ملخص
ارتبطت خطورة تمدد الحركات المتطرفة في دول الساحل الأفريقي بعوامل عدة رئيسة، أهمها ضعف النظم الأفريقية الحاكمة، وضعف إمكاناتها الأمنية والاستخباراتية لمواجهة مثل هذه الجماعات من جهة، والفضاء الصحراوي المفتوح الذي يصعب معه تتبع تحرك هذه التنظيمات المتحالفة مع جماعات محلية تتحرك بيسر في جغرافية ممتدة تتصف بالقسوة والاتساع من جهة أخرى.
ظلت منطقة الساحل الأفريقي بعيدة من مسرح الحركات الإسلامية المتطرفة لوقت قريب، إلا أن بروز ما يعرف بحركة "بوكو حرام" في نيجيريا عام 2002 على يد الشيخ محمد يوسف استرعى اهتمام الباحثين والأجهزة الأمنية الدولية والمحلية لخطورة هذا المنعطف، بخاصة أن ذلك ترافق مع انحسار قوة الجماعات المتطرفة في عدد من الدول، وعلى رأسها الجزائر، التي بدا أنها تتعافى من ظاهرة الإرهاب مع وصول الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة إلى السلطة عام 1999، واعتماده على مشروع الوئام المدني، بالتالي فإن الساحل الأفريقي طرح كموقع بديل لبقايا الجماعات المتطرفة بخاصة الدول المتاخمة للجزائر.
وارتبطت خطورة تمدد الحركات المتطرفة في دول الساحل الأفريقي بعوامل عدة رئيسة، أهمها ضعف النظم الأفريقية الحاكمة، وضعف إمكاناتها الأمنية والاستخباراتية لمواجهة مثل هذه الجماعات من جهة، والفضاء الصحراوي المفتوح الذي يصعب معه تتبع تحرك هذه التنظيمات المتحالفة مع جماعات محلية تتحرك بيسر في جغرافية ممتدة تتصف بالقسوة والاتساع من جهة أخرى، إضافة إلى تزامن ذلك مع أحداث دولية كبرى شهدتها مدن الغرب من بينها نيويورك مثل أحداث الـ11 من سبتمبر (أيلول) 2011 ولندن ومدريد وباريس، وغيرها، بالتالي فإن الاهتمام الدولي انصب على الدول الأكثر تأثيراً وقوة، فيما تركت القارة السمراء لشأنها.
بدوره يرى الصحافي النيجيري المتخصص في قضايا الإرهاب بيتير أوكوي أن ظهور جماعة "بوكو حرام" بتلك الصورة الصارخة وقيامها بعمليات استعراضية تستهدف النسيج المجتمعي النيجري كشف عن ارتباطاتها العابرة للحدود، مشيراً إلى أن الجماعة التي انطلقت من مراكز تقليدية لتحفيظ القرآن، حصلت على إمكانات مالية ولوجيستية تتجاوز الواقع النيجيري، مضيفاً أنها جماعة سلفية متأثرة في أفكارها بتنظيم "القاعدة" الذي كان حينها في أوج قوته، لا سيما بعد عمليات الـ11 من سبتمبر وقدرته على هز العواصم الغربية.
وأوضح الصحافي النيجيري أن تعامل قوات الأمن النيجيرية اعتمد على المقاربة الأمنية من دون معالجة الاختلالات الثقافية والتعليمية التي جعلت المجتمع النيجيري ينقسم على نفسه، إذ ظلت مؤسسات التعليم الخاص في عزلة عن المتابعة الرسمية، واستفاق النيجيريون على واقع تشرذم ثقافي وديني، كما لو أن النظام السياسي أسهم في خلق كنتونات متعددة داخل الدولة الواحدة.
وأكد أوكوي أن تعدد المناهج الدراسية وغياب الرقابة الرسمية على المدارس الخاصة، لا سيما الدينية منها، أسهم بصورة واضحة في انحياز بعض المناطق الريفية لأطروحات جماعة "بوكو حرام" التي عاثت فساداً وقتلاً في النيجيريين.
