Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حمص تبحث عن الحياة وسط رائحة الدم والبارود

جثث في الطرقات واقتحامات واعتداءات بربرية والسنّة غير راضين عن الثأر فيما يطالب العلويون بإدارة ذاتية

أقل ما أفضت إليه تلك الليلة وقد شابهتها ليال سابقة هو الذعر العام والخوف من الشريك في الوطن (أ ف ب)

ملخص

أثارت موجة العنف الدامية التي شهدتها  مدينة حمص السورية فجر الجمعة الماضي، حالة من الذعر إذ تخللتها هجمات واشتباكات وعمليات تصفية واعتقالات نفذها مسلحون مجهولون، ما أسفر عن سقوط عشرات الضحايا. واتهمت بيانات محلية عناصر غير خاضعة للدولة بارتكاب جرائم بدوافع طائفية وثأرية، لم تنجح مؤسسات الدولة بردعها رغم بذل جهود.
 

شهد فجر الجمعة الماضي يوماً دموياً جديداً في مدينة حمص، حيث تضاربت الروايات وتشابكت الأمور واختلطت الأحداث حتى باتت حقيقة ما جرى غائبة أو مغيبة، لكن الأكيد هو أن أحداثاً محورية حصلت حين هاجم مجهولون حاجزاً للأمن العام في القطاع الجنوبي من المدينة، ودهم الأمن منزل العميد طيار علي شلهوب في حي "وادي الذهب" وقضى عليه بعد اشتباك، أوقع ضحية في قوى الأمن العام ومصابين آخرين، وبالتزامن كانت أصوات الرصاص تطغى على كل شيء مغلقة المجال السمعي للسكان الذين دخلوا حالات هستيريا جراء القلق والخوف.

وتبع ذلك عمليات دهم واسعة من عناصر ملثمة مجهولة لأحياء "وادي الذهب" و"كرم اللوز" و"النزهة"، معتقلين أعداداً غير معروفة من الشبان الجامعيين والمهندسين والحقوقيين وغير المتورطين في الحرب، ليعثر على جثث كثير منهم في الصباح مقتولة بطلقات نارية وملقاة في مناطق عدة. ورافق ذلك السلوك الاعتداء بالضرب المبرح الذي قد يكون مفضياً إلى الموت على شبان كثر آخرين.

والمفارقة الغريبة أن أهلهم يحمدون الله على أنها "مرت" بكسور ورضوض وأضرار جسدية فقط. وتم نهب كثير من الممتلكات في وقت كانت قوى الأمن تنشر حواجز إضافية وتكثف دورياتها وعناصرها وتسعى إلى ضبط مشهد الليلة الغامضة، من دون الانجرار نحو اشتباكات أوسع قد تجعل فجر حمص بلون الدم، مع عصابات منفلتة لا تحتكم للقوانين ولا ترتدع بها.

 

وأقل ما أفضت إليه تلك الليلة وقد شابهتها ليال سابقة هو الذعر العام والخوف من الشريك في الوطن، فسناء التي أوسعوا زوجها ضرباً أمامها دخلت في حال انهيار عصبي جعلها طريحة المستشفى حتى اليوم تحت تأثير الصدمة، والتقارير الطبية قلقة على صحتها العقلية والنفسية بعد البدنية، فلماذا تشهد حمص بالتحديد هذا التوتر المتصاعد كماً ونوعاً في عمليات القتل والتصفية يومياً في معظم الأحياء، ضمن سياسة تبدو ممنهجة على رغم اتسامها بالفردية، فصحيح أن الساحل السوري شهد مجازر مروعة خلال مارس (آذار) الماضي، لكنها كانت محصورة في نطاق ثلاثة أيام من الثأر، أما حمص فكل يوم تودع شاباً واثنين وخمسة و10 و20، ولا أحد يعرف القادم ولا الذي يخبئه أولئك المجهولون لمدينة عرفت تاريخياً باسم "أم الفقير".

دراما القتل والتهجير 

بعد الأحداث الدامية التي شهدتها المدينة فجر الجمعة وما سبقها من أحداث يومية لم تتوقف، قرر "المجلس الإسلامي العلوي الأعلى" في حمص إصدار بيان يشرح فيه ملابسات وظروف الأمور والمعلومات التي بحوزته، منطلقاً من وجهة نظره في تفنيد المجريات على الأرض، والمجالس العلوية هي مجالس محلية لم يعرفها السوريون قبل سقوط النظام، وهي مجالس ممثلة في المدن التي يوجد فيها علويون.

