Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لوحة "الغشاش" للفرنسي ديلاتور تكاد تقول كل شيء

واقعية مبكرة في فن يتأرجح بين الحياة كما هي والوعظ الأخلاقي على خطى النهضوي الإيطالي كارافاجيو

لوحة "الغشاش" لجورج ديلاتور (موسوعة الفن الكلاسيكي)

ملخص

تمثل لوحة "الغشاش" للرسام الفرنسي جورج ديلاتور مشهد لعب ورق في لعبة كانت تدعى "بريم"، وتعتبر تاريخياً المهد التاريخي الذي ولدت منه لعبة البوكر

لعل من أهم الخصائص المتفردة تقريباً، التي تميز لوحات الرسام الفرنسي جورج ديلاتور (1593 – 1652)، تلك التلوينية، التي تجعل الناظر إلى أية لوحة من اللوحات الـ30 التي وصلت إلينا من أعمال هذا الفنان، يدرك ولو من بعد عشرات الأمتار، أنه أمام لوحة لا يمكن أن تكون من إنتاج غيره. ومع ذلك ها هو ستندال، الروائي الفرنسي الكبير يعزو، وهو الخبير الموثوق في الفنون الفرنسية والإيطلية كما في مجريات الحياة في البلدين، يعزو لوحة "الغشاش" التي ستصبح طوال القرن الـ20 واحدة من أشهر إبداعات ديلاتور، الذي وصلت الشهرة الأوروبية والعالمية إليه في ذلك القرن فقط بعد رحيله بنحو أربعة قرون، هو الذي لم يغادر بصورة جدية بلدته في مقاطعة اللورين في الشرق الفرنسي طوال حياته إلا مرتين مرة إلى باريس والثانية إلى روما وفي زيارتين قصيرتين، ها هو ستندال إذاً يعزو "الغشاش" إلى الرسام الإسباني موريللو على رغم أنه ليس في اللوحة ما يمكن أن ينسب إلى هذا الأخير سوى موضوعها. لكنه على أية حال موضوع يغلب عليه من ناحية مضمونه الطابع الإيطالي بالنظر إلى أنه يستعيد موضوعاً كان كارافاجيو كرس له أكثر من لوحة. أما من ناحية الشكل فيصعب عزوه لغير ديلاتور، فكيف وقع ستندال في ذلك الخطأ؟ لسنا نملك جواباً بالتأكيد. ولكن تيار الموضوعية في الفن الذي برز في عشرينيات القرن الـ20 صحح ذلك الخطأ من دون جهد كبير، إذ أعاد نسبة اللوحة لرسامها بكل بساطة، خصوصاً أنها كانت من اللوحات القليلة التي تحمل توقيع ديلاتور وتاريخ إنجازه اللوحة، فهل يمكننا اعتبار هذا مأخذاً آخر على خبير ضليع من طينة ستندال؟

عالم الأخلاق

حسناً لن نمعن في سبر هذه المسألة فاللوحة أمامنا، وهي لوحة لديلاتور من دون لبس أو غموض وتكشف عن فنه وتوجهات ذلك الفن، على رغم أن تلوينيتها لا يمكن أن تبدو ديلاتورية إلا بصورة محدودة. فصحيح أن الفنان استعاد فيها ومنذ مرحلة مبكرة من مساره الفني، تفاصيل ذلك التلوين بالأحمر ولو في أجزاء متفرقة من اللوحة على عكس ما كان يفعل في لوحات أخرى له، وربما خصوصاً في لوحة بالموضوع والأسلوب نفسهما كان حققها قبل ذلك بخمس سنوات، غير أننا نتحدث هنا بالطبع عن "الغشاش" التي رسمها ديلاتور بدءاً من 1620، ليستكملها نهائياً بعد ذلك بـ20 عاماً، وهو ما يعني أنها تتعلق بمرحلتين أساسيتين من مراحل تطور فن هذا المبدع الذي سيرى فيه الموضوعيون الجدد خلال الربع الأول من القرن الـ20 أستاذاً وأباً شرعياً لهم: مرحلة النضج المبكر ثم مرحلة التكامل الفني المطلق. ولعل هذا ما جعلها، على رغم محاكاتها الواضحة لواحدة من لوحات كارافاجيو، تعتبر من أكثر نتاجات ديلاتور تعبيراً عن فنه، بل حتى عن فرادة هذا الفن على رغم طغيان عنصر المحاكاة فيها. فما الذي تحدثنا عنه هذه اللوحة المعلقة في متحف اللوفر، وتعتبر من مفاخره بمقياسها اللافت (146 سم عرضاً في مقابل 106 سم ارتفاعاً) وسماتها اللافتة، وكما كل لوحات ديلاتور كما أشرنا، من بعيد جداً؟ إنها تحكي لنا مشهداً لا يمكننا أن ندرك فحوى اهتمام الفنان به، كما الحال بالنسبة إلى اهتمام كارافاجيو بموضوع مشابه، إلا بالاستناد إلى البعد الديني الوعظي الذي يبدو أنه يعبر عنه، على رغم أن ديلاتور لم يشتهر بغوصه في المواضيع الدينية بأكثر مما فعل معظم رسامي مرحلته التي كانت مرحلة الفن الدنيوي بامتياز، ومن هنا لا شك أن الفنان استعار البعد الديني هنا للتعبير عن موقف أخلاقي لا عن موقف أسطوري أو تاريخي.

