Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"قمة فاس" تفجر أزمة دبلوماسية بين السعودية وبريطانيا(ا)

رفض تاتشر استقبال منظمة التحرير الفلسطينية ضمن وفد جامعة الدول العربية إلى لندن 1982 يؤجج خلافاً عريضاً بين الرياض والمملكة المتحدة

الزعماء العرب في أعقاب قمة فاس 1982 (مؤسسة ياسر عرفات)

شهدت القضية الفلسطينية تحولات عدة خلال عقود من النضال ومد وجزر، إلا أن الدعم السعودي المستميت كان هو الثابت بين كل الفصول الصعبة التي مرت بها قضية العرب الأولى.

ومع أن للرياض مصالح دولية راسخة مع دول عظمى مثل بريطانيا، إلا أن تلك المصالح عندما يحاول الطرف الغربي وضعها على كفة تقابلها أخرى تفرط في دعم فلسطين، يجدون من الرياض صلابة غير مفهومة بالنسبة إليهم في بعض الأحيان.

وإذا كان التاريخ كما يقال هو "مرآة الحاضر"، فإن الوثائق البريطانية التي أفرج عنها حديثاً تروي بلسان دبلوماسيي لندن وقائع السجالات العصية مع السعوديين في هذ السياق، يوم تأزمت العلاقة بين المملكتين في عهد الملك فهد ومارغريت تاتشر، نتيجة موقف الحكومة البريطانية تجاه فلسطين في مقابل إصرار السعودية على مقاربتها المبدئية للقضية المنظورة حينها والصراع برمته.

بدأت الأزمة في أعقاب "قمة فاس" 1982 التي تقدمت فيها السعودية بمبادرة سلام لحل الصراع الذي كان يعيش مرحلة انسداد أفق في حينه، إذ كان الملك فهد جدد التزام من سبقوه، من منطلق الدفاع عن حق عربي محض، ولاعتقاده كما يوثق الوزير الراحل غازي القصيبي أنه "ما دامت قضية فلسطين لم تحل فلن تشهد المنطقة الاستقرار وستكون هناك حروب، والحروب ستقود لحروب أخرى".

حملت المبادرة مقترحاً يؤمل إنهاء الصراع الإسرائيلي - العربي، ومن أهم النقاط التي وردت فيها "انسحاب إسرائيل من جميع الأراضي العربية التي احتلها عام 1967، وإزالة المستعمرات الإسرائيلية في الأراضي التي احتلت بعد ذلك، وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس، وتأكيد حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، وتعويض من لا يرغب في العودة". وكانت في ما بعد النواة لمبادرة السلام العربية التي أقرت في 2002، ولا تزال المرجع العربي الأهم للمطالبة  بـ"حل الدولتين".

"ماذا لو فعلها عرب"؟

تتحدث وثائق الأرشيف الوطني البريطاني عن أزمة سياسية رافقتها حملات إعلامية بين لندن والرياض في فترة ما بعد قمة فاس، إذ قررت جامعة الدول العربية إرسال وفد عربي يتضمن قيادات من منظمة التحرير الفسلطينية إلى الدول الغربية، ومنها بريطانيا لعرض المشكلة العربية - الإسرائيلية وشرح الموقف العربي.

 

 كان من  المقرر أن يجتمع وفد الجامعة العربية مطلع ديسمبر (كانون الأول) 1982 بالحكومة البريطانية لكن الزيارة واجهت رفض رئيسة الحكومة آنذاك مارغريت تاتشر التي أعلنت مسبقاً عدم مصافحة قيادات منظمة التحرير الفلسطينية في حال تمت مقابلتهم وعلى رأسهم ياسر عرفات.  أثار الموقف غضب الملك فهد صاحب المبادرة العربية للسلام، إذ اعتبر سلوك رئيسة الحكومة البريطانية جاء مغايراً لموقفها من استقبال رئيس وزراء إسرائيل مناحيم بيغن الذي كان متهماً بقتل جنود بريطانيين خلال فترة الانتداب البريطاني لفلسطين.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تروي الوثائق أن السفير البريطاني لدى الرياض حينها سأله الملك "كيف يمكن لرئيسة الوزراء أن تصافح (مناحيم) بيغن، الذي كان هو نفسه مسؤولاً عن قتل الجنود البريطانيين؟"، قبل أن يبرر ذلك بأن تاتشر "ربما فعلت ذلك على مضض، ولكن السيد بيغن كان رئيس وزراء دولة لنا علاقات دبلوماسية معها. لقد تغيرت الظروف. لقد تغيروا أيضاً في حالة دول مثل ألمانيا واليابان التي استخدمت العنف في الماضي ضد البريطانيين".