وجاء في البيان أن "ما جرى أخيراً هو نتيجة حتمية للسلاح المتفلت والمنتشر بيد عناصر غير خاضعة ولا تعترف بسلطة الدولة وحقها وحدها في حماية الأرواح والممتلكات ومحاسبة المتورطين، مدفوعة بحقد طائفي إجرامي ضد الناس جميعاً، تغذيها صفحات وفتاوى التحريض والتكفير والعنصرية، فبعد أن قام الأمن العام بتمشيط قرية الريان في ريف حمص الشرقي ومصادرة الأسلحة وإلقاء القبض على المطلوبين، حصلت اشتباكات عنيفة قتل خلالها أحد المطلوبين الأربعاء الماضي، وإثر ذلك قام مناصروه بالتخطيط للثأر والانتقام له من الأمن العام مستغلين حال الاستنفار الأمني، فقام شخصان مسلحان يستقلان دراجة نارية بإطلاق النار على حاجز الأمن العام، قرب دوار حي النزهة مما أدى إلى مقتل أحد عناصر الحاجز، فطاردهم الأمن العام وألقى القبض عليهما لتتبين تبعيتهما لإحدى العشائر العربية المنتشرة في حمص، ونتحفظ على ذكر اسمها حفاظاً على سير التحقيق، ليتبعها هجوم آخر من شخصين مسلحين يستقلان دراجة نارية في وادي الذهب - شارع الخضري، حيث قاما بإطلاق النار الكثيف في الهواء وعلى البيوت المدنية، فضلاً عن إلقاء القنابل لإرهاب الناس وإعطاء صورة عن أن ما يحدث هو اشتباكات بين الأمن العام والمدنيين".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وأضاف البيان أنه "تبع ذلك اشتباكات عنيفة بين الطرفين في أكثر من 10 مواقع كان مسرحها شوارع أحيائنا، ولقي أربعة عناصر من الأمن العام مصرعهم مما أسفر عن مداهمات لمنازل المدنيين في مختلف أحيائنا من قبل مسلحين يدعون أنهم من الأمن العام، فقاموا باختطاف وقتل العشرات من الشباب بدم بارد بطلقات في الرأس عبر إعدام ميداني، ومنهم طلاب جامعات ومدنيون ومحامون أو ضباط برتب صغيرة قاموا بتسوية وضعهم ولم يجر اتهامهم بشيء، إذ جرى اقتيادهم من بيوتهم ووجدت جثثهم بعد حين، ولم يقتلوا خلال اشتباكات مما ينفي مطلقاً الادعاء بأنهم فلول قتلوا خلال اشتباكات مع الأمن العام".

وتابع البيان أنه "جرت سرقة الأموال والذهب والموبايلات وتكسير بعض البيوت والضرب المبرح الوحشي لبعضهم، مع السباب الطائفي وإطلاق النار العشوائي، كما جرى توثيق كل حالات القتل والخطف لأماكن مجهولة حتى الآن، وعليه ما زلنا نعول فقط على العقلاء والشرفاء والوطنيين من شيوخ ووجهاء العشائر وأرباب الشعائر الدينية والأمن العام للحفاظ على ما بقي من سلم أهلي، ومنع التقسيم الذي لا نتمناه لما فيه من خطر وخسارة تطاول كل الأطراف، وندعو إلى تعزيز إمكانات الأمن العام بما يضمن الحماية التامة والدائمة لأهلنا في مناطقنا من الخطف والتهجير الممنهج والقتل، ونطالب السلطة بإشراكنا في حماية مناطقنا وإدارتها ذاتياً منعاً لحدوث خروق من الغرباء، وذلك تحت إشراف السلطة".

ويختم البيان، "للواهمين والمعولين والعاملين على ارتكاب كل الفظائع لتهجيرنا، نقول بالفم الملآن وقلوب لا تخاف وثقة مطلقة بالله، إننا باقون في بيوتنا وأرضنا لأننا أصلاء ولو كلفنا ذلك أرواحنا جميعاً، فنحن منذ اليوم الأول للسقوط لم تطلق طلقة واحدة من مناطقنا وأحيائنا باتجاه ممثلي السلطة في مدينة حمص، لذلك فإن إظهار المشهد على أنه حرب بين الفلول والأمن العام هو محاولة للتحريض والتشويه والتعمية على الحقائق".

النقاط على الحروف

وبحسب "رئيس المجلس الإسلامي العلوي" في حمص، الشيخ محيي الدين السلوم، فقد حان وقت إيضاح الحقائق كاملة وهي "أن المجالس الوهمية غير المتفق عليها والتي تحاول النطق باسم الطائفة لا تمثلنا ما لم تكن شرعية ومنتخبة، وأن الطائفة المسلمة العلوية، وهي المكون الثاني ديموغرافياً، لن تكف عن المطالبة بحقها في الحماية والأمن والأمان والعيش الكريم في ظل دولة مدنية ديمقراطية لا تقصي أحداً لدين أو عرق، وكل الدعوات التي تصدر من خارج الحدود وتدعو إلى تشكيل قوات وتمثيل للطائفة وجرها لمقتلة من دون الأخذ بالأسباب، كما منشور رامي مخلوف وغيره، فهي لا تمثل إلا مصدرها، وبعد مجزرة فجر الجمعة الدامية في حمص فإننا نطلب من السلطة الحالية القيام بواجبها الذي ألزمت نفسها به وهو حماية الجميع واحترام الحرية الشخصية والدينية وعدم الاعتقال التعسفي من دون أمر قضائي، وأن تكون الاعتقالات من دون ضرب أو شتم واقتحام البيوت بطريقة وحشية، ونطالب بوجود معرف عنها من الوجهاء أو مختار الحي لتوضيح سبب الاعتقال والجهة التي اعتقلت وضمان المحاكمة العادلة".

وطالب السلوم بتبيان "حال المحتجزين الذين يجهلون عددهم وأماكن وجودهم في السجون القسرية حتى تاريخه، ومن دون اتهامهم وإخضاعهم لمحاكمة عادلة فهم بهذه الحال في حكم الرهائن"، مضيفاً "نسعى على رغم كل الألم والدم إلى حفظ وحدة وسلامة أراضي بلادنا، ونعمل تحت سقف القانون المدني، وتكرار الجرائم والانتهاكات والتهميش والقتل والتهجير يدفعنا إلى المطالبة بالإدارة الذاتية التي تحقق ما نصبو إليه من أمن وأمان وعيش مشترك كريم".

 

ويرى السلوم أن تهمة فلول النظام أصبحت ممجوجة وغير واقعية، فذيول النظام البائد وفلوله هربوا معه، ومن بقي منهم من المتورطين المباشرين فهم بالعشرات، والتعامل مع هذا العدد بالنسبة إلى السلطة أمر يسير ولا ينبغي أن يعاقب المجتمع العلوي بأسره من أجلهم".

ويتساءل معظم السوريين عن هذه السرديات حول عناصر مجهولة الهوية والمقام والمكان والتبعية والتنظيم والتجهيز، وهذا سؤال بات السنّة يبحثون أكثر من العلويين عن إجابته، لأن شيئاً من التفتح السياسي بدأ يتسلل إلى مرامي العيون بأن استمرار حكم الدولة القائم الآن لا يستوي من دون عيش مشترك يحتضن كل مكونات الشعب، ولعل أبرز دليل على ذلك هو تبدل خطاب وزير الخارجية أسعد الشيباني بين محفلين دوليين وكلمتين أمميتين وبفارق أسابيع قليلة، فخلال "مؤتمر بروكسل للمانحين الدوليين" قال إن "أقلية حكمت سوريا لعقود وقتلت الأكثرية وهجرت الملايين منهم"، وقبل أيام قال في مجلس الأمن إن "سوريا بلد كل أبنائها وليست هناك أكثرية وأقلية".