كيف تسرق ساذجاً

تمثل اللوحة مشهد لعب ورق في لعبة كانت تدعى "بريم"، وتعتبر تاريخياً المهد التاريخي الذي ولدت منه لعبة البوكر. وفي المشهد أربع شخصيات خامستها مشاهد اللوحة نفسه الذي أراد الرسام أن يجعل منه شاهد عيان على ما يحدث. وما يحدث هنا ليس موضوعه اللعبة نفسها، بل عملية الغش التي تدور في رحاها ومن حولها. وهو غش يتواطأ للقيام به ثلاث من شخصيات اللوحة: لاعب الناحية اليسرى والمحظية المشاركة في اللعبة، التي نراها على خلاف اللاعب الأول الذي يغمر ملامحه عتمة لا تمنع المتفرج أن يرى ما في تلك الملامح من مكر ودهاء ساخرين يرتبطان أساساً بما يقفز إلى الواجهة مباشرة، مما يحمله في يده اليسرى التي يخفيها وراء ظهره. وما يحمله ليس سور "آس الكارو" الذي سيؤمن له الربح فور أن يظهره، وهو على أية حال، وكما سيدرك متفرج اللوحة - شاهد العيان الذي لا يمكنه بالطبع أن يتدخل لمنع تلك السرقة الموصوفة -، سيظهره ليستخدمه كأداة للفوز في لعبته ما إن يحتاج إلى ذلك وبالتواطؤ مع المحظية التي تقف الوصيفة - الشخصية الثالثة -، بينه وبينها كي تسهل لهما غشهما، انطلاقاً من تنقلها بينهما لتنقل بينهما المعلومات والتعليمات فيما توزع عليهما المشروب، ولكنها توزع المشروب خصوصاً على اللاعب الرابع، الذي يقوم في اللوحة بدور الضحية، لأنه هو المستهدف بعملية الغش التي تقودها الوصيفة وينفذها اللاعب الأول.

وقد يجدر بنا أن نقول إن الفنان إنما يعبر عن ذلك كله ليس فقط من خلال تصرف كل واحدة من الشخصيات متنبهة إلى ما يحدث بصورة إجمالية على طاولة اللعب، بل من خلال لعبة النظرات سواء كانت متبادلة أم غير متبادلة. فالواقع أن لعبة تبادل النظرات، وتحديداً بين الشخصيات الثلاث الأولى: اللاعب الغشاش، والمحظية والوصيفة، هي جوهر الموضوع هنا، في مقابل تلك النظرة البلهاء والمتسمة بأعلى درجات الحيادية والسذاجة لدى اللاعب الضحية التي لن تنقضي اللعبة إلا ويكون ما يملكه من نقود انتقل إلى "رفاقه" في اللعب تبعاً لما تقوله لنا اللوحة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لعبة بين عيون متواطئة

الحال أن لعبة النظرات تلك لا تبدو واضحة للوهلة الأولى، أو من بعيد، وضوح أسلوب ديلاتور. لكن مشاهد اللوحة سرعان ما يجدها تجابهه بكل قوتها، وشرها أيضاً ما إن يدنو من اللوحة، بالنظر إلى أن ديلاتور أضفى عليها من قوة التفاصيل والوضوح ما حولها هي نفسها إلى جوهر الموضوع فاللاعب الغشاش ينظر مواربة وقد جهز ورقة اللعب التي ستربحه في غشه، نظرة تبدو في مكرها، وكأنها لا تتحدى اللاعب الآخر وحده، بل كذلك الناظر إلى اللوحة سائلة إياه عما يمكنه أن يفعل إذا شاء التدخل، والمحظية تنظر إلى شريكها هذا نظرة تبدو من خلالها وكأنها توجهه ناقلة إليه بنظرتها الصارمة وحركة إصبعها ما تتوقع منه أن يفعل، وذلك على ضوء ما تنقله إليها نظرة الوصيفة من "معلومات" تكشف عن أوراق اللاعب - الضحية - استعداداً لحسم الدورة لصالح الغشاشين الثلاثة. ويقينا أننا هنا في مجابهة عمل فني يكشف عن لا أخلاقية بينة في نوع من التجاوب مع ما بدا لدارسي أعمال ديلاتور من أنه نوع من التعبير الفني عما ينقله القديس مرقص في إنجيله، عن "تنديد السيد المسيح بعدد من الموبقات اللاأخلاقية المترابطة: من سوء النوايا، إلى الضلال الجنسي ومن الغش بالمعنى المباشر للكلمة، ومن السرقة إلى التكبر". وإلى ذلك، من الناحية الجمالية التي تميز هذه اللوحة حتى بين أعمال الرسام نفسه وتعطيها فرادتها وسط تلك الفرادة، لا بأس من أن ننقل عن دارسي اللوحة كيف أن ديلاتور تعمد فيها أن يمزج بين الأنواع الفنية بصورة خلاقة لا يبدو منسجماً مع تلك "الأحادية" التي ميزت المدارس الفنية في زمنه. ويتبدى ذلك واضحاً بالنسبة إلى أولئك الدارسين، من خلال المقارنة بين تعبيرية وجه اللاعب الغشاش وجمودية وجه اللاعب الآخر، ناهيك بتشكيل وجهي امرأتي اللوحة الذي يبدو وبكل وضوح منتمياً إلى امرأة القرن الـ14 كما عبرت عنها الفنون النهضوية. ويقيناً أن ذلك المزج كان هو ما أضفى على فن ديلاتور تلك الحداثة التي "اكتشفها" لديه القرن الـ20 فاعتبره من مؤسسي الحراكات الفنية فيه!

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة