماضي"، (ص: 162).

لا تكمن حنكة الكاتبة في نصها هذا في رصف القصص والأخبار بل في بسطها أمام القارئ بأسلوب ممتع خفيف فني لا يخلو من القوة والتماسك. إستيطيقا السرد هي ما يجعل النص الروائي والفضاء الروائي والشخصيات والحبكة والأحداث قريبة من القارئ، هي الثوب الذي يجمل المضمون، فتقول الحسن عن لعبة القصص والحروف والأبراج والأساطير التي توردها في نصها، "رأيت دائماً في الرواية وصفة للرومانس، وأراها، لعبة مثيرة، وكذلك مغامرة، و(حاكمة القلعتين) مغامرة سحرية تشبه مغامرة موسيقى البلوز في لحظة تمردها على الموسيقى الرسمية".

المرأة دائماً 

تبني الحسن عبر سردها جسراً أدبياً فنياً بين المجتمعات المدينية الجاهلة بأمور السحر والعرافة والكهانة وأهل البادية والصحراء وعاداتهم وتقاليدهم وموروثهم. فتبقى هذه الموضوعة هي الأبرز في أدبها إلى جانب تقديمها دوماً نماذج للمرأة المتمردة المتحررة القوية الصلبة. لا يخفى على قارئ أعمال الحسن تمسكها بقضايا المرأة ورغبتها دوماً في نحت نماذج للمرأة العربية الشامخة منذ القرون السابقة حتى اليوم.

تبقى المرأة هي البطلة في نصوص لينا هويان الحسن على اختلاف العصور والموضوعات والحبكات التي تطرقها في سردها، حتى إنها تفضح غضبها من حال المرأة في مجتمعاتنا العربية عندما تكتب في روايتها هذه، "لم تزل مجتمعاتنا تكره النساء. يحقدون على الكاتبات، والحكاءات، ويمقتون الساحرات. نحن عنيدات، متشبثات، تواقات للنجاة من حريق الزمن". (ص: 196). نساء الحسن في هذه الرواية كثيرات كثيفات، من خاتون إلى حاكمة القلعتين فثريا العسلية وأميرة فاميا وعميميت وزغل وملكة البوغاز وقزح حارسة قصر الحير وغيرهن. نماذج نساء، ساحرات، أميرات، عاشقات، غيورات، حاقدات، صلبات، متمردات، دائماً أبيات. فتنهي لينا هويان الحسن حوارنا معها بقولها في هذا الشأن، "النساء غالباً ضائعات بين التطرف والابتذال. إما تزمت وتعصب وعتمة، أو انفلات وابتذال في العلاقات بذريعة التحرر! البوصلة لا تشير دائماً إلى الشمال عند المرأة العربية".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة