ملخص
على رغم أن الإمبراطورية البريطانية فوتت فرصة الاستثمار في النفط السعودي لمصلحة الولايات المتحدة، لكنها بنت روابط اقتصادية واستثمارية مع الرياض على صعد عدة، سواء في الطيران والنقل والدفاع وتجارة السلاح، وكانت بريطانيا أول دولة غربية تعترف عملياً بالسعودية وتوقع اتفاقات معها.
في ربيع عام 1932، وفي ذروة المساعي إلى توحيد السعودية، أرسل الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن ابنه الأمير فيصل إلى أوروبا في جولة دبلوماسية استمرت 4 أربعة أشهر، وشملت روما وجنيف وباريس وأمستردام، وبالتأكيد لندن التي كان قد زارها الأمير الشاب في عمر الـ 13 سنة، حاملاً رغبات بلاده في إرساء علاقاتها مع الغرب، وتحديداً الإمبراطورية البريطانية التي لطالما شاب الحذر سياساتها في شبه الجزيرة العربية.
وكانت السعودية تأمل من رحلة الأمير فيصل إلى بريطانيا أن تحقق هدفين، الأول سياسي وهو ضمان الاعتراف الدولي بالمملكة الوليدة، والثاني اقتصادي يتمثل في توفير تمويل بريطاني لعمليات تنقيب النفط، وكان الهدف الأول شبه محسوم، فالعلاقات السعودية - البريطانية قامت بالفعل حتى قبل إعلان توحيد المملكة في سبتمبر (أيلول) عام 1932، ومع ذلك لم تكن الحكومة البريطانية متحمسة لدعم جهود التنقيب.
اكتشاف النفط والتردد البريطاني
على رغم أن شركات النفط البريطانية، ومن ضمنها شركة "بريتيش بتروليوم" (BP) بمسماها الحالي لم تظهر الجرأة أو الحماسة للتنقيب عن النفط في السعودية، فإن أحد العوامل التي دفعت لاحقاً نحو البحث عن النفط في الجزيرة العربية كان اكتشاف النفط في مسجد سليمان شمال غرب فارس عام 1908 من قبل الشركة ذاتها، عندما كانت تعرف بـ "شركة النفط الأنجلو-فارسية" وهذا الاكتشاف أثار اهتماماً دولياً بإمكان وجود النفط في مناطق أخرى من الشرق الأوسط ومنها السعودية، على رغم أن الرأي الجيولوجي السائد آنذاك استبعد وجود النفط فيها.
وتأسست شركة "بريتيش بتروليوم" رسميا عام 1909 تحت اسم "شركة النفط الأنجلو-فارسية" بعد نجاحها في إيران، وركزت جهودها لاحقاً على العراق والكويت، لكن السعودية لم تكن في صلب اهتمام الشركة التي رأت أن السعودية غير واعدة نفطياً.
وفي عشرينيات القرن الـ 20 سعت بعض الشركات البريطانية، مثل "إيسترن أند جنرال سنديكيت" التي كان يمثلها فرانك هولمز، إلى التفاوض مع الملك عبدالعزيز للحصول على امتيازات تنقيب في منطقة الأحساء، وقد وافق الملك على منح امتياز للشركة عام 1922 في مقابل دفعة سنوية مقدارها 2000 جنيه إسترليني، لكن الشركة لم تقم بأعمال تنقيب فعلية وانتهى الامتياز دون نتائج تذكر بحلول عام 1928.
وعلى رغم أن الإمبراطورية البريطانية فوتت فرصة الاستثمار في النفط السعودي لمصلحة الولايات المتحدة، لكنها بنت روابط اقتصادية واستثمارية مع الرياض على صعد عدة، سواء في الطيران والنقل والدفاع وتجارة السلاح، أو في القطاع المصرفي ومشاريع البنية التحتية، وكانت بريطانيا أول دولة غربية تعترف عملياً بالسعودية وتوقع اتفاقات معها، ومع أن حذرها أدى في نهاية المطاف إلى هيمنة الشركات الأميركية على عقود التنقيب، فإن ذلك لم يوقف تعاونها مع السعودية والذي سنلقي لمحة على بعض محطاته خلال العقود الـ 10 الماضية.
