ملخص
طبعاً لا نريد أن نزعم هنا أن روزيتي صرف كل سنوات حياته واهتماماته الفنية في سبيل سلفه الكبير. فهو رسم عشرات المواضيع الأخرى بالطبع، ومعظمها كان بعيداً غاية البعد من دانتي وفكره وحكاياته. غير أن ما رسمه استلهاماً من دانتي الكبير يظل لافتاً وذا دلالة.
من المؤكد أن ذلك السيد الإنجليزي، من أصل إيطالي، والمدعو غابريال روزيتي، لم يكن يعرف حين أنجبت له زوجته ابناً ذكراً في عام 1828، أي في زمن كان هو مهووساً فيه بقراءة الترجمة الإنجليزية للكتاب النهضوي الإيطالي الأجمل والأكبر "الكوميديا الإلهية"، والحال أن ذلك الهوس لم يكن حاسماً بالنسبة إليه هو شخصياً، فحسب، بل كذلك بالنسبة إلى وليده. فهو لفرط حماسه لما كان يقرأ لم يتردد عن إطلاق اسم الكاتب الإيطالي دانتي على الطفل مرتبطاً باسمه العلم هو نفسه. ومن هنا، بفضل تلك المبادرة، تحدد مستقبل الولد ليصبح عندما نضج، ليس فقط فناناً نهضوياً، بل أكثر من ذلك، نهضوياً مهووساً بدوره باسمه، الذي سبقه إلى دنيانا بأكثر من ستة قرون: دانتي أليغييري نفسه مؤلف تلك "الكوميديا" المؤسسة. وأكثر من ذلك: بات مهووساً بالنهضة الإيطالية إلى درجة أنه كان، خلال النصف الأول من القرن الـ19، المؤسس الحقيقي لتيار في الرسم يحمل اسماً بادي الصراحة والدلالة "تيار ما قبل الرافائيلية" العامل على العودة بالفن إلى ما كان عليه قبل رافائيل ورفاقه من كبار رسامي النهضة الإيطالية. والحقيقة أننا لن نهتم هنا كثيراً بهذا التيار الذي سبق أن تحدثنا عنه مراراً في هذه الزاوية، بل بالفنان نفسه وكيف صنع له أبوه القارئ الشغوف والمتأدب اللطيف، شغفه المستقبلي وخياراته الفنية من خلال مجرد تسميته. فالفتى إنما نشأ وهو مولع، بدوره بدانتي مطارداً حياة هذا الأخير ومساره، وكل صفحة بل سطر مما خطه في كتابه الأكبر، ولكن أيضاً في كتبه الأخرى ومن ضمنها بالطبع "الحياة الجديدة"، الذي يعد الثاني في الأهمية بعد "الكوميديا الإلهية". وكان من الطبيعي أن ينعكس ذلك الشغف على فنون دانتي روزيتي حين تجاوز سن المراهقة وبدأ يخوض الرسم حتى من قبل تأسيسه ورفاقه ذلك التيار الذي نال، باكراً، رضا الناقد والمؤرخ والفنان الإنجليزي الكبير جون راسكن.
عمل استغرق حياة بأسرها
طبعاً لا نريد أن نزعم هنا أن روزيتي صرف كل سنوات حياته واهتماماته الفنية في سبيل سلفه الكبير. فهو رسم عشرات المواضيع الأخرى بالطبع، ومعظمها كان بعيداً غاية البعد من دانتي وفكره وحكاياته. غير أن ما رسمه استلهاماً من دانتي الكبير يظل لافتاً وذا دلالة. ومعظمه يبدو مجرد تصوير لحكايات أو فقرات من كتابات دانتي، من "الكوميديا" أو من غيرها. غير أن اللافت في ذلك كله أن الرسام استغرق زمناً طويلاً جداً في انكبابه على المواضيع المستقاة من الكاتب النهضوي بعدما كان قد بدأ اهتمامه بها وهو، بالكاد، بلغ الـ25 من عمره، وبات معروفاً في الحياة الثقافية اللندنية. فهو كان في تلك السن المبكرة حين حقق واحداً من رسومه الدانتية الكبيرة الأولى، وهي اللوحة المائية المعروفة بعنوان واضح هو "الذكرى الأولى لموت بياتريس". وبياتريس ما هي بالطبع سوى الحبيبة التي يسعى دانتي للعثور عليها في الفردوس في الجزء المخصص لهذا الأخير من أجزاء "الكوميديا" إذ يرافقه الشاعر فيرجيل. وتقول لنا حكاية الرسام إنه بعد وفاة زوجته الأولى إليزابيث سيدال في عام 1862 وجد نفسه مهووساً بحكاية بياتريس حبيبة سلفه دانتي الراحلة، بدورها، في عز صباها. ولعل اللافت هنا هو أن روزيتي إنما رسم بياتريس استناداً إلى فصل من كتاب دانتي "الحياة الجديدة" الذي كان هو نفسه، على أي حال، مترجمه من الإيطالية إلى الإنجليزية منذ عام 1849. وكما أشرنا على أي حال، لن تكون تلك اللوحة آخر ما استقاه روزيتي من دانتي ولا آخر لوحة عن بياتريس نفسها. بل نراه وقد حقق لوحات عديدة جعل مكانة الصدارة فيها لنساء عثر عليهن وعلى حكاياتهن في ثنايا الأدب الدانتيسكي. ومن ذلك على سبيل المثال لوحته الزيتية "بياتا بياتريكس" (أكثر من 66 سنتيمتراً عرضاً و86 سنتيمتراً ارتفاعاً) المأخوذة، بدورها، عما كتبه أليغييري عن حياة فاتنته في "الحياة الجديدة"، وهي لوحة ظل الفنان يشتغل عليها طوال ستة أعوام من دون أن يشعر أنها اكتملت أبداً، بل لربما لم يرد لها أبداً أن تكتمل ليظل معايشاً لها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من "الكوميديا" مباشرة