"بوكو حرام" المبتدأ
تعد الحركة التي لفتت اهتمام العالم في بداية الألفية الجديدة، وتحديداً في 2002، والتي أطلقت على نفسها في البدء اسم "جماعة أهل السنة للدعوة والجهاد"، فيما عرفت لاحقاً بالمسمى الشعبي الشهير "بوكو حرام" التي تعني باللغة المحلية (التعليم الغربي حرام)، إذ قامت أفكار الجماعة على القطيعة مع التعليم الغربي، معتبرة إياه يمثل سبباً في إفساد الشباب المسلم، فضلاً عن تكفيرها الواضح لكل من يتبوَّأ منصباً رسمياً في الحكومة النيجيرية، بصرف النظر عن ديانته.
وبدت الجماعة متأثرة بصورة واضحة بأفكار تنظيم "القاعدة" بقيادة أسامة بن لادن، وقد اتهمتها الاستخبارات الأميركية التي كانت تواجه التنظيم في أفغانستان، بأن زعيم "القاعدة" أرسل مساعداً له ومعه مبلغ 3 ملايين دولار لتسليمها لـ"بوكو حرام" ونظيراتها في القارة الأفريقية.
حركة "التوحيد والجهاد"... الأكثر فتكاً
برزت حركة "التوحيد والجهاد" في غرب أفريقيا عام 2011 في شمال مالي، وتوصف بأنها "الجماعة الإرهابية المسلحة الأكثر إثارة للرعب في شمال مالي،" ووفقاً لتقارير أمنية وإعلامية فإن الحركة برزت بصورة مثيرة لجهة تسليحها الجيد وإمكاناتها اللوجيستية والمالية، إذ اعتبرتها أجهزة الاستخبارات المالية "أخطر منظمة إرهابية في البلاد".
ويرى المحلل المالي إسماعيل أغ أن الحركة تمددت في المناطق الصحراوية الشاسعة الممتدة من منطقة تساليت في أقصى شمال مالي إلى مدينة غاو، إذ مثلت هذه المناطق معقلاً رئيساً للحركة التي فرضت سيطرتها بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة"، مما جعلها أكثر الجماعات المسلحة نفوذاً، بخاصة أنها اعتمدت على عصابات تهريب المخدرات، فضلاً عن استيلائها على كمية كبيرة من الأسلحة الثقيلة القادمة من ليبيا، أثناء الثورة الشعبية التي اندلعت ضد نظام الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي، كما نشط منتسبو هذه الحركة في تنفيذ عمليات خطف السياح والرعايا الأجانب والمطالبة بالفدية لإطلاق سراحهم.
وفي أكتوبر (تشرين الأول) 2011 أعلنت "التوحيد والجهاد" مسؤوليتها عن اختطاف ثلاثة رهائن أوروبيين، أحدهما إيطالي مع إسبانيين، في غرب الجزائر، وكذلك سبعة دبلوماسيين جزائريين في مدينة غاو في أبريل (نيسان) 2012، وذكرت تقارير صحافية آنذاك أن الحركة طلبت 30 مليون دولار مقابل إطلاق سراح الرهائن الأوروبيين، و15 مليون دولار لإطلاق سراح الدبلوماسيين الجزائريين، فضلاً عن مطالبتها بإطلاق سراح اثنين من سكان الصحراء الغربية تم اعتقالهم من قبل القوات الموريتانية.
ويوضح أغ أن الحركة انفصلت عن تنظيم "القاعدة" في بلاد المغرب الإسلامي، بغرض نشر الفكر الجهادي في غرب أفريقيا، بدلاً من أن تكتفي بالتبعية للتنظيم بمنطقة المغرب أو منطقة الساحل، مما منحها الاستقلالية في تنفيذ عدد من العمليات.
ويضيف المحلل المالي أنها لم تكن قاصرة على النشطاء الماليين، إذ ضمت عدداً من الموريتانيين وعرب مالي والنيجر، إضافة إلى بعض منتسبي دول الغرب الأفريقي.