"معاهدة دارين" وبداية العلاقات
أبدت بريطانيا اهتماما متزايداً بالتواصل مع الملك عبدالعزيز، بخاصة بعد استعادته مدينة الرياض من قوات ابن رشيد عام 1902، إلا أنها ظلت تتجنب الاعتراف بالدولة الناشئة أو دعمها حرصاً على عدم الإضرار بعلاقاتها مع الدولة العثمانية، ومع ذلك فقد غير إعلان العثمانيين الحرب على الحلفاء في أكتوبر (تشرين الأول) عام 1914 الحسابات البريطانية، ودفع لندن نحو إعادة النظر في سياستها تجاه الجزيرة العربية.
وبحلول عام 1914 جرت سلسلة لقاءات بين الملك عبدالعزيز والمعتمد البريطاني في الكويت الكابتن ويليام شكسبير تمهيداً لبناء علاقة رسمية بين الطرفين، أعقبها توقيع "معاهدة دارين" في ديسمبر (كانون الأول) عام 1915، والتي وقعت على جزيرة دارين المقابلة لميناء القطيف شرق البلاد، ونصت على اعتراف بريطانيا بسلطة الملك عبدالعزيز على مناطق نجد والأحساء والقطيف والجبيل، كما يسرت التبادل التجاري بين الجانبين بما يشمل توريد الأسلحة والبضائع.
وبهذا الاتفاق أنهت بريطانيا سياستها السابقة القائمة على النأي عن الجزيرة العربية، ووضعت الأساس لشراكة طويلة الأمد مع الدولة السعودية، في ظل مصالح إستراتيجية وتغيرات جيوسياسية فرضتها ظروف الحرب العالمية الأولى.
شركة مجهزة بقوات مسلحة
لعبت "شركة الهند الشرقية" الإنجليزية دوراً محورياً في تأسيس العلاقات البريطانية مع منطقة الخليج وشبه الجزيرة العربية، بما في ذلك المناطق التي تشكل السعودية اليوم، فمنذ أوائل القرن الـ 17 بدأت بريطانيا من خلال الشركة في تعزيز مصالحها التجارية والإستراتيجية في الخليج باعتباره ممراً أساساً نحو مستعمرتها الأهم وهي الهند، وكان الممثلون السياسيون لبريطانيا في الخليج يرفعون تقاريرهم مباشرة إلى الإدارات الإمبراطورية في بومباي وكالكوتا ودلهي، ومن ثم إلى "مكتب الهند"، وهو دائرة حكومية بريطانية أُسست عام 1858 في لندن للإشراف على المستعمرات البريطانية في الهند، وكانت السياسات التي تنتهجها الحكومة البريطانية تجاه المنطقة تصاغ في "مكتب الهند" وتحديداً في الدائرة المسؤولة عن إدارة ومتابعة العلاقات مع المناطق الواقعة خارج شبه القارة الهندية، والتي عرفت باسم "الدائرة السياسية السرية".
وعلى مدى ربع القرن التالي ظل المسؤولون البريطانيون في الخليج ولندن والهند يراقبون ويحللون ويقيمون التحولات المتسارعة في المشهد السياسي لشبه الجزيرة العربية، وقد تولى الممثلون السياسيون البريطانيون رفع تقارير حول تغير موازين القوى في جنوب غربي الجزيرة خلال الحرب العالمية الأولى، وكذلك الصراع بين السعودية واليمن.
وتعد "شركة الهند الشرقية" الإنجليزية واحدة من أقدم وأكبر الشركات التجارية في التاريخ، وقد أُسست في ديسمبر عام 1600 بموجب ميثاق ملكي من الملكة إليزابيث الأولى بهدف منافسة القوى الأوروبية الأخرى مثل هولندا وإسبانيا، ومد الأسواق الإنجليزية بالسلع الشرقية كالتوابل والجواهر والعطور وغيرها، وبموجب الميثاق الملكي فقد احتكرت الشركة التجارة الإنجليزية في الشرق، بل وتنامى نفوذها لدرجة تشكيلها قوات مسلحة.
ومع ضعف الإمبراطورية المغولية في الهند بدأت الشركة في التدخل السياسي، إذ استخدمت قواتها العسكرية للسيطرة على الأراضي وبخاصة بعد "معركة بلاسي" (1757) التي منحتها السيطرة على البنغال، وبذلك أصبحت قوة استعمارية فعلية، ففرضت القوانين وجمعت الضرائب وأدارت مناطق شاسعة في الهند، كما أبرمت تحالفات وخاضت حروباً لتوسيع نفوذها، مثل الحروب الـ "أنجلو-ماراثية" والـ "أنجلو-ميسورية"، لكن سرعان ما أدت سياسات الشركة القاسية، مثل فرض الضرائب العالية، إلى استياء وتمرد شعبي واسع دفع الحكومة البريطانية إلى التدخل وإصدار قانون حكم الهند عام 1858، والذي أنهى سلطة الشركة وسلم الإدارة مباشرة إلى التاج البريطاني.
ومدت "شركة الهند الشرقية" هيمنتها التجارية على مدن شرق آسيا لنحو 300 عام، بين القرنين الـ 15 والـ 19 الميلادي، كما وجدت في موانئ الخليج العربي ممرات إستراتيجية لتحريك وبيع بضائعها، لكن سفنها تعرضت لهجمات عدة من سفن تقودها طواقم عربية من الخليج، مما أدى إلى اعتماد بريطانيا سياسة جديدة قائمة على التدخل السياسي والعسكري.
وزاد قلق بريطانيا من تلك الهجمات البحرية بعد تأسيس الدولة السعودية الأولى عام 1944، خصوصاً بعد توسعها عبر شبه الجزيرة العربية وصولاً إلى ساحل الخليج، وتشير الوثائق البريطانية إلى أن المقيم البريطاني في مسقط ديفيد سيتون أعرب عام 1808 عن قلقه من النفوذ المتزايد للدولة السعودية الجديدة، وصوّرها بأنها خطر على المصالح البريطانية البحرية.
عائلة القصيبي: وساطة المال والسلاح
أسهمت التجارة والعلاقات الشخصية في تشكيل ملامح العلاقة السعودية - البريطانية قبل نضج المؤسسات الرسمية، وفي هذا السياق لعبت عائلة القصيبي، التي كانت من أبرز وأغنى العائلات التجارية في الخليج، دوراً في بناء جسور غير رسمية بين السعودية وبريطانيا، ويرد ذكر العائلة في الوثائق البريطانية بين عامي 1911 و1953، مما يعكس الأدوار السياسية التي لعبتها وتجاوزت تجارتها الأساس في اللؤلؤ، ويقول السفير البريطاني في جدة أندرو رايان إن أفراد عائلة القصيبي لم يكونوا مجرد تجار لؤلؤ في الخليج العربي بل من أقوى حلفاء الملك عبدالعزيز، وقاموا بدور الوسيط التجاري والدبلوماسي وبخاصة في فترة ما قبل توحيد السعودية.
واستقرت عائلة القصيبي في مدينة حريملاء في الرياض، وبعد موجة الجفاف التي ضربت نجد انتقلت إلى الأحساء في ساحل الخليج عام 1885، ثم نشطت في تجارة اللؤلؤ في البحرين وبدأت تعاملاتها التجارية مع الهند، واستفادت من أرباح اللؤلؤ لشراء حدائق نخيل واسعة في الأحساء.
وفي عام 1908 كلف الملك عبدالعزيز بعض أفراد العائلة بتنفيذ مهمات دبلوماسية بعد عامين من لقائه إبراهيم القصيبي في رحلة الحج، وتوطدت علاقة العائلة بالملك عبدالعزيز بعد أن سيطر على الأحساء عام 1913، وبحلول هذا الوقت كانت أسرة القصيبي من قبل الإخوة الخمسة، عبدالعزيز وعبدالله وعبدالرحمن وحسن وسعد، الذين أداروا شبكة متشعبة من المصالح التجارية بين بومباي والبحرين والأحساء والرياض، وأصبح القصيبيون بمثابة ممثلين للملك عبدالعزيز في البحرين، ولعبوا دور الوسيط في تسليم المساعدات البريطانية وإمدادات الأسلحة والذخيرة للسعودية، وعندما أجرى الأمير فيصل زيارة رسمية إلى لندن عام 1919، أصر والده على أن يرافقه عبدالله القصيبي، كما كلّف عبدالرحمن القصيبي بمهمات التفاوض مع البنوك البريطانية.