وفي النهاية يمكن الحديث عن كثير من تأثيرات دانتي الكبير على دانتي روزيتي الصغير، إلى درجة تستثير التمعن الحقيقي في تلك "الشراكة الإبداعية عبر الأزمان والمسافات". غير أن ما يهمنا هنا حقاً هو لوحة أكبر حجماً وأكبر شهرة وأنضج فناً، بدأ روزيتي الاشتغال عليها في عام 1868، ورحل عن عالمنا في نهاية الأمر من دون أن يشعر بأنها قد اكتملت. واللافت أن هذه اللوحة، بالذات، لا علاقة لها ببياتريس، وإن كانت على علاقة مباشرة بالنشيد الخامس من أناشيد الجزء المعنون "المطهر" في "الكوميديا الإلهية" نفسها. اللوحة التي نتحدث عنها هنا هي "لا بيا دي تولومي" التي يحكي فيها دانتي أليغييري حكاية مأسوية عن امرأة التقاها خلال تجواله في المطهر بصحبة رفيقه فيرجيل. واللوحة التي عرضت بصيغتها الأولى في لندن، مرتين، بشكلين مختلفين بعض الشيء، عامي 1856 و1857 كما تقول لنا سيرة روزيتي، لا يخفي الرسام مصدر موضوعها، إذ نراه يدون على إطارها تلك الأبيات الشعرية التي ترجمها هو نفسه عن النشيد الخامس في "المطهر" "تذكرني دائماً فأنا بيا التي صنعتني سيينا وحطمتني ماريمي...". وما يرويه صاحب "المطهر" في الأبيات التالية، إنما هو حكاية "لا بيا" تلك المرأة من مدينة سيينا التي سجنها زوجها نيلو ديلا بييترا في قلعة ماريمي المشيدة في منطقة محاطة بالمستنقعات على الساحل التوسكاني. وفي الحكاية أن المرأة البائسة أمضت أعوام سجنها وهي محاطة بطيور جارحة تعد في أساطير المنطقة رمزاً للوفاء الزوجي، وتشد أصابعها على محبس زواجها. وهذا هو، على أي حال، المشهد الذي يصوره روزيتي في هذه اللوحة التي ينظر كثر إليها بوصفها من أهم لوحاته وأكثرها تجديداً في الخطوط والألوان والتعبير. والتعبير الذي يحمله وجه لا بيا في اللوحة، البالغ ارتفاعها نحو 105 سنتيمترات، وعرضها أكثر من 120 سنتيمتراً، والمعلقة الآن في متحف "سبنسر" الفني التابع لجامعة "كانساس" الأميركية، هو السمة الأساسية فيها إذ إنه حزن يصل إلى أقصى الحدود مصحوباً بيأس مطلق.
مأساة مزدوجة
إن التاريخ يقول لنا إن الحظ السيئ لم يكتف بأن يطاول لا بيا في ذلك المصير البائس الذي عاشته، بل واصل الإيقاع بها حتى ماتت وهي في عز صباها بوباء الملاريا الذي أصيبت به في تلك البقعة الرهيبة من الجغرافيا الإيطالية. غير أن أهمية هذه اللوحة في حياة روزيتي ومساره المهني بشكل عام، لا تتوقف هنا، فالحال أن ثمة هنا في الأمر، جانباً آخر من الحكاية يتعلق بالموديل الحقيقي الذي استخدمه روزيتي في التعبير عن حال لا بيا ومصيرها، فهي ليست، في حقيقة الأمر، سوى حبيبته، خلال مرحلة لاحقة من حياته، جان موريس زوجة المفكر الاشتراكي ويليام موريس التي كانت، قد اعتادت منذ إقامتها وزوجها في لندن، حيث قدم ويليام دعماً كبيراً لتيار الما قبل رافائيليين، وسمح لروزيتي بأن يستخدمها موديلاً في عدد كبير من لوحاته غير متنبه إلى ولع الرسام صديقه بها، إلى درجة أنه أوصى المصور جون روبرت بارسونز أن يلتقط لها دزينة ونصف الدزينة من الصور الفوتوغرافية! والمهم هنا أن غرام روزيتي بجان قد تفاقم إلى درجة أنه، وفي هذه اللوحة تحديداً، عبر عن الحكاية مداورة وهو ما فعله في لوحات عديدة أخرى استخدم فيها جان موديلاً لنساء أغرم هو بهن وعبر عن ذلك من خلال سجونهن المتنوعة، في لوحاته في الأقل. ويقيناً أن هذا كله يجعل هنا من لوحة "لا بيا" لوحة مستوحاة من دانتي و"مطهره" ولكن كذلك، لوحة تعبر عما يعتمل في ذات غابريال روزيتي، دانتي الأكثر حداثة و... شغفاً بالتالي. ومن هنا لا يتردد جون راسكن في اعتبار هذه اللوحة واحدة من أكثر لوحات روزيتي ذاتية وابتعاداً، في الروحية في الأقل، عما كان التيار الذي أسسه روزيتي ودعمه راسكن نفسه، يتطلع إليه.