ملخص
لم يعد المنفى مشروعاً يُدار أمام الكاميرات، بل خطة طوارئ تحيكها العتمة، ليُنقل إليه المرشد من ملجئه تحت الأرض في منطقة لويزان، كما لم يعد يتأسس على خطاب أو طموح بديل، بل ينبع من القلق وفقدان السيطرة وتآكل الحاضنة الشعبية.
عام 1978 تحول منفى آية الله روح الله الموسوي الخميني في ضاحية "نوفل لو شاتو" بباريس، إلى منصة مفتوحة على الإعلام الدولي، لا بوصفه زعيماً دينياً في إيران وحسب، بل كمتحدث باسم لحظة تاريخية تتربص بنظام الشاه محمد رضا بهلوي.
لم يكن المنفى اختزالاً للعزلة، بل فضاء لإعادة إنتاج السلطة خارج الحدود، حيث اجتمعت أدوات الخطاب والرمزية والدهاء السياسي لتشكيل سردية بديلة، آنذاك، بدا أن المنفى ليس نفياً، بل تموضع إستراتيجي أعاد تعريف العلاقة بين الداخل والخارج، وبين الدين والسياسة.
لكن بعد ما يقارب نصف قرن، تتبدل الوظيفة السياسية للمنفى، وتقارير مسربة، أبرزها من "إيران إنترناشيونال"، تشير إلى أن دوائر ضيقة حول المرشد آية الله علي خامنئي، يتصدرها نائب مدير مكتبه علي أصغر حجازي، تجري مشاورات مع موسكو لضمان ممرات خروج آمنة في حال تصاعدت التصدعات الداخلية.
لم يعد المنفى مشروعاً يُدار أمام الكاميرات، بل خطة طوارئ تحيكها العتمة، ليُنقل إليه المرشد من ملجئه تحت الأرض في منطقة لويزان، كما لم يعد يتأسس على خطاب أو طموح بديل، بل ينبع من القلق وفقدان السيطرة وتآكل الحاضنة الشعبية.
تتضح تحولات الدولة الإيرانية من تغيير انتزعه الشارع من سلطة الشاه ليرميها في حضن دولة ثيوقراطية، إلى سلطة ترتب مصيرها في كنف السفارة الروسية، المفارقة هي أنه حين خرج الخميني، كان الداخل مشتعلاً ينتظر شرارة، وحين يخطط خامنئي للخروج اليوم، فإن الداخل منهك يفتقد وهج الثورة.
ما كان في زمن الخميني نفياً ينتج بديلاً في طور التشكل، يتحول في زمن خامنئي إلى نفي يستبق انهيار دولة قائمة، ويهرب من مصير محتوم، المنفى إذاً لم يعد وعداً بالعودة، بل ربما اعترافاً ضمنياً بنهاية حقبة، فبين منفى بُني على مشروع تغيير، وآخر يُفكر فيه كهرب من مساءلة التاريخ، كان منفى الخميني أداة لإعادة تشكيل السلطة، أما احتمال منفى خامنئي فيرمز إلى الانسحاب والعجز، ومرشح لأن يكون لحظة ختام توشك أن توقع على صك الغياب.
غموض إستراتيجي
استقر روح الله الخميني في مدينة قم منذ عشرينيات القرن الماضي، حين برز كعالم شيعي وأنتج مؤلفات في الفلسفة الإسلامية والقانون والأخلاق، لكنه اشتهر بمعارضته الحادة لحكم الشاه محمد رضا بهلوي وانتقاده النفوذ الغربي، وفي الستينيات بلغ ذروة مكانته الدينية بلقب "آية الله العظمى".
واجه الشاه احتجاجات واسعة بعد إطلاق "الثورة البيضاء"، التي ضيقت على المؤسسة الدينية، وعملت على تغريب المجتمع وتهميش الريف، وكانت المعارضة تتألف من الليبراليين والشيوعيين والإسلاميين، من دون قائد موحد.
أصبح الخميني في تلك الفترة زعيماً للمعارضة، وانطلق في نضاله العلني ضد الشاه عام 1962، واعتُقل عام 1963 ثم نُقل في عام 1964 سراً إلى أنقرة، ثم إلى بورصة في تركيا، وبعد عام تقريباً، في الخامس من سبتمبر (أيلول) 1965 انتقل إلى مدينة النجف العراقية، وهناك طور نظريته عن "ولاية الفقيه"، التي شكلت لاحقاً الإطار العقائدي للجمهورية الإسلامية.
حين اشتعلت شرارة الاضطرابات في إيران عام 1978 كان الخميني يخضع لرقابة مكثفة بمدينة النجف بالعراق تحت حكم صدام حسين، طلب الشاه من صدام طرد الخميني، فانتقل إلى ضاحية نوفل لو شاتو الفرنسية، حيث انقلبت المعادلة، من منفى مغلق إلى منبر عالمي، مكنه من أن يهندس سردية مغايرة، باقترابه من المزاج الشعبي الملتهب بالداخل الإيراني عبر تسجيلات الكاسيت، ويجد في الإعلام الغربي أداة لنقل خطابه إلى آفاق لم تكن ممكنة في السابق.
أجبرت التظاهرات الحاشدة في أواخر عام 1978 الشاه على الرحيل في الـ16 من يناير (كانون الثاني) 1979، وعندما هبطت طائرة الخميني في طهران مطلع فبراير (شباط) 1979، استقبله سيل بشري هائل وصف بأنه من أضخم التجمعات في التاريخ، ونُصب زعيماً دينياً للثورة الإيرانية.
أحاط الخميني مشروعه الثيوقراطي بستار من الغموض الإستراتيجي، استغل فيه تحالفات ضمنية مع الإعلام الغربي، وحال التفكك السياسي داخل إيران، مقدماً خطاباً يوهم بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية للمستضعفين، تقاطع مع الرفض الجماهيري للشاهنشاهية البهلوية، بينما كان يهيئ الأرض لإقامة نظام "ولاية الفقيه"، وانخرطت الفصائل المتباينة في الثورة، كل بحسب آماله، غير مدركة نية الخميني الحقيقية، وما إن سقط الشاه، حتى بدأ الخميني بإقصاء حلفائه العلمانيين واليساريين، واضعاً أسساً لترسيخ مشروع حكمه الديني الأحادي.
منفى مغاير
شكل انضمام علي خامنئي إلى "المجلس الثوري الإسلامي" في يناير 1979 نقطة تحول محورية في مسيرته السياسية، وربط مصيره مباشرة بمشروع الخميني، وكان المجلس، الذي أعلنه الخميني كحكومة ظل لمواجهة حكومة شهبور بختيار، أداة تنفيذية لإرادته الثورية تمهيداً لإقامة الجمهورية الإسلامية.
جاء ترشيح خامنئي لعضوية المجلس من قبل علي أكبر هاشمي رفسنجاني، حليفه القديم في دعم خط الإمام داخل الحوزة العلمية، وهو ما أتاح له دخول الدائرة المقربة من الخميني بعدما كان ثورياً ملتزماً لكنه مهمش، ووفقاً لسيرته الذاتية، تفاجأ خامنئي باختياره، لكنه سرعان ما انتقل من مدينة مشهد إلى طهران ليشارك في مفاوضات حساسة مع مسؤولين من النظام السابق ودبلوماسيين أجانب، بمن فيهم أميركيون.
بهذا، بدأت ملامح صعود خامنئي تتشكل، مستنداً إلى ثقة الخميني وعلاقته برجال الظل، في لحظة تأسيسية مهدت لوصوله لاحقاً إلى قمة السلطة في إيران.
في المقابل، ما سربته التقارير عن استعدادات دوائر محيطة بخامنئي للبحث عن ممرات خروج آمنة، يعبر عن منفى من طراز مغاير تماماً، إذ لم يعد النظام قادراً على احتكار أو فرض سردية معينة، فالعقيدة التي كثيراً ما قدمت نفسها كمرجعية مطلقة تواجه اليوم فراغاً، واحتقاناً داخلياً، وتفككاً في الجهاز الأمني لم يعد قادراً على الحسم أو الردع.
هذا المنفى المفترض لا يحمل أفقاً ولا خطاباً، إنه انعكاس لانغلاق الدولة على ذاتها، واعتمادها على الحلفاء الخارجيين لتأمين آخر أوراقها، فحين تصبح السفارة الروسية ملاذاً رمزياً، لا رافعة دبلوماسية، تدرك أن الزمن السياسي للنظام لم يعد يُقاس بموقعه في الجغرافيا، بل بمكانه المتآكل في الذاكرة الجماعية للإيرانيين.
شرعية رمزية
في النظريات الكلاسيكية حول بناء الشرعية السياسية، تُعد الرمزية أحد أعمدة السلطة الأكثر استدامة، لكونها تتجاوز التوازنات الظرفية وتؤسس لعلاقة متخيلة بين القائد والجمهور، وفي الحالة الإيرانية، يمكن النظر إلى المنفى بوصفه لحظة تكثيف رمزي لهذه العلاقة، كما جسدها آية الله الخميني، فعبر المنفى، من نوفل لو شاتو، لم يقدم نفسه كلاجئ سياسي بل كمخلص ديني ثوري، يستحضر التاريخ الشيعي لا كتراث وحسب بل كأداة سياسية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
صنع الخميني عاصفة فكرية وسياسية عبر الجمع بين المفردات الثورية والرمزية الدينية، فحول العزلة إلى قوة رمزية، واستطاع من خلال ذلك أن يدمج بين الزعامة الدينية والكاريزما الثورية، مما مكن مشروعه من أن يتحول إلى نظام حكم، مستثمراً المنفى لبناء صورة القائد المخلص، ومستدعياً الرموز الشيعية لبناء سردية الخلاص.
في المقابل، يجد المرشد علي خامنئي نفسه في لحظة رمزية مفككة، بلا سردية ملهمة أو خيط تعبوي جامع منذ تسعينيات القرن الـ20، حافظ على سلطة مؤسسة لا تستند إلى الكاريزما الشخصية، بل إلى شبكة معقدة من البيروقراطية الدينية-الأمنية، ومع الزمن تراكمت حول موقعه مشروعية شكلانية أكثر منها وجدانية، تغذت على التوازنات لا الإلهام، ومع تعاظم التصدعات الاجتماعية والسياسية في الداخل الإيراني، يبدو أن رمزية "المرشد الأعلى" لم تعد قادرة على شحذ الحشد أو تقديم تفسير مقنع للأزمة.
كما أن النظام لم ينتج، خلال ما يقارب الأربعة عقود الأخيرة، سردية بديلة، فالخطاب المقاوم، الذي مثل في لحظة ما أداة لتجميع الداخل ضد الخارج، تآكل بفعل التوظيف المفرط، وفقدانه صدقيته أمام جيل جديد يرى الدولة بوصفها بنية قمعية لا منظومة خلاص.
ووفقاً لهذا المنظور، فإن الفارق بين الخميني وخامنئي لا يقتصر على الأدوات، بل في جوهر العلاقة مع التاريخ، الأول أعاد كتابة الذاكرة الجماعية، والثاني يواجه ذاكرتها وقد بات هو نفسه عبئاً عليها، إذ تآكلت الصورة الرمزية، وافتقرت السردية الحالية لأي زخم داخلي.
دور الخارج
تعامل الخميني مع الإعلام الغربي، لا كعدو، بل كأداة لنقل صورته كقائد ديني يقارع استبداداً مدعوماً من الغرب نفسه، منحته باريس، ما لم تمنحه طهران، القدرة على احتلال المشهد الإعلامي العالمي من دون قيود أمنية، في لحظة كانت فيها مفاهيم ما بعد الاستعمار تستقطب المزاج العالمي.
ذكر السفير الفرنسي السابق لدى إيران، فرانسوا نيكولا لإذاعة فرنسا الدولية، أن "الخميني جاء إلى فرنسا على مضض بعد محاولته الدخول إلى الكويت وتم منعه، بإيعاز من بريطانيا، إذ كان من المقرر أن تصبح باريس مقراً للمجلس الثوري الإيراني في المنفى في عهد الخميني، وهو ما بدا مستهجناً بالنظر إلى العلاقات بين فرنسا وإيران في سبعينيات القرن الماضي".
وأضاف نيكولا "نصحه المثقفون في فرنسا بالذهاب إلى هناك، وقد كان يرغب في الذهاب إلى بلد مسلم، لكنهم رأوا أنه من الأفضل له أن يكون في بلد تستطيع فيه وسائل الإعلام الدولية رصد كل ما يقوله والحصول على الدعم والتغطية الإعلامية المناسبة".
