Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

من عبد الناصر إلى "حزب الله": أمين الجميل يروي كيف نجا لبنان من السقوط

يرى الرئيس اللبناني السابق في حوار مع "اندبندنت عربية" أن القضية الفلسطينية لا تُخدم بسلاح منفلت، بل بخطة سياسية واضحة تضع حداً للتمزق والانقسام

في لحظة سياسية شديدة التعقيد يعبر الرئيس أمين الجميل عن تفاؤل استثنائي (اندبندنت عربية)

ملخص

اليوم، بعد كل هذه العقود من الصدامات، يطل الرئيس أمين الجميل برؤية جديدة نسبياً. فالأخطار الوجودية كما يراها قد تراجعت، والفرصة تلوح لإعادة ترميم لبنان، شرط ألا يُفوّت اللبنانيون هذه اللحظة كما أضاعوا سابقاتها.

على امتداد أكثر من 50 عاماً من تاريخ لبنان، يكاد اسم الرئيس أمين الجميل يتداخل مع مسار الجمهورية نفسها، من نشوء التيارات القومية العربية في خمسينيات القرن الماضي، مروراً بانفجار الصراع الفلسطيني على الأرض اللبنانية وصولاً إلى الحرب الأهلية فالاجتياح الإسرائيلي والهيمنة السورية، ثم دخول لبنان مرحلة النفوذ الإيراني عبر "حزب الله"، كان الجميل شاهداً ومشاركاً كما فاعلاً في معركة "التصدي" لتغيير وجه لبنان، في آنٍ معاً.

منذ أن واكب بدايات الصراع اللبناني الداخلي في ظل "المد الناصري"، وتصدى لمحاولات ضم لبنان إلى وحدة دمشق – القاهرة، ثم عايش تمدد المنظمات الفلسطينية وتحويل جنوب لبنان إلى منصة صراع مفتوح مع إسرائيل، كان الجميل يرى في كل محطة مشروعاً مهدداً لكيان الدولة.

لكن المشهد الأكثر دراماتيكية في مسيرته السياسية بدأ بعد اغتيال شقيقه الرئيس المنتخب بشير الجميل عام 1982، وبعدها انتُخب أمين رئيساً للجمهورية وسط الاحتلال الإسرائيلي لبيروت، وتحت أعين العالم المشتعل من حول لبنان. منذ ذلك الحين، ظلت الرئاسة بالنسبة إليه ساحة صراع وجودي: مرة في مواجهة السوري، وأخرى في مواجهة الإسرائيلي، وثالثة في التصدي لمشروع تحويل لبنان إلى وطن بديل للفلسطينيين، ورابعة في وجه السلاح الإيراني الممتد عبر "حزب الله".

اليوم، بعد كل هذه العقود من الصدامات، يطل الرئيس أمين الجميل برؤية جديدة نسبياً. فالأخطار الوجودية كما يراها قد تراجعت، والفرصة تلوح لإعادة ترميم لبنان، شرط ألا يُفوّت اللبنانيون هذه اللحظة كما أضاعوا سابقاتها.

في هذا السياق، أجرت "اندبندنت عربية" حواراً شاملاً مع الرئيس الجميل، تناول فيه محطات المواجهة الوطنية، وواقع الدولة والسلاح، ومآلات الهيمنة الخارجية، وفرص الخروج من النفق، والسلام في المنطقة.

 

نكون أو لا نكون

يبدأ الجميل حديثه بسرد مرحلة دخوله المعترك السياسي في ستينيات القرن الماضي، وهو الذي عايش سلسلة من المحطات التي لم تكن مجرد أحداث سياسية أو منازعات داخلية، بل صراعات وجودية حقيقية على هوية لبنان وبقائه ككيان مستقل. ويعتبر أن تاريخه وتاريخ الجمهورية اللبنانية مسارين متداخلين، حيث مثلت كل مرحلة من مراحل الصراع الإقليمي والدولي تحدياً مباشراً لكيان لبنان ولفكرته كدولة ذات سيادة.

ويكشف عن أنه في مطلع حياته السياسية واجه المرحلة الناصرية، حين شكل مشروع الرئيس المصري السابق جمال عبدالناصر للوحدة العربية خطراً فعلياً على استقلال لبنان، ويقول "اندلاع ثورة 1958 لم يكن مجرد تمرد داخلي بل نتيجة مباشرة لمحاولات إخضاع لبنان لمسار سياسي إقليمي لا يُشبه نسيجه الوطني. بلدنا كان أول ضحايا النزعة الوحدوية الناصرية، وقد تسببت تلك المرحلة بتوترات طائفية وأمنية كادت تطيح كيان الدولة الناشئة".

 

يرى رئيس لبنان السابق أن مرحلة هيمنة منظمة التحرير الفلسطينية كانت أخطر محاولة لتصفية الكيان اللبناني وتحويله إلى "وطن بديل". لم يكن الأمر مجرد دعم للقضية الفلسطينية كما سُوق في الإعلام العربي آنذاك، بل خطة متكاملة لتوطين اللاجئين الفلسطينيين في لبنان وإغلاق ملف العودة على حساب التركيبة اللبنانية والسيادة الوطنية. وهكذا تحول جنوب البلاد إلى منصة عسكرية تطلق منها العمليات الفدائية ضد إسرائيل، مما أعطى الأخيرة مبرراً لـ "عملية الليطاني" عام 1978 ثم اجتياح عام 1982، وصولاً إلى العاصمة بيروت.

ذلك الاجتياح لم يكن الحدث الوحيد الخطر في تلك المرحلة، إذ ترافق مع اغتيال شقيقه الرئيس المنتخب بشير الجميل في 14 سبتمبر (أيلول) 1982، فانتُخب هو في واحدة من أصعب لحظات تاريخ الجمهورية، ليقود ما تبقى من مؤسسات الدولة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، ثم التدخل السوري المباشر. مع ذلك، يعتبر الجميل أن لبنان صمد، لا بمعنى الانتصار العسكري، بل ببقائه قائماً كدولة.

كيف صمد لبنان؟

على رغم اختلال موازين القوى، يصر الرئيس الجميل على أن لبنان قاوم ونجا. "المقاومة لم تكن متكافئة، بل محلية في وجه دول" كما يقول، لكنها نجحت في منع اندثار الكيان. ويعدد محطات الصمود: من 1958 إلى مواجهة المشروع الفلسطيني، ومن ثم الصراع مع النظام السوري، فرفض الوصاية الكاملة، إلى تحدي "حزب الله" لاحقاً.

ويرى أن الصمود لم يكن فقط بالسلاح، بل بالتمسك بفكرة لبنان: بالدستور، بالتعددية، بالدولة. هذا المفهوم، بحسب الجميل، هو الذي مكَّن لبنان من الحفاظ على جوهره حتى اليوم، على رغم الحروب والتدخلات الخارجية ومرحلة الاغتيالات.

يؤكد الجميل أن الثمن كان باهظاً، من الدماء إلى الانقسامات، لكن الخط الأحمر الذي لم يُتجاوز هو بقاء لبنان كدولة غير مندمجة في مشاريع الآخرين. ويذكّر بأن "بيت بكفيا" (في دلالة إلى عائلتهم التي تنحدر من بلدة بكفيا) نفسه قدم من أبنائه، من شقيقه بشير إلى ابنه الوزير بيار الجميل، الذي اغتيل عام 2006، ومايا ابنة بشير التي قتلت بعمر السنتين، ومانويل وأمين أسود ابن شقيقته بعمر الـ16، وغيرهم، في سبيل بقاء هذه الدولة.

بالنسبة إلى الجميل فإن هذه التجربة تحمل درساً واضحاً، "لبنان لا يُهزم إذا تماسك داخلياً"، مهما كان حجم الأخطار. وفي نظره، فإن المرحلة الحالية تتطلب قراءة دقيقة لهذه التجربة، من أجل البناء على الصمود السابق، لا فقط لتوثيقه.


فرصة تاريخية

في لحظة سياسية شديدة التعقيد، يعبر الرئيس الجميل عن تفاؤل استثنائي، إذ يرى في انتخاب العماد جوزاف عون رئيساً، وتكليف الرئيس نواف سلام تشكيل الحكومة، مؤشراً إلى بداية مرحلة جديدة. ويعتبر أن هذه اللحظة هي الأولى منذ عقود التي تتراجع فيها التهديدات الوجودية، ويفتح المجال أمام ترميم فعلي للدولة.

ويذكّر بأن لبنان كثيراً ما ضيع الفرص بسبب الصراعات الداخلية، لكنه يرى في الظرف الحالي تلاقياً نادراً بين استقرار نسبي إقليمي، وتوفر نخب لبنانية قادرة على الإنجاز. ويقول بوضوح "هذه فرصة أكيدة للبنان، إذا عرفنا كيف نستفيد منها يمكننا أن نبني أجمل بلد في العالم". "أعطونا السلام وخذوا ما يدهش العالم"، وهو الذي قالها في الأمم المتحدة عام 1983.

يشدد الجميل على الطاقات البشرية في لبنان والانتشار اللبناني العالمي، مستعرضاً نماذج من النجاح اللبناني في الخارج، ويؤكد أن رأس المال الفكري وحده كفيل بإعادة بناء الدولة والاقتصاد إذا توفر الاستقرار السياسي.

لكنه يربط النجاح بشرطين: الأول، تخلي القوى السياسية عن الأنانيات الصغيرة. والثاني، حشد الطاقات الوطنية خلف مشروع دولة. ويختم بالتأكيد أن هذه المرحلة "لا تشبه شيئاً مما سبق"، وأن الأمل لم يكن أقوى مما هو عليه اليوم.

من ورقة مواجهة إلى عبء استراتيجي

في مقاربته لملف سلاح "حزب الله"، يتناول الجميل القضية من زاوية استراتيجية، لا فقط سياسية. ويسأل مباشرة: ما مغزى هذا السلاح اليوم؟ وهل لا يزال قابلاً للاستخدام؟ ويجيب بأن الحزب يملك قوة كبيرة، لكنه فقد القدرة على استعمالها في ظل المتغيرات الحالية.

ويعتبر أن السلاح الذي كان يُسوّق بوصفه أداة لمحاربة إسرائيل، أصبح اليوم عبئاً على الحزب نفسه. ويطرح تساؤلات حول كلفته، وظيفته، مستقبله، في ظل التفاهمات الإيرانية – الأميركية التي يُحكى عنها، وواقع المنطقة المتغير.

ويشير إلى أن أي استخدام جديد لهذا السلاح سيضع الحزب في مواجهة مع البيئة اللبنانية نفسها، لأن الداخل لم يعد يحتمل سلاحاً خارج الدولة. ويرى أن على "حزب الله" أن يعترف بأنه أمام منعطف، وأن المطلوب هو إدماج السلاح ضمن المؤسسة الرسمية، لا الاحتفاظ به كورقة تفاوض، ما دام أنه على الصعيد الاستراتيجي فقد دوره وفاعليته. وفي ظل المتغيرات الدولية والإقليمية والمحلية، من مصلحة الحزب، إن أراد أن يؤدي دوراً سياسياً في الداخل، أن يتخلى عن منطق القوة العسكرية.