وأضافت "نعم، قال الملك، بالتأكيد مع اعتماد قرار فاس تغيرت الظروف بالنسبة إلى الفلسطينيين.  وفي إشارة إلى التفجير الذي وقع في إسرائيل، تساءل عن عدد الانفجارات التي تسبب فيها الإسرائيليون في لبنان، مما أدى إلى مقتل مدنيين أبرياء. لقد تصرف الإسرائيليون بطريقة فاضحة. لو أن دولة عربية فعلت شيئاً من هذا القبيل، ألم تكن هناك ضجة في العالم؟ هددت إسرائيل الحكومات الغربية بتحريض جماعات الضغط الصهيونية في الغرب ضدها. العرب لا يهددون سوى بإقامة علاقات مفيدة مع الدول الغربية".

واتخذ الملك الحسن الثاني بصفته رئيساً لمؤتمر القمة العربية آنذاك، قراراً بتأجيل زيارة وفد جامعة الدول العربية إلى لندن، وكانت الذريعة الظاهرية هي مقتل الجنرال أحمد الدليمي وهو جنرال مغربي، قائد ميداني للقوات المسلحة الملكية المغربية المتمركزة في الصحراء المغربية، كما ألغت الرياض زيارات بريطانية لأمراء من الأسرة الحاكمة في بريطانيا وأعضاء من الحكومة البريطانية رافقتها حملة إعلامية عربية تطالب القادة العرب باتخاذ موقف حازم تجاه الحكومة البريطانية. لم يثر موضوع تأجيل زيارة وفد الجامعة العربية إلى لندن قلق الحكومة البريطانية بقدر ما أزعجها الموقف السعودي الرسمي والحملات الإعلامية العربية ضد بريطانيا.

وزير خارجية بريطانيا غير مرحب به

تتحدث وثيقة أخرى عن المحطة التالية من الأزمة الوشيكة على التفجر أو تفجرت بالفعل، وهي المودعة في أرشيف وزارة الخارجية البريطانية في تاريخ الـ14 من فبراير (شباط) 1983، وتقول "في ضوء التأجيل الأخير لزيارة وفد جامعة الدول العربية، أبلغ العاهل السعودي سفيرنا أنه غير مرحب بأي زائر وزاري بريطاني في الوقت الحالي. ويبدو من المحتمل أن ينطبق هذا أيضاً على دوق ودوقة كينت. ومن الواضح أنه من المهم للغاية في ضوء هذا الرفض ألا تتسرب المعلومات المتعلقة بزيارة اللورد كوكفيلد المزمعة إلى المملكة العربية السعودية في شهر مارس (آذار).  وينبغي أن يظل الخط العام الدفاعي هو أن أي وزير دولة للتجارة يجب أن يضع في سياساته بوضوح زيارة شريك تجاري مهم مثل السعودية، ولكن لم تناقش أي مواعيد لذلك. هناك جانب إيجابي صغير وسط هذه السحابة السوداء، وهو أن وزير الخارجية يمكنه الآن المضي قدماً في زيارته إلى عمان ومصر بمفرده، ويمكنه الذهاب إلى مصر في الوقت المناسب لحضور معرض اليوم الوطني البريطاني".

رسالة أمير سعودي تؤجج الخلاف

في هذا الجو المشحون أرسل الأمير بندر بن عبدالله بن عبدالرحمن رسالة إلى صحيفة "التايمز" البريطانية باعتباره مواطناً سعودياً، عبر فيها عن رأيه الشخصي حول موقف الحكومة البريطانية من القيادة الفلسطينية، طالباً من الصحيفة عدم ذكر اسمه عند نشرها، لكن الصحيفة تعمدت نشر اسم صاحب الرسالة بالكامل، فأثار ذلك ضجة إعلامية واسعة استهدفت العرب بشكل عام والسعودية على وجه التحديد. كان الأمير بندر يشغل حينها منصب مساعد نائب وزير الداخلية السعودي.

 

 جاء في مستهل رسالة الأمير التي أثارت الجدل بحسب الوثائق، ما نصه "إن الإهانة الأخيرة التي تعرض لها وفد عربي قادم إلى بريطانيا لشرح الموقف العربي في ما يتعلق بالمشكلة الفلسطينية لا ينبغي أن تمر مرور الكرام أو من دون عقاب. بعض الحقائق يجب أن توضح للشعب البريطاني لماذا كانت حكومتهم متهورة في إذلال العرب. إن بريطانيا اليوم ليست كما كانت في الماضي، فمن الناحية السياسية والعسكرية هي ليست أكثر من مجرد تابع للولايات المتحدة، لذلك كان عليها أن تقبل بكل لطف دعوة الجامعة العربية، لأن بريطانيا لا قدرة لها تقريباً من حيث التأثير في الأحداث بالمنطقة".

تشير الوثيقة البريطانية التي تحمل تاريخ السابع من يناير (كانون الثاني) 1983 إلى إلغاء زيارة وزير الخارجية وشؤون الكومنولث البريطاني وإلى رسالة الأمير السعودي، وقالت على لسان دبلوماسي بريطاني إلى مرجعه، قائلاً "أكتب إليكم بعد يومين من إلغاء زيارة (وزير الخارجية فرانسيس) بيم إلى الخليج، وبعد أربعة أيام من ظهور رسالة بندر بن عبدالله في صحيفة ’التايمز‘. أفضل وصف للرأي السعودي نحو الرسالة أنها مدهشة ومحيرة".

وأضافت الوثيقة على لسان المسؤول البريطاني اعتقاده أن السعوديين "على يقين من أن الأمير كان يكتب بشكل شخصي فقط، ويبدو أنهم محرجون للغاية لأن الرسالة أثارت كثيراً من النقاش في الصحافة البريطانية وفي "بي بي سي". وفي ما يتعلق بالمسألة العامة المتعلقة بالمقاطعة أو العقوبات المحتملة، يبدو أن هناك شعوراً عاماً بأننا "لا نقوم بحركات بهلوانية من هذا القبيل"، من وجهة نظري فإن هذا يتناسب مع الحذر الذي تتسم به الدبلوماسية السعودية وابتعاد السعوديين عن أي شيء قد يجذب عناوين الأخبار.

وبدا له أن "السعوديين هنا يعتقدون أن أسوأ الاحتمالات (أي إذا لم يتوصل إلى اتفاق سريع في شأن قبول وفد جامعة الدول العربية في لندن)، ستظهر سياسة على النمط الماليزي في المملكة العربية السعودية، أي محاولة تفضيل السلع والخدمات غير البريطانية ما لم تكن هناك أسباب مقنعة لاختيار العرض البريطاني. وهذا بالطبع سيكون سيئاً بما فيه الكفاية من وجهة نظرنا، لكنه لن يصل إلى حد فرض حظر عام على البضائع البريطانية. ومع ذلك لدي شعور قوي بأنه في ما يتعلق بفلسطين، هناك كثير مما يدعو إلى القلق من وجهة النظر البريطانية، وذلك لأن مجازر صبرا وشاتيلا غيرت كل القواعد الأساسية في جميع أنحاء العالم العربي".

