ملخص
بعد إغلاق واشنطن ثغرة مصرفية كانت تمكن إيران من الوصول إلى الدولار، لجأت ميليشياتها في العراق إلى استغلال بطاقات "فيزا" و"ماستركارد" لسحب ملايين الدولارات شهرياً من الخارج بسعر الصرف الرسمي، ثم إعادة تحويلها إلى الدينار في السوق الموازية لتحقيق أرباح طائلة في واحدة من أخطر عمليات التحايل المالي في المنطقة، وسط تواطؤ مصارف محلية وتأخر استجابة الجهات الرقابية.
مطلع عام 2023، كان العراق سوقاً هامشية لعمليات الدفع الدولية، إذ لم تتجاوز قيمة معاملاته الشهرية عبر البطاقات المصرفية 50 مليون دولار. لكن في غضون أشهر قليلة، شهدت هذه السوق انفجاراً غير مسبوق، إذ قفزت المعاملات إلى نحو 1.5 مليار دولار شهرياً بحلول أبريل (نيسان) من ذلك العام، أي بزيادة بلغت 2900 في المئة. هذا التحول جاء بعدما أغلقت وزارة الخزانة الأميركية وبنك الاحتياط الفيدرالي في نيويورك ثغرة مصرفية سمحت لعقود بتحويلات دولية من مصارف عراقية تفتقر إلى ضوابط مكافحة غسل الأموال، وكانت تُستخدم من قبل إيران ووكلائها للوصول إلى مليارات الدولارات. لكن، ومع انقطاع هذا المسار، عمدت الميليشيات إلى استغلال شبكة بطاقات "فيزا" و"ماستركارد" لتحقيق أرباح هائلة من خلال التلاعب بفارق سعر الصرف، بمساعدة مصارف محلية ترتبط بتلك الميليشيات وتفتقر إلى الضوابط الرقابية.
أرباح بملايين الدولارات
بحسب صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية، عمليات التحايل هذه كانت تتم بشراء الميليشيات بطاقات مدفوعة مسبقاً داخل العراق بالدينار العراقي على أساس السعر الرسمي للدولار (1320 ديناراً مقابل الدولار الواحد)، ثم تُهرّب هذه البطاقات إلى دول مجاورة مثل الإمارات وتركيا والأردن، حيث تُستخدم لسحب الدولارات من أجهزة الصراف الآلي. بعد ذلك، يُعاد إدخال هذه الأموال إلى العراق لتُباع في السوق السوداء بسعر أعلى، وصل إلى 1600 دينار مقابل الدولار خلال ذروة اتساع الفارق بين السعرين الرسمي والموازي عام 2023، مما حقق أرباحاً وصلت إلى 21 في المئة.
وبحسب مسؤولين أميركيين وعراقيين، بلغت أرباح الميليشيات من هذه العمليات نحو 450 مليون دولار عام 2023 وحده - التي يُعتقد أنها استخدمت لتمويل عمليات شراء الأسلحة، أو ببساطة لزيادة الثروات الشخصية - فيما جنت "فيزا" و"ماستركارد" عمولات تُقدّر بـ120 مليون دولار نتيجة للرسوم المفروضة على الاستخدام الخارجي للبطاقات المصرفية العراقية. أما عام 2024 فازدادت العائدات مع ارتفاع حجم المعاملات بنسبة 60 في المئة.
الصحيفة الأميركية ذكرت أنه وعلى رغم تنبيه وزارة الخزانة الأميركية الشركتين منذ خريف 2023 في شأن تورط الميليشيات في هذه الأنشطة، فقد استغرق الأمر أشهراً عدة قبل أن تتخذ "فيزا" و"ماستركارد" إجراءات فعالة لكبح المعاملات. وبينما بدأت الشركات في فرض قيود فعلية بحلول مارس (آذار) 2024، كانت الميليشيات قد رسخت عملياتها وعززت شبكاتها من خلال إقناع تجار في دول أخرى بإجراء معاملات مزيفة مقابل عمولة.
وبهدف ضبط الوضع، فرض البنك المركزي العراقي في الآونة الأخيرة سقفاً شهرياً لاستخدام البطاقات يبلغ 300 مليون دولار، إضافة إلى تحديد سقف لكل بطاقة لا يتجاوز 5 آلاف دولار شهرياً، كذلك استعان بمكتب أميركي متخصص لمراقبة العمليات المشبوهة.
أساليب متطورة للتحايل
لم يقتصر التلاعب على سحب الأموال من أجهزة الصراف الآلي، بل توسع ليشمل أساليب أكثر تعقيداً وتنظيماً. ففي بعض الحالات، وبحسب "وول ستريت جورنال"، لجأت الميليشيات إلى إقناع تجار في الإمارات العربية المتحدة لتنفيذ عمليات شراء وهمية عبر أجهزة الدفع الإلكتروني الخاصة بهم، مقابل نسبة من المبلغ كعمولة. على سبيل المثال، يُحري متجر فاخر عملية دفع بمقدار 5 آلاف دولار على بطاقة "فيزا" من دون بيع أية سلعة، ثم يُسلم حامل البطاقة المبلغ نقداً أو بما يعادله بالدرهم الإماراتي بعد خصم عمولته. بعد ذلك، تُعاد هذه الأموال إلى العراق وتُحول إلى الدينار في السوق الموازية، مما يدر أرباحاً كبيرة نتيجة فرق سعر الصرف.
