ملخص
"فرقة الخيالة الخامسة" مجموعة قصصية للكاتب الروسي إسحاق بابل تدور في معظمها في أوديسا "الروسية"، مدينة البحر الأسود الإيقونية، التي تبرز اليوم كعلامة فارقة في الصراع الروسي الأوكراني
من ناحية مبدئية لم تكن مدينة أوديسا تشكل حقاً جزءاً من الراهنية السياسية الملحة في الصراع الكبير الذي لا يزال متواصلاً بين الروس والأوكرانيين منذ بدايات العقد الماضي وحتى اليوم، على رغم أن الصراع الحاد والدامي بين الأمتين يشغل البشرية خلال هذه الفترة نفسها. وذلك بالتحديد لأن الروس ومنذ بداية الصراع، سيطروا على مدينة البحر الأسود الأيقونية تلك، من منطلق أنها تشكل جزءاً من إمبراطوريتهم التاريخية منذ أزمنة بعيدة جداً. ترى أفلم تشتهر المدينة أكثر من أية مدينة أخرى، في حرب القرم؟ ثم في ثورة 1905 الروسية أفلم يتركز مركزها الثوري، من خلال فيلم إيزنشتاين "الدارعة بوتمكين" ثم في الأدب بخاصة من خلال غير مجموعة قصصية لإسحاق بابل أبرزها "فرقة الخيالة الخامسة"، ما يدور في معظمه، في أوديسا "الروسية" ومنها طبعاً "حكايات أوديسا"؟ ولكن أوديسا لم تغب حقاً عن الأذهان حتى وإن كان العمل المسرحي الفرنسي الذي قدم عام 2015 منطلقاً من "حكايات أوديسا" لم يلفت النظر حين شهده جمهور لا بأس به في عرضه في مارسيليا، لكنه عرف كيف يستحوذ على أهمية كبيرة لاحقاً وبخاصة في الأعوام القليلة الأخيرة حين باتت أوديسا ومن جديد جزءاً من الحرب الطاحنة بين الأمتين. وصار العرض المسرحي المعنون "حكايات أوديسا" من ثم جزءاً من الراهنية الفنية ليكتشف المتهمون من خلالها ليس فقط حياة تلك المدينة بل أكثر من ذلك، كيف يمكن للمسرح الحديث أن يبتكر لغة وأسلوباً خاصين لرواية حكايات المدينة.
لغة الراهن والماضي
من ناحية مبدئية رحل إسحاق بابل عن عالمنا قبل عقود طويلة وحتى قبل أن يفيق الأوكرانيون على كونهم ومدينتهم الأيقونية يشكلون أمة على حدة. غير أن أهل المسرح الفرنسي الحديث تمكنوا من أن يجعلوا عدداً من نصوصه يحكي الراهن السياسي من دون أن يبدو عليها أنها تفعل ذلك. وذلك من خلال اللعبة المسرحية الحرة التي استخدموها. فهنا ليس ثمة حكايات بالمعنى السردي للكلمة وليس ثمة مواقف أو شخصيات محددة. كل ما في الأمر أن صانعي العمل اختاروا مجموعة من النصوص التي يحمل كل منها دلالة بالنسبة إلى حياة المدينة. ثم خلقوا نوعاً من بلاتو يكاد يبدو كفضاء لتصوير برنامج تلفزيوني. غير أن هذا الديكور أتى مفعماً براهنية وحداثة ما كان من شأن إسحاق بابل نفسه أن يتخيل وجودهما، فإن وجدا ما كان من شأنه أن يدرك تطابقهما مع ما وصفه هو نفسه من المدينة التي ولد وعاش فيها منذ عام 1894 (وهو الذي سيموت إعداماً وفي المدينة نفسها عام 1840 وقد وشى به البعض للاستخبارات السوفياتية بوصفه معادياً للنظام على رغم أنه كان يعمل مترجماً لدى تلك الاستخبارات نفسها). ولئن كان من الطبيعي ألا تتضمن نصوص بابل تفاصيل هذه الحكايات الخاصة، فإن العرض المسرحي يفعل ذلك نيابة عنه، غير أن هذا الجانب ليس الأكثر أهمية هنا.
مدينة ليست كالمدن
الأساس هنا هو المدينة نفسها التي باتت كلية الحضور على المسرح ومن دون أن تكون موجودة إلا عبر صور تأتي خاصة من تاريخها ولكن أيضاً من راهنها الذي لم يعشه المؤلف. ولعل أهم ما يحدث في ذلك السياق هو أن الجمهور يخرج من العرض وهو على قناعة من أنه وأكثر مما يتعرف إلى المدينة، إنما يستعيدها في ذاكرته لأن ما يراه على الخشبة أمامه، على تقشفه، يؤكد له أنه كان يعرف هذه المدينة طوال عمره وكان فقط في حاجة إلى من يذكره بذلك، ومن يذكره بذلك ممثل وممثل وثالث يقبع في عتمة ما.
تدور اللعبة المسرحية - الحدثية - التاريخية بين هذين والشاشتين والحاسوبين، ولكن من خلال استعادة لحظات معينة من نصوص بابل بلغات ثلاث: الفرنسية والروسية ولغة اليديش التي هي لغة يهود أوروبا الشرقية بصورة عامة، بمساعدة موسيقيين. غير أن ما يمكن إضافته هو أن الحوارات هي عبارة عن تبادلات معظمها عبر البريد الإلكتروني، تتم بين الرجل والمرأة وكل منهما جالس إلى طاولته تفصل بينهما مسافة أمتار وشاشتا العرض التلفزي. واللافت هنا حقاً هو أن الرجل والمرأة يقدمان لنا نفسيهما كولدين لأهل فروا من "جحيم" الحكم السوفياتي، وها هما - الرجل والمرأة - يعيدان الآن على الخشبة أمام الجمهور اختراع أوديسا مسقط رأس الأهل، من دون أن يعرفاها أبداً. ومن دون أن يعيرا انتباهاً للممثل الثالث الجالس في شبه عتمة غير بعيد منهما يوجه حكاياتهما ويؤطرها تبعاً للزمن الراهن. حسناً وقد يتساءل القارئ: أين هو إسحاق بابل وحكاياته من هذا كله؟ لعل الجواب يبدأ مع المدينة نفسها التي ارتبط اسم إسحاق بابل بها، فهي وكما يقدمها الفيلم، تحديداً انطلاقاً من توصيفات الكاتب التي تقرأ من قبل الممثلين الحاضرين على الخشبة لتحضر هي على الشاشتين، مدينة فريدة لا تشبهها أية مدينة أخرى، مدينة حرة وغالباً ما تتمتع بيسر يصعب فهم مصادره.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الكاتب ذو الحضور الكلي
بيد أن ذلك كله لا يمكنه أن يظهر إلا عبر التضافر المطلق بين الكاتب والمدينة. ولنقل بالأحرى بين كتابة إسحاق بابل وشتى تجليات وسمات المدينة انطلاقاً من طوبوغرافيتها وصولاً إلى روحها ومكنونات أسرارها. هنا على أية حال يبدو التمازج جزءاً من حياة المدينة وكأن بابل عاش فيها منذ أسست قبل قرون لا تعد. وكأنه باقٍ فيها إلى أبد الآبدين، ترى ألا يذكرنا هذا بالتمازج بين نجيب محفوظ والقاهرة، بين فرناندو بيساو ولشبونة أو حتى بين الطاهر بن جلون وطنجة؟ إن المسرحية تشير إلى هذا على أية حال، وإن لم تعول عليه كثيراً. وذلك لمجرد أن ثمة خصوصية، في رأي العرض المسرحي تتجاوز كل "الخصوصيات" المماثلة الأخرى، ولكن من هما المتراسلان اللذان يرويان لنا عبر مراسلاتهما التي يتم تبادلها أمام أنظارنا، حكاية المدينة وابنها الكاتب - أو لعله أناها/ الآخر! -؟ إنهما رجل وامرأة تمكنا من الهرب من حصارات النظام السوفياتي وها هما الآن يحاولان أن يعيدا بناء المدينة ليس كما يتذكرانها بل كما كان من شأن إسحاق بابل أن يتذكرها.
وبقي أن نذكر أخيراً أن المراسلات الإلكترونية التي ستبدو في نهاية الأمر مقتبسة من نصوص كتبها إسحاق بابل، ليست من كتابته في الحقيقة، بل من كتابة الفرنسي فيليب فنويك المعروف في الأوساط الفنية الفرنسية كمترجم وموسيقي ومخرج مسرحي وكاتب سيناريوهات سينمائية وهو موجود على الخشبة بصفته الممثل الثالث الذي أشرنا إليه أعلاه، علماً أن له اليد الأولى ليس في تصور هذا العمل وحسب، بل في تصور المعرض الذي كان من المفترض أن يقام في مارسيليا على هامش العرض المسرحي بعنوان "مارسيليا السلافية" لكن تم تأجيله آنذاك لإفساح المجال للعرض المسرحي الذي اتخذ بعداً آخر تماماً على ضوء الراهنية السياسية الأوكرانية في ذلك الحين، وهي بالتأكيد راهنية ستعيد العرض نفسه إلى صالات أخرى غير الصالة المارسيلية وقد تفاقمت أكثر وأكثر، ولا سيما أن أوديسا تبدو اليوم وكأنها واحد من الأثمان التي ستدفع مقابل الوصول إلى سلام بين كييف وموسكو يضع نهاية للمجزرة المتفاقمة.