مجزرة صبرا وشاتيلا هي مجزرة نفذتها قوات الإحتلال الإسرائيلي بمساعدة بعض الكتائب اللبنانية الموالية لها في مخيمي صبرا وشاتيلا للاجئين الفلسطينيين في الـ16 من سبتمبر 1982 واستمرت لمدة ثلاثة أيام، راح ضحيتها مئات من القتلى والجرحى من الرجال والأطفال والنساء والشيوخ المدنيين، غالبيتهم من الفلسطينيين ومن بينهم لبنانيون أيضاً.

ياسر عرفات يدخل على الخط

في هذا السياق تشير إحدى الوثائق البريطانية، وهي عبارة عن تقرير دبلوماسي مرسل من القنصلية البريطانية في جدة إلى لندن حول تصريحات مناهضة لبريطانيا أدلى بها الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات لوسائل إعلام عربية في الكويت.

 

وقالت إن عرفات "استمر في الإدلاء بتصريحات مناهضة خلال زيارته، وفي اجتماع عام يوم الخميس السادس من يناير (كانون الثاني)، قال إن المملكة المتحدة لديها موقف سيئ ويجب التعامل معها بحزم. وأضاف عرفات في مقابلة أجراها مع رئيس وكالة الانباء الكويتية (كونا)، برجس البرجس قبل مغادرته في السابع من الشهر الجاري أنه يجب أن تعامل الولايات المتحدة نفس معاملة المملكة المتحدة في حال رفضها المماثل لقبول عضو فلسطيني في وفد الجامعة العربية".

فيما تستعرض وثيقة بريطانية أخرى الخطوط العريضة للسياسة البريطانية من الأزمة المثيرة حول التمثيل الفلسطيني ضمن وفد جامعة الدول العربية، تحمل الوثيقة تاريخ العاشر من يناير (كانون الثاني) 1983 ومرسلة من وزارة الخارجية البريطانية لتوجيه سفيريها في الرباط وتونس.

"نحن في ورطة"

جاء في البرقية ما نصه: "لقد جلب العرب، إلى حد كبير، المشكلات الحالية على أنفسهم. تم الاتفاق على عدم مرافقة أي ممثل لمنظمة التحرير الفلسطينية لوفد الجامعة العربية عندما كان من المقرر أن تجري الزيارة في وقت سابق، وكان طلب ضم أحد الممثلين (منظمة التحرير الفلسطينية) بمثابة محاولة غير مقبولة ولا مبرر لها. سياستنا ثابتة  ولن يلتقي الوزراء بممثلي منظمة التحرير الفلسطينية إلا إذا تحركت عملية السلام إلى الأمام، وهذا يتطلب من منظمة التحرير الفلسطينية أن تعترف أولاً بحق إسرائيل في الوجود. لكن العرب سينظرون إلى الأمور بشكل مختلف".
 

وتابعت "نحن الآن في ورطة يجب علينا أن نخرج أنفسنا منها بسرعة ومن دون إلحاق مزيد من الضرر بعلاقاتنا مع العالم العربي، بعض الدلائل تشير إلى أن العالم العربي يريد إصلاح العلاقات أيضاً. ومع ذلك لا ينبغي لنا أن نتراجع، وإلا فإن ذلك سيدعو إلى الابتزاز في المستقبل. نحاول حل مشكلة تمثيل منظمة التحرير الفلسطينية عن طريق الحصول على موافقة منظمة التحرير الفلسطينية على ممثل منظمة التحرير الفلسطينية الذي يختاره السيد هيرد (وزير الخارجية). عرض ضم أحد كبار الشخصيات الفلسطينية إلى الوفد، الذي يمكن أن يستقبله رئيس الوزراء ووزير الخارجية (وربما الملكة)، ولكن هذا الشخص ليس ممثلاً عن منظمة التحرير الفلسطينية".

في الحلقة المقبلة نتعرف على فصول أخرى من الأزمة عبر الأرشيف البريطاني.

المزيد من وثائق