وإذا ما عُزلت صفحات التحريض الطائفي على وسائل التواصل الاجتماعي جانباً فيمكن ملاحظة تعليقات وآراء العقلاء التي تجسدت في لحمة وطنية حقيقية للمرة الأولى عقب سقوط نظام بشار، فبعد بيان رامي مخلوف الأخير بالتحشيد في الساحل ومقابلته برفض معلن من العلويين لاستخدامهم كوقود لحربه تلك، لقي موقفهم إشادات بالجملة من المكون السنّي وخصوصاً بعد تأكيد أهل الساحل وحدة سوريا تراباً وشعباً، وبمعزل عن كون البيان حقيقياً أم مزيفاً فإن الناس عولت على ردود الفعل الأولى الرافضة والمستنكرة من بيئة مخلوف قبل غيرها.

وبعد كل ذلك يبقى القاتل مجهولاً وحق القتيل مهدراً والسلطة تائهة والمتمردون يوازون بأفعالهم خطر الفلول، فتصير الدولة بين نارين لا يأمن بين حطبها سوري على حياته، في ظل السؤال الأهم والأكبر والأعمق وهو ماذا يريد هؤلاء القتلة؟ وكيف يستسهلون القتل المجاني إلى هذا الحد؟ وهل إعادة إنتاج ما حصل خلال حكم نظام بشار هي سبيل تحقيق العدالة الوحيد؟

لماذا حمص؟

لم تكن حمص تاريخياً وخلال الحرب السورية مجرد محافظة على الخريطة، بل كانت بتموضعها في منتصف البلاد عقدة وصل بين كل المدن الشمالية والجنوبية والساحلية، وكان سقوطها بيد أي طرف يعني نهاية الحرب، وهي المدينة التي شهدت أم المعارك وأعنفها واستحقت لقب "عاصمة الثورة"، ولقد كان سكان المدينة يتوقعون أن تشهد حمص مجازر يندى لها الجبين يوم سقوطها بين الخامس والسادس من ديسمبر (كانون الأول) الماضي بيد المعارضة قبل سقوط دمشق والنظام بيومين، لكن شيئاً من ذلك لم يحصل وقتها مما جعل الناس في سكينة وهدوء لم يطل كثيراً، إذ صارت المدينة لاحقاً عنواناً للثأر والقتل والتصفية والانتهاكات والإهانات والخطف والتغييب القسري، وعلى رغم زوال قبضة الحكم الأمني المركزي المتمثل في نظام بشار، فإن المدينة لا تزال بعيدة من الاستقرار ودخلت دوامة متسعة من العنف الشامل المتسم بالسلوك الفردي الممنهج الذي خلفه غياب مؤسسات الدولة الفعلية، وقدرة الواصلين إلى الحكم على تغطية القطاعات والتجاوزات كافة، فالمدينة التي هجّر النظام مئات الآلاف من سكانها السنّة وأحدث بعدها تغييراً ديموغرافياً عز نظيره، ترك خلفه آثار حقد دفينة محمولة على أبعاد طائفية ومناطقية محقة عاطفياً وغير منصفة إنسانياً، فكأن سقوط النظام غير كاف لبلسمة الجراح بل هو السبيل لكشفها أكثر، وعوض أن تتجه البلاد نحو مصالحة وطنية أسوة بنماذج عالمية مثل جنوب أفريقيا ورواندا، صارت مسرحاً لتنفيذ الحسابات المؤجلة.

 

واللافت في حمص ليس الأسلوب الفرداني في تنفيذ عمليات القتل بل طبيعتها في حد ذاتها، فالقتل يجري ليلاً ونهاراً على يد فرد أو مجموعة أفراد تهدف بمنهجيتها إلى إعادة رسم شكل وتوازن المدينة، وسط حال من القلق تُجهل بموجبها هوية القاتلين وتبعيتهم، ففي حين ينفذ القتلة مهماتهم فإن الأمن يعزز انتشاره لحماية ما أمكن من السكان، وتصدى قبل أيام لعشرات الشبان الذين حاولوا اقتحام حي الزهراء العلوي مشكلاً درعاً بشرياً على مدخل الحي، ومنقذاً إياه من سيناريو مقلق يقوده مراهقون بـ "رؤوس حامية".