وبلغ نفوذ عائلة القصيبي ذروته خلال عشرينيات القرن الـ 20 عندما احتكروا عملياً التجارة بين البحرين والمنطقة الشرقية، مما عزز ثروتهم وأكسبهم تأثيراً ملحوظاً في البحرين، وقد عمل عبدالله القصيبي كممثل للملك عبدالعزيز في البحرين أثناء سفر أخيه عبدالعزيز إلى الهند، ويقول المقيم السياسي البريطاني آرثر بريسكوت تريفور إن عبدالله كان "يتصرف وكأنه قنصل لرعايا نجد في البحرين".
وتشير أمينة الأرشيف في المكتبة البريطانية سوزانا غيلارد إلى أن بريطانيا كانت ترى في القصيبيين حلفاء مفيدين في بداية الأمر، لكن تعاظم نفوذهم أثار قلق المسؤولين البريطانيين لاحقاً، وبخاصة بعد اضطرابات المنامة عام 1923، فتصاعدت الشكوك حول ولائهم السياسي وخاصة مع تنامي دورهم كـ "ممثلين غير رسميين" للملك عبدالعزيز على الأراضي البحرينية، مما دفع بريطانيا إلى إعادة النظر في طبيعة علاقتها بهم، وإن بقيت تستفيد من خدماتهم ووساطاتهم.
وأدى انهيار تجارة اللؤلؤ في أوائل الثلاثينيات إلى تراجع مركز العائلة الاقتصادي، ولا سيما أنها كانت تعتمد إلى حد كبير على هذه التجارة، ومع التحول الاقتصادي في السعودية وبروز شركات النفط العالمية، بدأ دور العائلات التجارية التقليدية في التراجع وأجبرت على إعادة هيكلة أعمالها لمواكبة الواقع الجديد، وهو ما فعله القصيبيون من خلال تقسيم الثروة وتأسيس شركات متخصصة لكل فرع من العائلة.
عقد الثلاثينيات وصعود الخليج
في مستهل الثلاثينيات تحول الخليج من مجرد ممر بين بريطانيا والهند إلى نقطة إستراتيجية للوصل بين الشرق والغرب، ومنطقة منتجة للنفط ذات أهمية حيوية للقوى العالمية المتنافسة، ومن أبرز أوجه التحول تزايد أهمية خطوط الطيران بين الخليج والهند على نحو يجعل الخليج بمثابة "قناة السويس" الجوية.
ويوضح أخصائي الأرشيف في المكتبة البريطانية مارتن وودورد أنه في منتصف العشرينيات لم يكن هناك أي خط جوي من الخليج العربي، لكن بحلول عام 1937 أصبحت شركة "إمبريال إيرويز" تشغل خمس رحلات أسبوعياً للركاب والبريد، وتحول الخليج خلال 10 أعوام من طريق مسدود إلى طريق سريع بين الشرق والغرب.
ويفيد مواطنه المتخصص في تاريخ الخليج، مارك هوبز، بأن المسؤولين البريطانيين أدركوا أهمية الخليج كطريق جوي إستراتيجي في ثلاثينيات القرن الماضي، فسعوا إلى إنشاء سلسلة من المطارات على الساحل العربي للخليج، في إطار من مخطط البريد الجوي الإمبراطوري الطموح الذي كان يهدف إلى تعزيز طرق الطيران البريطانية إلى أهم ممتلكاتها الإمبراطورية وهي الهند، وما وراءها إلى أستراليا، وأول هذه المطارات أنشئت في الشارقة.
وأنشأت بريطانيا مدارج للطائرات ومحطات للتزود بالوقود ومحطات لاسلكية ومنارات ومرافق للإقامة على طول الساحل الخليجي، في كل من الكويت والبحرين وقطر وأبوظبي ودبي والشارقة ورأس الخيمة، وحينها كانت الطائرات المائية منتشرة بقدر الطائرات العادية نفسه، وكان يتعين على الطائرات التوقف بصورة متكررة للتزود بالوقود أو تحسباً لسوء الأحوال الجوية.
واستمرت بريطانيا في لعب دور رئيس في تطوير صناعة الطيران في الخليج ضمن الجوانب العسكرية والمدنية طوال الثلاثينيات والأربعينيات، وسرعت الحرب العالمية الثانية وتيرة التطوير، وبخاصة في المواقع الإستراتيجية الرئيسة، وبدءاً من عام 1948 بدأت أولى الرحلات الجوية الداخلية في الخليج والتي كانت تديرها "شركة الخليج للطيران" المحدودة بين البحرين والدوحة والشارقة والظهران في السعودية.
بدايات الطيران المدني في السعودية
لعبت الولايات المتحدة الدور الأكبر في بدايات الطيران المدني في السعودية بعدما قدم الرئيس فرانكين روزفلت عام 1945 هدية للملك عبدالعزيز عبارة عن طائرة "دوغلاس دي سي-3"، مما مهد لتأسيس الخطوط السعودية عام 1946، ومع ذلك أسهمت بريطانيا بصورة غير مباشرة من خلال تأثيرها في معايير الطيران الإقليمي، فقد كانت الطائرات البريطانية والخبرة البريطانية جزءاً من المنظومة الجوية الأوسع في الشرق الأوسط خلال أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، مما أثر في الطيران المدني الناشئ في السعودية.
وكان لبرامج التدريب البريطانية الباكرة للطيارين السعوديين، والتي ركزت في الأساس على القوات الجوية الملكية السعودية، أثر غير مباشر في قطاع الطيران المدني، إذ إن بعض الطيارين الذين تلقوا تدريبهم في بريطانيا أو ضمن برامج بريطانية انتقلوا لاحقاً إلى أدوار مدنية، وأسهموا في نمو الخطوط السعودية وتوسع نشاطات الطيران المدني في البلاد.
وعسكرياً بدأت نواة سلاح الجو السعودي عام 1929 حين اشترى الملك عبدالعزيز أربع طائرات بريطانية من طراز "وستلاند وابتي مارك 2"، والتي كانت متقدمة تقنياً في وقتها، وتمركزت في أول مطار على جزيرة دارين في المنطقة الشرقية، مما شكل بداية الطيران المنظم في السعودية، وفي عام 1945 طلبت السعودية من الحكومة البريطانية تدريب الطيارين السعوديين فبدأ التدريب الأولي في الطائف، وبحلول عام 1953 أُرسل 10 خريجين سعوديين إلى بريطانيا للحصول على تدريب متقدم في الطيران ليكونوا من أوائل الطيارين السعوديين الحاصلين على شهادات دولية.
"صفقة اليمامة" الأكبر في التاريخ
بلغ التعاون العسكري بين المملكة المتحدة والسعودية ذروته عام 1985 مع توقيع أكبر صفقة أسلحة في تاريخ بريطانيا، عرفت لاحقاً باسم "صفقة اليمامة"، والتي رأت النور بعد مفاوضات سرية عقدتها مارغريت تاتشر مع المسؤولين السعوديين، وتوسعت هذه الاتفاقات عام 1988 بين الحكومة السعودية وشركة "بريتيش أيروسبيس" التي أصبحت لاحقاً "بي إيه إي سيستمز"، لتشمل توريد طائرات عسكرية لمصلحة القوات الجوية الملكية السعودية في إطار سلسلة من الاتفاقات الدفاعية الإستراتيجية.
وبدأت المرحلة الأولى من الصفقة في سبتمبر (أيلول) عام 1985، حين أبرم وزير الدفاع البريطاني مايكل هيزلتاين اتفاقاً مع الجانب السعودي نص على تزويد الرياض بطائرات "تورنيدو" و"بي إيه إي هوك" القتالية، إضافة إلى تقديم الدعم الفني وخدمات الصيانة المتعلقة بها، وإنشاء قاعدة عسكرية ضخمة في السعودية لتشغيل وصيانة هذه الطائرات، وقد بلغت القيمة التقديرية للصفقة نحو 43 مليار جنيه إسترليني (86 مليار دولار أميركي).
وشكلت "عقود اليمامة" نقطة تحول محورية في مسار قطاع الطيران العسكري السعودي، واعتبرت من أضخم صفقات التسليح في التاريخ الحديث، إذ وفرت دخلاً ضخماً للشركات البريطانية مثل "بي إيه إي سيستمز" و"رولز رويس"، وأسهمت في خلق آلاف فرص العمل داخل المملكة المتحدة.
ووفقاً لبيانات "معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام" خلال الفترة بين عامي 2016 و2020، فإن السعودية تعد أكبر مستورد للأسلحة البريطانية، متفوقة على سلطنة عُمان والولايات المتحدة اللتين احتلتا المركزين الثاني والثالث على التوالي، ويعتمد هذا التصنيف على قيم مؤشرات الاتجاه (TIV) التي وضعها المعهد، والتي تعكس حجم نقل الموارد العسكرية لا القيمة المالية البحتة.
وتسعى السعودية منذ عام 2023 إلى الانضمام إلى برنامج "مشروع القتال الجوي العالمي" (GCAP) الذي تقوده كل من بريطانيا وإيطاليا واليابان لتطوير مقاتلات من الجيل السادس، وقد أطلق هذا المشروع في ديسمبر عام 2022، ويهدف إلى إنتاج مقاتلة شبحية متقدمة تتجاوز سرعة الصوت بحلول عام 2035، وقد أبدت بريطانيا انفتاحها المبدئي تجاه انضمام الرياض إلى هذا التحالف الدفاعي الطموح.
أول بنك في السعودية
كانت بريطانيا من الدول التي أسهمت في دخول المؤسسات المالية إلى السعودية، ففي عام 1950 افتتح "البنك البريطاني لإيران والشرق الأوسط" فروعاً له في جدة والخبر، وبعد عامين غير اسمه إلى "البنك البريطاني للشرق الأوسط"، ثم استحوذت عليه مجموعة HSBC البريطانية عام 1959، وفي ظل سياسات السعودة التي فرضها البنك المركزي السعودي خلال السبعينيات، جرى تأسيس "البنك السعودي البريطاني" (SABB) عام 1978 كشركة مساهمة سعودية بنسبة ملكية سعودية 60 في المئة، والبقية لمجموعة HSBC.
لكن أول مؤسسة مالية أجنبية في خدمات الصرافة في السعودية أُسست عام 1926 تحت اسم "الشركة التجارية الهولندية"، والتي كانت نواة ما عرف لاحقاً باسم البنك السعودي الهولندي، ثم "البنك الأول"، التسمية الحالية بعد اندماجه مع "البنك السعودي البريطاني" (ساب) عام 2021.
وافتتح فرع الشركة التجارية الهولندية آنذاك في جدة لخدمة الحجاج القادمين من جزر الهند الشرقية الهولندية (إندونيسيا حالياً)، ولعب دوراً محورياً في بدايات النظام المالي السعودي، إذ تولى حفظ احتياطات الذهب وتسلّم إيرادات النفط لمصلحة الحكومة، وأسهم في إطلاق الريال السعودي كأول عملة وطنية عام 1928.
الطريق نحو 2030
انتقلت السعودية وبريطانيا بروابطهما التجارية من فضاء العلاقات الشخصية إلى العمل المؤسساتي، ومن الأطر الضيقة للمصالح النفطية والدفاعية إلى مجالات التقنية المالية والذكاء الاصطناعي الجديدة التي تعيد رسم ملامح التعاون التجاري والاقتصادي بين البلدين.
