ملخص
تكشف قصص "مسافة تصلح للخيانة" للقاصة المصرية نهى الشاذلي عن أن الحرمان المادي لا ينفصل عن الحرمان العاطفي، وأن العلاقات في زمن القهر الاقتصادي تصبح هشة، موقوتة، وسريعة العطب، لكنها في الوقت نفسخ أشبه بقنابل قابلة للانفجار مع أول اختبار.
ترصد قصص "مسافة تصلح للخيانة" (بيت الحكمة – القاهرة) للكاتبة نهى الشاذلي انعكاسات الوضع الاقتصادي على الواقع الاجتماعي، ومن ثم التحولات العنيفة التي طرأت على العلاقات الإنسانية، وانكسارات الأفراد تحت وطأة الحاجة، والخيارات القاسية التي يفرضها العوز. وتتشابك الأزمات الاقتصادية مع الأزمات النفسية، فتنتج شخصيات مشوشة، منهكة، تعيش على حافة الانهيار، كما تتبدى في قصة "الصبي بائع المناديل"، التي يتقاطع فيها الإحباط الوجودي مع القهر الطبقي في مشهد افتتاحي مكثف يلخص المعاناة في بضع جمل صادمة: "رئيسي في العمل مصَّاص دماء، وقد دهست طفلاً بسيارتي، ها أنا أقف على حافة الجرف، أفكر في السقوط" (ص7).
مقطع يتألف من أربع جمل قصيرة وواضحة، لكنها مشحونة بالدلالات، تشبه ضربات سريعة تحدث أثراً نفسياً قوياً، تتعمد الكاتبة فيه التشويش في ترتيب الأحداث لتعكس الاضطراب الداخلي الذي ينهش البطلة، شابة تحاصرها منظومة رأسمالية لا ترحم، ترفض منح موظفيها إجازات، باعتبارها "ترفاً" لا يليق بمن يعملون تحت ضغط هذه المنظومة القاسية.
قهر وانهيار
ترسم القصة علاقة بين طبقة مطحونة تماماً يجسدها الطفل بائع المناديل الذي يقف في إشارات المرور، وبطلة مأزومة من الطبقة المتوسطة الدنيا، تعاني أزمات نفسية واجتماعية في محيطيها العام والخاص، تعيش في مدينة قاسية لا ترحم، فما إن تفتح إشارة المرور، تقع البطلة بين سندان طفل لحوح لا يريد الابتعاد، ومطرقة أبواق سيارات تستعجلها التحرك، فتولي هاربة من مكانها، ولا تجد خلاصاً للعذاب الذي يأتيها من كل جانب سوى القفز من قمة جبل: "سهوت وسقطت؟ ممتع هكذا؟ آه، ثمة شيء يتحرر بداخلي، أشعر أنني أطير، أطير... ولد؟ ذلك اللحوح المزعج ذو الأنف الممتلئ بالمخاط كان يستحق الموت! لكنه هو... هو الذي قتلني" (ص16). نهاية تكشف عن هشاشة الذات حين يدفع بها إلى الحافة، ويسقط وهم السيطرة الذي يتمسك به أفراد الطبقة الوسطى في مواجهة سحق يومي يفرغ الحياة من معناها.
في قصص المجموعة، فشل العلاقات العاطفية والزيجات ليس مجرد شأن نفسي أو عاطفي، بل هو أحد تجليات الأزمة الاقتصادية المستفحلة، التي توحشت حتى قضت على فكرة تكوين أسر مستقرة، فالفقر لا يضعف الجيوب فقط، بل يزلزل الروابط ويقوض دعائم الاستقرار العاطفي. في قصة "الصبي بائع المناديل"، نتعرف إلى بطلة تزوجت برجل أحلامها وتخلت من أجله عن أسرتها، غير أن العلاقة تنهار سريعاً. وبعد أشهر، تجد نفسها في مواجهة العالم وحيدة، بلا مال، بلا بيت، بلا أهل، وبلا حبيب. الجميع غادر حياتها، وكرامتها تمنعها من طلب السماح أو العودة، فتخوض الحياة مثقلة بالخسارات، مخذولة ومجردة من كل سند. وفي قصة "مسافة تصلح للخيانة"، نلتقي "أوميغا"، الشاعرة بالضجر، والتي "استقالت أمس من وظيفتها بعد أن اختلفت مع المدير" (ص41). انفصلت عن حبيبها بعد شهر واحد فحسب، بعدما اكتشفت خيانته. البطالة والوحدة والحرمان العاطفي يدفعونها إلى مغامرة جنسية افتراضية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ليست رغبة في المتعة، بل هرباً من الفراغ القاتل، وتشبثاً بأي دفء، حتى لو كان وهمياً في ظل ظرف اقتصادي قاهر لا يشجع على الارتباط.
وهم الحرية
يتكرر في قصص المجموعة خذلان المرأة عاطفياً في ظل بنية اجتماعية لا تنصفها، بل تحملها وزر ما تتعرض له من عنف أو استغلال، وتضعها دائماً في موضع الاتهام. ففي قصة "مسبحة في يد الراقصة"، نتابع بطلة سرقت براءتها على يد "الرجل الأول الذي وعدها وسرق أغلى ما تملك، ثم رمى بها في قمامة النزوات العابرة" (ص78). تترك وحيدة، لا تجد عملاً سوى الرقص، في مواجهة نظرة مجتمع قاسٍ. المسبحة التي تمسك بها رمزاً ربما للتوبة أو التعلق المتأخر بالإيمان، تفسر من أهالي القرية إساءة للدين لا نداءً يائساً للخلاص. وحتى حين تتعرض للتحرش، يلقى اللوم عليها، ويرفض المجتمع معاقبة الجاني. وتتحول من ضحية إلى مذنبة بسبب ملابسها، ليعاد إنتاج القهر بصورة دينية وأخلاقية واجتماعية.
أما في قصة "ألعاب الحب"، فنحن أمام وهم الحرية تسعى إليه فتاة تترك أهلها وتسافر إلى القاهرة بحثاً عن حياة جديدة، لكنها تصطدم بالخذلان مرة أخرى، حين يتركها حبيبها ليرتبط بأخرى ثرية ذات حسب ونسب. هذه الصدمة تدفعها إلى أقصى حافة الانهيار النفسي، فتقتحم فيلا الخطيبة الجديدة وتطعنها بسكين، لتلقى عقابها بالسجن. يتواصل في قصص المجموعة افتقاد التناغم العاطفي والإنساني بين الأزواج، تحت وطأة الجهل أو الوضع الاقتصادي القاهر، فتطرح قضية العنف الزوجي والجهل العاطفي كأحد تجليات البنية الذكورية المتوارثة، في قصة "رجال في ورطة". "مرزوق" لا يفهم زوجته، فيلجأ إلى شيخ يستفتيه في أمرها، فينصحه الأخير بضربها إن لم تطع، فينفذ الفتوى حرفياً، "ومن يومها لم يصف له قلبها". تبرز هذه القصة كيف ينتج المجتمع رجالاً عاجزين عن التواصل الحقيقي مع النساء، مدفوعين بثقافة تعتبر القهر وسيلة تربية وتفاهم. وهكذا تتفاقم الفجوة بين الشريكين منذ البداية، نتيجة افتقار الحوار، وجهل الرجل بالأسباب الفسيولوجية التي تمنع زوجته من التفاعل معه.
وتنقل "بحر متخم بأجساد العابرين"، مشهداً أكثر مأسوية، برصدها للإرث الثقيل للهجرة غير الشرعية في سياق الفقر والوهم. بطل القصة "علي"، عاشق معدم، يضطر إلى عبور البحر بحثاً عن حياة أفضل، فيترك زوجته وابنه خلفه، مخلفاً لهم الوحدة والحرمان، لكن المفارقة القاسية أن الابن، حين يكبر، يكرر المأساة نفسها، ويعد زوجته بأنه سيجلب لها ثوباً حريرياً أو خاتماً من الذهب من بلاد ما وراء البحر. وهكذا، تتحول الهجرة إلى قدر طبقي موروث، وكيف يسلم جيل مكسور فشله لجيل آخر، في حلقة من الوهم والانكسار المتوارث في ظل الوضع الاقتصادي الضاغط على الجميع.
ورطة الإبداع
وفي القصص الثلاث التي تتناول أبطالاً اتخذوا من الأدب حرفة، وهي: "هوس افتراضي" و"كاتب في مأزق" و"في انتظار الوحي"، يظهر العامل الاقتصادي كعبء دائم يثقل حياة الكتاب، ويقترن غالباً بفشل اجتماعي أو عاطفي يفاقم من عزلتهم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في "هوس افتراضي" تطارد البطلة رسائل عاشق مجهول ظل يراسلها لثلاث سنوات. تمر علاقتها به بتقلبات: من التجاهل والهرب، إلى التصنع، ثم الوقوع في غرامه في اللحظة التي يتوقف فيها عن الكتابة، لتبدأ هي في مطاردته. علاقة غير مكتوب لها الاكتمال، يتناوب فيها القرب والبعد بلا نتيجة. وبين سطور هذا التقلب العاطفي، تتسلل آثار الضيق الاقتصادي، حيث تضطر البطلة إلى عمل إضافي، مبررة الأمر بقولها، "لي وظيفة أساسية تدر عليَّ مبلغاً لا بأس به كل شهر، لماذا رفعت حاجبك يا دكتور؟ أتظن أن هناك من يعترف بالكتابة كمهنة أساسية في هذا البلد؟ لو اعتمدت عليها لاستمررت في أخذ المصروف من أبي" (ص61). أما بطل "كاتب في مأزق"، فيتلقى الإهانات من أسرته بسبب اختياره الأدب، "يا للأسف، لا أصلح في أي وظيفة، كثيراً ما نعتتني أمي بالفاشل مقارنة بأخي، حثتني على تغيير مهنتي والعمل في أي شركة، حتى لو بغير شهادتي" (ص144). يخسر أيضاً من يحب، لا بسبب فقره فحسب، بل بسبب طاعته العمياء لأمه، وهي الطاعة التي رفضتها الحبيبة، فانفصلت عنه.
وفي "في انتظار الوحي" تطرح البطلة السؤال الجوهري عن جدوى الكتابة في ظل غياب العائد المادي أو الاعتراف المجتمعي، "ولعلك تتساءل ما الذي يجبرني على الكتابة، وهي بلا طائل مادي، ولست كاتبة شهيرة" (ص151)، لكنها تجيب بأن الكتابة هي الخيط الأخير الذي يربطها بالعالم: "سأكتب، ولا يهم ماذا ستعطيني الكتابة... حتى لو لم تكن تلك المهنة مجدية في نظر المجتمع والناس، سأكتب بعد تجربة قاسية" (ص155، 156).
تنوع في الأساليب
في هذه القصص، تحول نهى الشاذلي الكتابة إلى قارب نجاة فردي وسط غرق اجتماعي واقتصادي شامل، حيث لا يعترف أحد بمن يكتب، ولا بمن يحب، ولا بمن يحاول فقط أن يظل واقفاً.
أما من الناحية الشكلية، فقد تنوعت البنية السردية في المجموعة بين الفنتازي والواقعي الرمزي، فبعض القصص جاءت على لسان شياطين أو ملائكة كما في "لقاء في السماء الأولى" و"يا ليتني سجدت لآدم"، بينما اعتمدت أخرى على الحوار الخالص كأداة للسرد. ويظهر في قصة "مسافة تصلح للخيانة" توظيف لتقنية السرد المتوازي عبر تقسيم الصفحة إلى نصفين يعرضان في الوقت نفسه تفاصيل حياتين متوازيتين. أما في "لا أحد يموت في هذه المدينة"، فاختارت الكاتبة تكنيك القطع والوصل، لتكوين صورة كاملة لحياة ممزقة عبر مشاهد متفرقة تتصل في معناها. كما استحضرت في بعض القصص أجواء الحكايات الشعبية، كما في "غيوم تنذر بسيل قريب" و"الأميرة التي تحولت إلى طاووس".
هذا التنوع في المضامين والأساليب منح المجموعة بعداً جمالياً وجعل منها تجربة سردية متعددة الرؤى، تعبر عن قلق فردي وجمعي في آنٍ، وترصد تحولات الواقع المصري والعربي بأسلوب فني واعٍ ومجدد.