العدالة الانتقالية التي طال أمد تنفيذها وتفعيلها مع سقوط دولة قامت لعقود، وعدم تمكن الحكام الجدد حتى الآن من إيجاد عقد اجتماعي جديد يكفل حقوق الجميع، أسباب إضافية للفوضى التي حلت لتسود رائحة الدماء والبارود والانتقام والنبش في دفاتر الماضي، فحمص اليوم بلا حماية فعلية على رغم جهود الدولة الجديدة التي تصطدم بعقبات عدة، ومن بينها تفوق حال الضغينة والثأر ونقص القوة البشرية وغيرها، مما يجعل المجتمع بلا وسطاء فاعلين يتمكنون من مساندة دولتهم وملء الفراغ المؤسساتي ولو موقتاً، فبعض الفصائل يعيش حالات انقسام وتمرد والشرطة لا تملك زمام القوة المفتوحة المباشرة، مما يصعب مهمة محاسبة القاتل أياً تكن تبعيته، وبالتالي تسود شريعة الغاب وتصبح النجاة فردية وغير متوقعة.

وما يعزز ذلك الواقع هو عدم طرح مشروع مصالحة وطنية كبرى جادة وحقيقية، مما يقود إلى محاولة تمرير الأيام في حمص بأقل الخسائر عوض التعامل معها كجرح غائر ونازف يجب إيلاؤه أهميته المستحقة أمنياً وسياسياً وعسكرياً وإنسانياً واجتماعياً.

بيضة القبان

لم يجلس زعيم أو رئيس على كرسي الحكم في سوريا إلا وهو يعلم أن حمص "بيضة القبان" في السلم الاجتماعي والحشد الشعبي والسياسة العامة المجتمعية، ومنها يجب الانطلاق، فمن حمص يبدأ طريق أي سلام وخصوصاً بعد الأحداث المدمرة التي شهدتها خلال عقد ونصف العقد، مروراً بكل ما فيها من قصف وقتل وحصار وتجويع، فالمدينة اليوم لا تحتاج إلى حواجز أمنية مضاعفة على رغم أن الأمن في الطرقات، وبشهادة السكان، بات يتقن التعامل معهم باحترام ويتغلغل في أحيائهم وسط ترحيب شعبي ومطالبة بمزيد من الحماية، لكن المدينة اليوم تحتاج إلى مشروع إصلاحي جامع وشجاعة انتقالية تكرس أسلوباً واضحاً في التعامل مع الضحايا من دون تشف بمدنيين لا ذنب لهم، وقد علم النظام السابق خصوصية هذه المدينة وأن خسارته لها تعني خسارة الحرب، فوضع كل ثقله العسكري والسياسي والدولي فيها بين عامي 2011 و2014، قبل أن يتمكن من السيطرة عليها لينتقل نحو جبهات أخرى إثر تأمين ظهره وضمان أمنه وحماية عقدة مواصلاته، وإن كان اعتمد بذلك على الإسراف في القتل والدم من دون رادع، في أسلوب ميكافيلي خلاصته أن "الغاية تبرر الوسيلة"، ولو كان ثمن تلك الوسيلة دماء لم تجف بعد ومدينة بات أكثر من نصفها مدمراً وغير صالح للسكن.

 

أحمد الدروبي، وهو شاب من الطائفة السنيّة في حمص ومن عائلاتها المرموقة، يقول لـ "اندبندنت عربية" إنهم "غير راضين على الإطلاق بما يحصل لشركائهم في الوطن، فيد الإجرام غداً ستطول مكونات أخرى والدم يجر دماً، وببالغ الحزن نستفيق لنتلقى أخبار القتل والموت وإن كنا ذقنا القتل ومرارة الاعتقال والتهجير على يد بشار ونظامه، فهذا أول سبب يدفعنا ألا نتمنى أن يتعرض غيرنا لما تعرضنا له، فماذا سنستفيد لو دمرت بقية المدينة وبات لدينا بدل المظلومية مظلوميتان؟ فمن يقتل عناصر إجرامية ثأرية متفلتة لا تمثل الدولة ولا قيادتها ولا أمنها وجيشها، وهم يريدون جر حمص نحو صراع جديد لا أحد يريده، ولكن ماذا نقول؟ ولكن حسبنا الله في شيوخ الفتنة والمؤثرين التحريضيين على مواقع التواصل، وفي النظام المجرم السابق الذي أبى أن يغادر من دون أن يترك هذا الكم من الأحقاد بين السوريين".

أما عبدالملك السباعي، وهو شاب آخر من عائلات حمص المعروفة تاريخياً، فيرفض كما أحمد ما يحصل جملة وتفصيلاً ويقول "نحن مؤمنون بقيادة الشرع الذي تحدث بعقلية بناء الدولة، ولسنا سعداء بأخبار قتل الأبرياء والفقراء فالفقر لا دين له، وغالبية القتلى من المعدمين مادياً واجتماعياً، نعم هناك ثأر يطول مع المتورطين في دمائنا ولكن مكانه المحاكم ويختص بالمجرمين فقط، لا بالمدنيين والموظفين والنساء والأطفال الأبرياء، فمن عاش الظلم يدرك قسوته ولا يقبله على غيره لأن ثورتنا كانت ثورة حرية وكرامة، وشركاؤنا في الوطن استقبلوا الحكم الجديد بمحبة وقبول متعجلين الخلاص من بشار الذي قهرهم كما قهرنا، فعلام يحاسبهم أشخاص مجهولون ممعنين في القتل فيهم بلا سبب، وإن كانت الدوافع هي البحث عن الفلول فتلك مهمة الاستخبارات لا مهمة مجرمين يرمون القنابل في الطرقات على النسوة والأطفال، ونحن أهل السنّة، وعلى رغم رفضي لمصطلح الأكثرية، لكنه أمر فعلي يُحتم حماية بقية الأشقاء على مختلف مشاربهم وميولهم، وطالما أنهم جنحوا للسلم فعلينا أن نفعل ذلك كما أوصانا الكتاب الكريم والسنة النبوية، وانطلاقاً من أول شعار نادينا به في ثورتنا وهو الشعب السوري واحد".

ويتفق كثر مع طرح الدروبي والسباعي، فسوريا عبر تاريخها لم تُبنَ بلون واحد ومذهب واحد وعرق واحد، بل كانت وطناً لجميع أبنائها الذين تقاسموا الذود عنها خلال الحكومات الأولى ومنذ الاستقلال عام 1946، حيث تشارك الجميع صياغة عقد الدولة الاجتماعي من دون تفرقة أو تمييز، حتى إن الزعيم المسيحي الأشهر فارس الخوري كان وزيراً للأوقاف في حينها، وكان صاحب أشهر مقولة لا تزال متداولة حتى اليوم، حين قال من المسجد الأموي في دمشق "إن كان الاحتلال الفرنسي جاء ليحمي المسيحيين فأنا من هذا المنبر أشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله"، ليحمله أهل الشام من السنّة على أكتافهم ويطوفوا به شوارع البلاد وقتها.

الضرر الجماعي

وفعلياً لا يوافق كثير من سنّة حمص على ما يحصل، بحسب إفادات وشهادات عدة حصلت عليها "اندبندنت عربية"، مؤكدين أن ما يحصل لا يرضيهم ولا يقبلون به، بل أثر عليهم اقتصادياً واجتماعياً، فبعد تسوية حمص القديمة وخروج مسلحي المعارضة منها عام 2014 وتسوية حي الوعر عام 2018 انتهت الحرب في المدينة، وسريعاً تصالحت كل المكونات مع بعضها بعضاً وعادت للتعايش والاختلاط والتبادل التجاري والاقتصادي، حتى إن السنّة عادوا لافتتاح محالهم في أحياء العلويين والعكس صحيح، وقد عمل العلويون لدى السنّة في محالهم ومصالحهم ومعاملهم وورشاتهم والعكس كذلك، لكن ما يحصل اليوم هو إعادة لتقسيم المدينة إلى منطقتين، إحداهما غارقة في العزلة والعتمة والتشديد وعمليات القتل، حتى إن الحياة فيها تتوقف بحلول العصر، وأخرى تستمر الحياة فيها بصورة طبيعية، وهو ما يرفضه السكان بعد أن بذلوا كل ممكن لتفتح المدينة على بعضها بعضاً من جديد وينسى الناس ما حصل في أعوام سبقت، لكن العائدين الجدد وبعض من يريد الثأر وخلخلة المصالحة السابقة والواقع الأمني المستقر، عطلوا مسار أعوام من الأمل المجتمعي الذي لم تكبد السلطات حينها نفسها جهداً لرعايته يوم كانت تساوي في قصاص الجباية بين الجميع.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير