ملخص
رواية "أنا القطة" للكاتب الياباني ناتسومي سوسيكي التي صدرت في العم 1905 عكست النقطة الفاصلة في تاريخ اليابان الحديث ومنطلق هذا البلد للخروج إلى العالم بفضل الانتصار العسكري الذي حققته الجيوش البحرية اليابانية ضد جيوش القيصر الروسي نيقولا الثاني
في عام 1905 أصدر الكاتب الياباني ناتسومي سوسيكي روايته الكبيرة الأولى "أنا القطة" التي لم تلبث بعد فترة يسيرة من صدورها أن ترجمت إلى لغات كثيرة مؤكدة لكاتبها مكانة كبرى في الأدب العالمي. صحيح أن الرواية كانت، في حد ذاتها تستحق تلك المكانة، لكن كونها رواية يابانية وكون كاتبها منفتحاً على العالم الخارجي، والغربي تحديداً، ومتخرجاً في الجامعات البريطانية أسهم في ذلك، بيد أن المساهمة الكبرى أتت من الظروف السياسية والتاريخية التي راحت اليابان تعيشها منذ العام نفسه 1905. فذلك العام كان النقطة الفاصلة في تاريخ اليابان الحديث ومنطلق هذا البلد للخروج إلى العالم. ولقد تركز الفضل في ذلك كله على الانتصار العسكري الذي حققته الجيوش البحرية اليابانية ضد جيوش القيصر الروسي نيقولا الثاني. ونعرف أنه كان في نظر العالم أول انتصار للشرق على الغرب في العصور الحديثة. وكان استقبالاً تلقاه العرب، بين شرقيين آخرين، بوصفه "تعويضاً" لهم على هزائم ومذلات كثيرة منوا بها خلال الحقب السابقة، ولكن تلقاه الأوروبيون أيضاً بوصفه نوعاً من إذلال لعنجهية القيصرية الروسية... وربما لم يكونوا مخطئين في هذا. فنحن نعرف أن الثورة الروسية الأولى في القرن الـ20 (1905 أيضاً) اندلعت كنتيجة للهزيمة أمام اليابان، فكانت إرهاصاً بهزيمة النظام القيصري الروسي عام 1917 في مواجهة الثورة البلشفية. وطبعاً قد لا يكون لهذا كله علاقة كبيرة بموضوعنا، لكننا قادرون على ربط نهضة يابانية ما بما حدث عامذاك. وما حدث لم يكن على أية حال صدفة.
أمة تخرج من عزلتها
فما حدث كان تتويجاً على أية حال لثلاثة عقود كانت كافية لليابان للخروج من عزلتها الجغرافية وتقليديتها السياسية والاندفاع على طريق بناء حداثة أتاحتها سلطات وجدت أن الزمن لم يعد زمن العزلة وإرغام الشعب على البقاء مغمض العينين، ومن هنا كانت تلك الاندفاعة الصناعية الزراعية والتوجه الجديد للانفتاح على العالم متضمناً تلقي آداب العالم الخارجي وفنونه، ولكن كذلك أفكار مبدعيه وفلسفاتهم، وبخاصة عبر لعبة تبادلية مدهشة ومفاجئة. والحال أن القرن الـ20 قد أطل حينها على تلك الأمة محدثاً فيها تغييرات أفرحت أبناء الطليعة فيها ومكنت السلطات من أن تضمن لنفسها مكانة جاءت متوازية ومتضافرة مع المكانة التي تحققت في زمن العالم للإبداعات اليابانية مع تكاثر عدد خريجي الجامعات الأوروبية والأميركية، وما رافقه من انتشار الترجمات اليابانية لأمهات الإبداعات الصادرة في تلك البلدان. ولقد كان بين المترجمين وربما، في طليعتهم واحد سيضحي بعد حين من أشهر الكتاب اليابانيين بعدما أعطته ممارسته الترجمة زخماً إبداعياً قوياً. ونعود هنا إلى الحديث تحديداً عن ناتسومي سوسيكي الذي لا شك أن النجاح المحلي، والخارجي بخاصة، لروايته "أنا القطة" يرتبط بتلك الظروف التي كان من شأنها أن تجعل منه إنساناً سعيداً، غير أن صدور رواية تالية له ستحمل عنوان "أما بعد" سيقول لنا إنه لم يكن كذلك. فهو شرع في كتابتها خلال النصف الثاني من عام "البهجة نفسه" لتصدر في عام 1909 مليئة باليأس والسوداوية إلى درجة تساءل معها النقد: ترى من أين جاء هذا الكاتب الأربعيني بكل ذلك الحزن ملأ به روايته الجديدة هذه؟
حكاية عادية
تبدأ رواية "ماذا بعد؟" إذاً، بالشاب دايسكي، الشخصية الرئيسة في الرواية، وقد استيقظ لتوه من نومه، لكنه بدلاً من أن يترك فراشه ارتاح يحدق في سقف غرفته بقدر كبير من الضياع والحزن قبل أن ينصرف إلى تحسس نبضات قلبه. وفي اللحظات نفسها بدأنا نحن القراء بالتعرف عليه، لنجد أنه ابن عائلة ثرية، تخرج حديثاً في جامعة مرموقة، لكنه رغم تخرجه، ها هو الآن وقد بلغ الـ30 من عمره يعيش عاطلاً من العمل، معتمداً على ثروة والده. وفي أحد الأيام، يلتقي دايسكي بصديقيه السابقين في الجامعة، هيراوكا وتيراو من الشبان اليابانيين. فلقد عمل هيراوكا وهو الصديق الأقرب لـ"بطلنا" في الخدمة المدنية اليابانية، لكنه وكما سنفهم بسرعة، تشاجر مع رئيسه فطرد لسوء إدارته المالية. أما صديقهما الثالث، تيراو، فكان في طريقه لأن يحقق حلم صباه بأن يصبح روائياً ذا شهرة عالمية على شاكلة عدد من كتاب كانوا قد بدأوا ينطلقون في العالم خلال تلك الحقبة الزمنية عند بدايات القرن الـ20، لكن الأمر انتهى به في وظيفة بدوام جزئي، يترجم فيها الأعمال ويكتب مقالات قصيرة بأجور زهيدة. والحقيقة أننا من خلال الفصول المبكرة من هذه الرواية نكتشف مع دايسكي أن هذين الصديقين يمثلان بعد كل شيء، عالماً يشعر دايسكي بانفصال تام عنه، هو الذي لا يتوقف إزاءهما عن التساؤل عما يدفعهما حقاً إلى العمل بدلاً من عيش فراغ خلاق يحقق لهما كل ما يريدان... كما حاله هو بالطبع. والحقيقة أننا من خلال تساؤلات دايسكي سندرك أنه من ناحيته لا يشعر بأي ارتباط حقيقي بالمجتمع الياباني التقليدي الذي يحيط به من دون أن يعايشه. وذلك بالتحديد لأن تعليمه العالي ويسر أسرته، قد منحاه معرفة بأن العالم واسع جداً بحيث لا يمكن حصره في حدود التقاليد، ولكن علاوة على ذلك، سنفهم أيضاً، أن دايسكي لا يستطيع تكوين أي صلة بالمجتمع الحديث، الذي يعتبر التعليم مجرد مقدمة للنجاح في ظل نظام بيروقراطي. وبسبب انفصال دايسكي عن كل شيء، قررت عائلته الاستمرار في دعمه مالياً بشرط أن يتزوج من امرأة اختارتها له. ومع ذلك قرر دايسكي عدم قبول أي دعم من عائلته وعدم الزواج، لكنه في النهاية، سيحدث له أن يقع في حب ميتشيو، زوجة هيراوكا بالتحديد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من أين يأتي الحزن؟
من الطبيعي أن يرى القارئ في هذا "التلخيص" لرواية سوسيكي الثانية هذه مدعاة للتساؤل حول المكانة التي احتلتها في تاريخ الأدب الياباني - ولاحقاً في تاريخ السينما اليابانية حين حولتها موريتا يوشيميتسو إلى فيلم حقق نجاحاً كبيراً في عام 1985. والحال أن الجواب عن التساؤل يكمن في المناخ الوجودي، بل العدمي العام، الذي طبع رواية تبدو في مظهرها أنها لا تريد أن تقول أكثر من رد فعل شاب من أبناء تلك المرحلة على الابتهاج العام. ولعل سوسيكي نفسه كان مصيباً حين راح يسأل عن الحزن الطاغي على الرواية، فيجيب بأنه ليس حزناً، بل نوعاً من التعبير عن ملل وخواء في ظل صراع أجيال كان من الصعب عليه أن يجد له تبريراً. فالأساس بالنسبة إليه هنا، هو تلك اللاجدوى التي تواجه بطل الرواية في ظل حبور عام. الخواء الذي يجعله عاجزاً عن فعل أي شيء. فهو في نهاية الأمر عاجز عن البقاء كما هو كما أنه عاجز عن إحداث أي تغيير في حياته. فهل كان الحل المثالي بالنسبة إليه يكمن في هيامه، المفاجئ على أية حال، بزوجة صديقه الأقرب؟ ليس هذا مؤكداً بالنسبة إليه. ما هو مؤكد فقط هو أن تجربة "الحب المستحيل" هذه، والتي يرضى بخوضها، تمثل بالنسبة إليه المهرب الذي قد يساعده على الاحتفاظ بحبل النجاة الوحيد الذي يعينه على إبقاء الأمور في مكانها هو الذي يعرف أن أي تبديل في علاقة وجوده بوجود العالم الخارجي – بدءاً من عالمه العائلي وصولاً إلى ثقافة بلده مروراً بعلاقاته الرفاقية التي لا يبدو بعد اكتشافه هيامه بالمرأة "الوحيدة" أنه يمكن أن يجد لديها مبرراً لوجوده وترياقا لملله، إلا بصورة مصطنعة بالتأكيد ما دام هذا الحب لا يمكنه أن يكون حلاً. ففي نهاية الأمر من الواضح أن مشكلة دايسكي تكمن في أن مشكلته مشكلة لا وجود لها. فهل يذكرنا هذا بشيء؟ ربما ببدايات البرتو مورافيا التي جعلت من اللامبالاة مدغوماً بضرورة الشعور الدائم بالملل، وسيلة لمجابهة خواء العالم، عبر نشر نوع من فلسفة سلبية يمكن اعتبارها ترياقاً لبديلها الوحيد: الفراغ القاتل. ولعل هذا السعي إلى الخلاص من الفراغ هو ما اجتذب الشبيبة اليابانية إلى هذا النص الذي لم يكن غريباً أن يقارنه البعض برواية غوته "أشجان الفتى فرتر"، بل يعتبرونها استكمالاً من الشرق الأقصى لتلك الرواية التي حددت مصائر جيل بأكمله في الغرب. وكان هذا يكفي التقليديين لرجم "أما بعد" باعتبارها تواجه الابتهاج القومي بحزن وملل فرديين مقيتين!