ويذهب الجميّل أبعد من ذلك، معتبراً أن مستقبل "حزب الله" السياسي مرهون بكيفية تصرفه في هذا الملف، لأن "من يراهن على السلاح بعد اليوم، سيخسر كل شيء"، في ظل نظام إقليمي متبدل وسقف دولي صارم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

مشروع انتهى وأوهام سقطت

يتعامل الجميل مع ملف السلاح الفلسطيني من منظور تاريخي واستراتيجي، فيراه اليوم "عبئاً لا قضية". فبعدما كان يُقدّم كأداة ضد إسرائيل، تحول إلى وسيلة لتصفية الحسابات بين الفصائل داخل المخيمات. ويقول "سلاح أبو فلان ضد سلاح أبو علتان. لم يعد لهذا السلاح خارج الدولة أية وظيفة وطنية أو قومية".

ويعتبر أن "اتفاقية القاهرة" التي شرعت هذا السلاح داخل لبنان لم تكن إلا خدعة سياسية، استخدمها الفلسطينيون لتقوية نفوذهم على حساب الدولة اللبنانية. لكن الزمن انقلب، والفصائل الفلسطينية نفسها أصبحت مفككة وعاجزة عن إنتاج رؤية موحدة أو مشروع فاعل.

يرى الجميل أن السلاح الفلسطيني اليوم لا يُهدد إسرائيل بل يهدد لبنان والأنظمة العربية، وأنه لا بد من إنهاء هذه الحال وإعادة الاعتبار للمخيمات بوصفها مناطق مدنية لا أمنية. كذلك يؤكد أن القضية الفلسطينية لا تُخدم بسلاح منفلت، بل بخطة سياسية واضحة تضع حداً للتمزق والانقسام، وحشد الدعم والطاقات على الصعيد الإنمائي والاجتماعي ليكون عنوان المرحلة القادمة: الإنماء والسلام.


من الهيمنة إلى الانهيار

علاقة الجميل بسوريا معقدة وملأى بالصدامات، وهو يروي كيف واجه نظام حافظ الأسد، الذي يصفه بأنه "نظام رعب وفساد ولا منطق فيه". ويؤكد أنه حين تحاور مع الأسد كان دائماً يطالب بالحديث في الوقائع والمنطق والسلام للجميع، لكنه كان يصطدم بمنظومة العنف والغطرسة والأنانية غير القابلة للتفاهم.

يعتبر أن الانهيار الذي شهدته سوريا خلال العقد الماضي كان متوقعاً، لأن النظام القائم لم يكن راسخاً، بل هشاً في جوهره. ومع ذلك، يدعو اليوم إلى فتح صفحة جديدة في العلاقة بين لبنان وسوريا. ويؤكد أن بين لبنان وسوريا علاقات إنسانية واقتصادية وتاريخية لا يمكن قطعها، لكنه يشترط أن تبنى العلاقة الجديدة على التكافؤ واحترام السيادة، مشيراً إلى أن لبنان بحاجة إلى سوريا قوية، مستقرة، غير مهيمنة، وسوريا بدورها بحاجة إلى لبنان داعم لا تابع.

في ختام حديثه، يستعرض الجميل المشهد الإقليمي والدولي، ويرى أن المنطقة تسير نحو منطق جديد لا يقوم على الحروب، بل على التفاهمات، مشيراً إلى أن المبادرة العربية للسلام التي وقعت في لبنان عام 2002 لا تزال تمثل إطاراً صالحاً، وأن التفاهم مع إسرائيل، حتى لو لم يكن سلاماً كاملاً، أصبح جزءاً من معادلات المنطقة.


ويحذر من تفويت اللحظة الراهنة، داعياً إلى "تفاهم لبناني داخلي" يعيد ترتيب الأولويات، ويؤسس لدولة قادرة على مواكبة التحولات والتطورات الجديدة في المنطقة ككل، وإلا سنبقى الى جانب الطريق بينما الآخرون يتقدمون ويتطورون.

ويختم "لا يمكن أن نبقى في حال حرب دائمة، هذا المنطق سقط، المطلوب هو التفاهم، والاستقرار وإعادة بناء لبنان كدولة رائدة ذات دور طليعي في المنطقة، وتستحق الحياة".

المزيد من حوارات