وفي عام 2024 احتفل مجلس الأعمال السعودي - البريطاني المشترك بمرور 10 أعوام على تأسيسه، وسط طموحات باستغلال الفرص الناتجة من التحولات الاقتصادية والاجتماعية في السعودية، ويقول المدير التجاري والاستثماري السابق في السفارة البريطانية بالرياض وأحد مؤسسي مجلس الأعمال، كريس إنيس هوبكنز، إن "التحدي الأكبر خلال الأعوام الماضية تمثل في إعادة تشكيل صورة المملكة المتحدة داخل السعودية كشريك موثوق لتنفيذ رؤيتها الوطنية 2030، وتحقيق توازن في العلاقات يضمن أن تكون تبادلية وليست أحادية الاتجاه"، مضيفاً "حققنا تقدماً كبيراً في إدخال الشركات البريطانية إلى قطاعات مثل التقنية المالية والطاقة النظيفة، ونظمنا فعاليات دورية في الرياض ولندن لتقريب المسافات بين مجتمعَي الأعمال".
ومن أبرز هذه الفعاليات، كما ذكر هوبكنز، الحدث السنوي في "مانشن هاوس"، مقر عمدة حي المال في لندن، والذي استضاف وفوداً سعودية رفيعة ضمت أكثر من 100 شخصية من مسؤولي الدولة ورجال الأعمال، لكن النشاط لم يقتصر على لندن بل امتد إلى مدن بريطانية أخرى مثل نيوكاسل وشيفيلد وليفربول، ولا سيما أن كثيراً من الشركات الصغيرة والمتوسطة البريطانية تقع خارج لندن.
وتؤكد نائبة رئيس المجلس من الجانب البريطاني روكسانا محمديان مولينا في حديث إلى "اندبندنت عربية"، أن العلاقات الاقتصادية بين السعودية وبريطانيا شهدت تحولاً جذرياً منذ إطلاق "رؤية 2030"، مع توسع كبير في قطاعات مثل التقنية المالية والتقنية الصحية والتعليم والطاقة المتجددة، بعد أن كانت العلاقات تتركز تاريخياً في مجالات النفط والدفاع، موضحة أن مجلس الأعمال الذي أُسس عام 2014 جاء استجابة لحاجة ملحة لمنظومة تعزز العلاقات التجارية والاستثمارية بين البلدين، في ظل غياب كيان مماثل لعقود سابقة، مضيفة أن "لدينا في المجلس أعضاء من شركات كبرى مثل بي 'آيه إي سيستمز' و'رولز رويس' إضافة إلى شركات تقنية ناشئة تسعى إلى دخول السوق السعودية، ونحن نساعدهم من خلال تنظيم رحلات تجارية وفتح قنوات اتصال مع الجهات الحكومية السعودية".
ولفتت مولينا إلى أن "مجموعة روتشيلد" المصرفية، وهي من أقدم المصارف في العالم، افتتحت مكتباً لها في الرياض العام الماضي، في إشارة إلى الاهتمام المتزايد بالسعودية، مشيرة إلى أن المجلس رتّب زيارات ناجحة لرواد التقنية المالية في بريطانيا إلى السعودية، ومبينة أن المرحلة الحالية تمثل فرصة تاريخية لإعادة تشكيل العلاقة بين البلدين بما يتناسب مع المتغيرات الاقتصادية العالمية والمحلية.
واتفق هوبكنز مع مواطنته بأن العلاقة بين السعودية والمملكة المتحدة كانت قائمة بشكل رئيس على قطاعي الدفاع والطاقة، إذ سادت صورة نمطية بأن الفرص في السعودية مقتصرة على هذين القطاعين، لكن مع إطلاق "رؤية 2030" بدأت بريطانيا تدرك طبيعة الإصلاحات الاقتصادية في السعودية، وأن الفرص لم تعد مقتصرة على تصدير السلع بل تشمل تصدير الخبرات البريطانية.
وأبرز الدبلوماسي السابق التغيرات الاجتماعية الكبيرة في السعودية، مشيراً إلى التغيير الذي طرأ على دور المرأة، وقال إن "هذه التغييرات لها تأثيرات إيجابية مباشرة في العلاقات التجارية، وكان هناك كثير من الزوار البريطانيين الذين كانوا يحملون انطباعات قديمة عن صعوبة زيارة السعودية بالنسبة إلى النساء، واليوم عند زيارتك السعودية قد تصادف موظفة الجوازات في المطار، وهو أمر كان غير متصور قبل أعوام قليلة."