ووفقاً لنيكولا "كانت هناك أوهام في البداية، مع وجود الخميني في فرنسا، كان خطابه عن السلام والمحبة، بدا لوسائل الإعلام والحكومات الدولية كنوع من المرشد الروحي، كغاندي، الذي سيعيد إرساء الديمقراطية، وما إلى ذلك، وفي الواقع، كانت هذه اللغة تحديداً من قِبل المثقفين المحيطين به لإغراء الرأي العام الدولي، ولم يكن الخميني يكترث بذلك على الإطلاق".
على النقيض، يتعامل نظام خامنئي مع الخارج لا كمساحة خطابية، بل كسياج أمني، فالتفاوض مع موسكو، لتأمين مخرج فعلي من قلب الأزمة، لا ينبع من كون العلاقة مع روسيا أداة لبناء شرعية جديدة، بل تكتيك للحفاظ على الحد الأدنى من الحماية في مواجهة انهيار داخلي محتمل.
هذا التحول يعكس فرقاً جوهرياً في نوعية العلاقة مع الخارج، ففي حين استثمر الخميني في الخارج لإنتاج الداخل، يراهن خامنئي عليه للهرب من الداخل، إذ لم يعد الخارج مسرحاً لصناعة التاريخ، بل ملجأ لتفاديه.
تحولات المنفى
في المشهد السياسي الإيراني لعب المنفى دوراً محورياً في تحولات السلطة، إذ انتقل من كونه أداة فاعلة في تأسيس النظام إلى رمز مأزوم يعكس تراجع شرعية الدولة.
أولاً، كان منفى الخميني مسرحاً إستراتيجياً استخدمه كقاعدة لإعادة بناء خطاب سياسي ثوري، بينما في احتمال منفى خامنئي، أصبح علامة على هشاشة النظام وانكفائه، فقدت تجربة المنفى قدرتها التعبوية والرمزية، ولم تعد توظف لإعادة إنتاج مشروع شامل، بل لخدمة إستراتيجيات البقاء الآنية في وجه أزمة داخلية عميقة.
ثانياً، عندما نُفي الخميني، كانت إيران في مرحلة غليان تدرجي، فمشروع التحديث القسري الذي تبناه الشاه أحدث تصدعات طبقية، وعمق عزلة النظام عن القاعدة الدينية التقليدية والشرائح الريفية والمهمشة، أما الداخل الإيراني الآن، فيظهر ملامح إنهاك اقتصادي، وتآكل الثقة الشعبية، وانقسام حاد بين النخبة والقاعدة، لا يعبر عن قابلية انفجار بقدر ما يعكس بطئاً زاحفاً نحو التفكك. الاحتجاجات، منذ 2009 وحتى "انتفاضة مهسا أميني"، لم تنتج قيادة بديلة ولا سردية جامعة، لكنها عبرت عن انكشاف النظام وفقدانه القدرة على ترميم العلاقة مع مجتمعه.
ثالثاً، الخميني كان في البداية أكثر من مجرد قائد، كان زعيماً ثورياً ملهماً ومؤسساً، توفرت له كاريزما فريدة أتاحت له تشكيل هوية جديدة استقطبت أوسع طبقات المجتمع الإيراني، أما خامنئي، فهو يجسد تحولاً حتمياً في طبيعة القيادة داخل النظام الإيراني، من زعامة ملهمة إلى إدارة محافظة تواجه تآكلاً داخلياً عميقاً، فهو لا يمتلك كاريزما الخميني، وشرعيته ليست مستمدة من مشروع تأسيسي أو رؤية ثورية، بل من شبكة معقدة من المؤسسات الأمنية والدينية التي تحافظ على النظام في مواجهة أزمات متكررة، وقيادته تتسم بالتكتيكية أكثر منها بالإستراتيجية، وحكومته تدير النظام وسط بيئة متآكلة من الانقسامات السياسية والاجتماعية، حيث تناقصت قدرة الخطاب الديني على التعبئة الجماهيرية، وتحولت إلى خطاب تحصيني يركز على الحفاظ على المكتسبات بدلاً من تطويرها أو التوسع فيها.