"أنصار الدين" بين قضايا التهميش والجهاد
تعد حركة "أنصار الدين" من الحركات الرئيسة التي تنشط في مالي والنيجر، وعلى رغم أن قادة هذه الحركة بدأوا تمردهم على الواقع السياسي المتصل بمشكلات التهميش والإقصاء بطرح مطالب محلية الطابع تخص منطقة شمال مالي، فإن جزءاً مهماً من قيادة الحركة والموالين لها ظلوا يرتبطون بصلات قوية مع جماعات إسلامية وجهادية مسلحة.
وفي ظل غياب إحصاء دقيق عن عدد مقاتلي الحركة عموماً، وطبيعة تكوينهم النظري، فإن من المؤكد أن عدداً من قيادييها ينسبون إلى تنظيم "القاعدة" في بلاد المغرب الإسلامي.
ويرى الباحث الموريتاني أحمد الشنقيطي أن العشرات من متمردي الطوارق الذين كانوا يعملون داخل الجيش الموريتاني التحقوا بحركة "أنصار الدين" الإسلامية لأسباب قبلية ومالية، مما أسهم في التكوين والتأهيل العسكري المتطور للحركة.
ويضيف الشنقيطي أن الشيخ إياد أغ غالي وهو مواطن من سكان كيدال، وكان قنصلاً سابقاً، يعد زعيماً لهذه الحركة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبحسب تقرير نشرته صحيفة "لو جورنال دو مانش" الفرنسية في الـ27 من نوفمبر (تشرين الثاني) 2011 فإن غالي كان "كبير" المفاوضين لدى الرئيس المالي في مفاوضات أجرتها الحكومة مع متمردي الطوارق. وبعد انتهاء توليه المنصب الدبلوماسي أصبح غالي "جهادياً متشدداً وأصبح قريباً جداً من الناحية الفكرية من تنظيم ’القاعدة‘ في بلاد المغرب الإسلامي". ووفقاً للصحيفة الفرنسية فإن حركة "أنصار الدين" يعاونها "عدد قليل من الرجال الأقوياء المنتمين للزعيم مختار بلمختار المحسوب على ’القاعدة‘ في بلاد المغرب الإسلامي"، والذي نشط كثيراً في الصحراء الجزائرية في نهاية تسعينيات القرن الماضي.
ويذكر تقرير لوكالة أنباء موريتانية مستقلة أن إياد أغ غالي أهَّله انتظامه في الحركة لممارسة بعض الأعمال، وفي شريط فيديو أذيع في مارس (آذار) 2012 أظهر الشريط جنوداً حكوميين بعضهم قتلى والبعض الآخر أسرى بعد الهجوم المسلح الذي وقع في الـ24 من يناير (كانون الثاني) 2012 على بلدة أغيول هوك الشمالية.
وأشار متحدث رسمي باسم المتمردين إلى غالي بلقب "القائد" وظهر زعيم المتمردين في شريط الفيديو وهو يتفقد المقاتلين، ويؤمُّهم في الصلاة، ويقول إن جماعته تهدف إلى فرض الشريعة في البلاد.
ويؤكد المحلل السياسي المالي إسماعيل أغ أن غالي "أعاد إشعال جذوة الإرهاب" في شمال مالي، مشيراً إلى أن ثمة مؤشرات تؤكد حصوله على دعم مالي ولوجيستي من مقاتلي ’القاعدة‘ في بلاد المغرب الإسلامي، الذين شاركوا في الهجمات المسلحة على كل من كيدال وغاو".
وغزا مقاتلو حركة "أنصار الدين" مدينة تمبكتو في الثالث من أبريل 2012، إذ ذكرت إعلامية أن غالي وثلاثة من كبار قادة تنظيم "القاعدة" في بلاد المغرب الإسلامي كانوا حاضرين بأنفسهم في المدينة وكانوا يبحثون عن سبل فرض الشريعة الإسلامية هناك، وقد تم التعرف على هؤلاء القادة المنتمين للتنظيم، وهم أبو زيد ومختار بلمختار ويحيى أبو الهمام.
وفي الثامن من أبريل من العام نفسه، نشرت الحركة مقاطع فيديو أعلنت من خلاله أنها فرضت الشريعة الإسلامية في المنطقة التي تقع تحت سيطرتها، وعينت يحيى أبو الهمام أمير كتيبة "الفرقان" في تنظيم "القاعدة" بالمغرب الإسلامي، ليتولى القيادة العسكرية في العاصمة المالي تمبكتو.
"نصرة الإسلام" أحدث الجماعات
تعد جماعة نصرة الإسلام والمسلمين التي أعلنت عن تأسيسها في مارس2017 أحدث "الجماعات الجهادية" الأساسية في منطقة الساحل، والتي تشكلت من اندماج مجموعة من الحركات المتطرفة، وهي "أنصار الدين" و"جبهة تحرير ماسينا" وتنظيم "المرابطون" و"جناح الصحراء" التابع لتنظيم "القاعدة" في بلاد المغرب الإسلامي، في تكتل واحد سمي "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين".
ويرى المحلل الموريتاني أحمد الشنقيطي أن تشكيل هذه الجماعة يعد طفرة كبيرة في عمل الحركات المتطرفة في الساحل الأفريقي، إذ تمكنت أخطر القيادات الجهادية من تجاوز خلافاتها الفقهية والفكرية وحتى القبلية والشخصية والاندماج في حركة واحدة، وهم إياد أغ غالي (أمير أنصار الدين) وجمال عكاشة (أمير منطقة الصحراء ضمن القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي) ومحمد كوفا (أمير جبهة تحرير ماسينا) والحسن الأنصاري (مساعد مختار بلمختار أمير تنظيم 'المرابطون') وأبو عبدالرحمن الصنهاجي (قاضي القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي).
وأضاف الشنقيطي أن هؤلاء أعلنوا تجمعهم واندماجهم في هيكل واحد، وأعلنوا مبايعتهم لأيمن الظواهري (أمير تنظيم القاعدة) وأبو مصعب عبدالودود (أمير تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي) وهبة الله أخوند زادة (أمير تنظيم 'طالبان')، وقد تم اختيار إياد أغ غالي أميراً عاماً للتنظيم الجديد.
ونفذت هذه الجماعة عمليات نوعية عدة ضد القوات الفرنسية في مالي، وكذلك الجيش المالي، ومن أبرز هجماتها تنفيذ هجوم ضد الجيش المالي في الخامس من مارس 2017، وأوقعت 11 قتيلاً، وفي أبريل 2017 تبنت هجوماً قتل فيه أحد الجنود الفرنسيين، وفي الثاني من يوليو (تموز) 2017 خطفت ستة غربيين، كما أعلنت الجماعة مسؤوليتها عن هجومي واغادوغو (عاصمة بوركينا فاسو) الذي استهدف مقر رئاسة أركان الجيش ومبنى السفارة الفرنسية في الثاني من مارس 2018 وخلف 8 قتلى.
ويرى الشنقيطي أن اندماج الحركات الجهادية جاء بعد سنوات من النزاع فيما بينها، وتطورت في بعض الأحيان إلى معارك ضارية، كما كان الاندماج نتيجة تضاعف التحديات التي واجهت الحركات المتطرفة في القارة السمراء، لا سيما بعد التنسيق الأمني الواسع الذي حدث بين أجهزة استخبارات دول غرب أفريقيا إضافة إلى الجزائر وموريتانيا، إذ شكل قادة أركان جيوش هذه الدول غرفة عمليات موحدة تضم رؤساء الأجهزة الأمنية والاستخباراتية بغرض تنسيق جهودهم وتبادل المعلومات وقيادة عمليات مشتركة ضد الحركات المتطرفة الناشطة في الصحراء الأفريقية، مما قلص من مساحات الاختلاف بين قادة الجماعات والتفكير في الاندماج في حركة واحدة، إضافة إلى تحدٍّ آخر تمثل في التأثير المتزايد لتنظيم "داعش"، مما فرض عليهم ضرورة التوحد في تنظيم واحد وتقديم أنفسهم كقوة مهيمنة.