وفي تطور أكثر خطورة، حصلت الميليشيات على أجهزة نقاط بيع محمولة - وهي الأجهزة التي تستخدمها عادة المتاجر والمطاعم لقبول الدفع بالبطاقات المصرفية - واستخدمتها في مواقع خاصة تُعرف باسم "مزارع نقاط البيع". في هذه المواقع، تُنفذ يومياً مئات المعاملات الوهمية باستخدام بطاقات مسبقة الدفع، مع الاستعانة بشبكات افتراضية خاصة (VPN) لإخفاء المواقع الجغرافية الحقيقية للأجهزة، مما يصعب على السلطات تتبع مصدر العمليات أو كشف الاحتيال.
تورط كيانات مصرفية كبرى
من أبرز البطاقات المتورطة في هذه العمليات "بطاقة كي" Qi Card، التي تغطي نحو نصف السوق العراقية، وتُستخدم لصرف رواتب المتقاعدين وموظفي الدولة، بمن فيهم عناصر "قوات الحشد الشعبي". وقد أشارت تقارير إلى أن قادة ميليشيات استحوذوا على بطاقات عناصرهم واستخدموها ضمن مخطط التحايل، بل لجأ بعضهم إلى تسجيل عناصر وهميين للحصول على مزيد من البطاقات.
كذلك أظهرت مراجعات داخلية أجرتها "ماستركارد" في أغسطس (آب) 2023 أن بعض شركائها المحليين، مثل شركة Yana Banking Services، فشلوا في مراقبة النشاطات المشبوهة أو التحقق من هوية العملاء، مما دفع الشركة إلى تعليق شراكتها معهم موقتاً.
لكن ومع تصاعد الضغوط، بدأت "فيزا" و"ماستركارد" خلال ربيع 2024 باتخاذ خطوات أكثر صرامة، شملت حظر أكثر من 100 ألف بطاقة عراقية وإغلاق آلاف الحسابات لدى تجار في الإمارات. كذلك أُوقفت خدمات التحويل الفوري التي أطلقتها بعض البنوك العراقية، مثل "بنك العراق الأول"، والتي سجلت خلال شهرين تحويلات بقيمة 1.2 مليار دولار إلى دبي وتركيا وإندونيسيا.
وعلى الجانب الأميركي، فرضت وزارة الخزانة عقوبات على ثلاثة من مصدري البطاقات في العراق، أحدهم مرتبط بمزار ديني في كربلاء يجذب ملايين الزوار سنوياً، بمن فيهم إيرانيون.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
اقتصاد عراقي هش ونظام رقابي ضعيف
تُعد هشاشة النظام المالي العراقي عاملاً أساساً في تسهيل هذه العمليات، إذ لا تزال نسبة كبيرة من الاقتصاد قائمة على التعاملات النقدية، فيما تفتقر البنوك والمؤسسات المصرفية المحلية إلى أنظمة صارمة لمكافحة غسل الأموال أو مراقبة الاحتيال.
معلومات تحليلية حصلت عليها "وول ستريت جورنال" كانت قد أشارت إلى أن نحو 20 في المئة من العمليات المالية التي أُجريت ببطاقات أجنبية داخل الإمارات العربية المتحدة عام 2024 قد تمت باستخدام بطاقات عراقية، على رغم أن العراقيين لم يشكلوا سوى 0.4 في المئة من إجمال زوار الدولة في ذلك العام. والأمر اللافت هو أن معظم هذه العمليات نُفذت في متاجر غير معروفة أو تقع في مناطق تجارية حرة، وليس في الفنادق أو المطاعم أو الوجهات السياحية المعتادة، مما أثار شكوكاً واسعة في شأن طبيعة هذه الأنشطة وارتباطها بعمليات غسل أموال أو الاحتيال المنظم.
جهود احتواء متأخرة
"وول ستريت جورنال" ختمت تقريرها بأن الخطوات المتأخرة التي اتخذتها السلطات العراقية والأميركية ضرورية لاحتواء ما تحول إلى شبكة تمويل منظمة تخدم مصالح طهران في المنطقة. وعلى رغم أن شركات الدفع العالمية لم تُتهم رسمياً بانتهاك العقوبات، فإن تهاونها في مراقبة شبكاتها أتاح للميليشيات فرصة ذهبية لجمع الأموال وتهريبها، مستفيدة من ثغرات قائمة في النظام المالي الدولي. وأضافت أنه في ظل استمرار التوترات الجيوسياسية، تمثل هذه القضية نموذجاً لمدى تعقيد الحرب الاقتصادية الدائرة خلف الكواليس، إذ تُستخدم أدوات مالية مشروعة لتمويل كيانات محظورة، فيما تسابق الحكومات الزمن لسد الفجوات ومنع تكرار سيناريوهات مماثلة في المستقبل.