ملخص
الرئيس ترمب يريد انخفاض أسعار النفط وزيادة صادرات الغاز المسال، ولا يمكن لهما أن يتحققا معاً، لكنه يصر على أن تقوم دول أوروبية وآسيوية بزيادة مشترياتها من الغاز المسال الأميركي في مقابل عدم فرض رسوم جمركية عليها.
تصوّر أن البيرو وتشيلي جارتان في غرب أميركا الجنوبية، البيرو تصدر الغاز المسال وتشيلي تستورده، وخلال الأسبوع الماضي صدّرت البيرو شحنة غاز مسال إلى أوروبا من طريق دوران السفينة حول أميركا الجنوبية ثم الاتجاه شمالاً من جنوب الأرض إلى شمالها، بينما قامت تشيلي باستيراد الغاز من الولايات المتحدة حيث اتجهت السفينة جنوباً، فدارت حول أميركا الجنوبية ثم اتجهت شمالاً لتصل إلى محطة إعادة التغويز في تشيلي، والمسافة التي ستقطعها ناقلة الغاز البيروية إلى أوروبا نحو ثمانية أضعاف المسافة إلى تشيلي، فلماذا لا تستورد تشيلي الغاز المسال من البيرو؟
لكن الأمر أعقد من ذلك، فكلتا الناقلتين اللتين عبرتا متجانبتين في ذيل أميركا الجنوبية وقرب القطب الجنوبي، يمكنهما تقصير المسافة بصورة كبيرة إذا عبرتا قناة بنما في أميركا الوسطى بدلاً من الدوران حول أميركا الجنوبية، فلماذا لم تفعلا ذلك؟ وهنا نتذكر أن الولايات المتحدة هي أكبر مصدّر للغاز المسال في العالم، ويهدف الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى السيطرة على قناة بنما وانتزاعها من السيطرة الصينية بطريقة أو بأخرى.
روسيا
تصدر روسيا نفط الأورال الروسي إلى آسيا من طريق الموانئ في بحر البلطيق، فتدور حاملات النفط حول أوروبا الغربية ثم تعبر البحر الأبيض المتوسط وتدخل قناة السويس وتعبر البحر الأحمر، وعند خروجها من باب المندب تتجه إلى الهند والصين وبقية الدول الآسيوية، ومعظم النفط الروسي يمر في البحر الأحمر، ونادراً ما تدور السفن المحملة بالنفط الروسي حول أفريقيا للوصول إلى آسيا، وباختصار فأقصر الطرق من روسيا إلى آسيا هو عبور البحر الأحمر، حيث تمر عشرات السفن الروسية يومياً من دون أي مشكلات مع الحوثيين في اليمن، لكن ناقلات الغاز المسال الروسي لا تعبر البحر الأحمر وعليها الدوران حول أفريقيا لتصل إلى الصين، والفرق نحو 6 آلاف كيلو متر، فتصور الزيادة في كلف الوقود وأجور العمال وأجرة السفينة اليومية، فلماذا تستطيع روسيا إرسال النفط عبر البحر الأحمر ولا تستطيع إرسال الغاز المسال؟
قطر
قطر من أكبر مصدري الغاز المسال في العالم ولديها عقود مع شركات أوروبية عدة، وكانت تصدر الغاز المسال إلى أوروبا عبر البحر الأحمر وتحصل على خصومات من قناة السويس، ولا مشكلات لديها مع الحوثيين، إذاً لماذا يجب على ناقلات الغاز المسال القطرية الدوران حول أفريقيا للوصول إلى أوروبا والفرق في المسافة نحو 6 آلاف كيلومتر وفي عدد الأيام نحو 10.
الغاز المسال الأميركي وروسيا والصين
قررت الولايات المتحدة عام 2014 دعم صناعة الغاز المسال الأميركية بهدف التصدير إلى أوروبا وإحلاله محل الغاز الروسي ونجحت في ذلك، فانخفضت صادرات روسيا إلى أوروبا عبر الأنابيب بصورة كبيرة، وباختصار فقد طرد الغاز الأميركي المسال الغاز الروسي المنقول بالأنابيب، فقامت روسيا ببناء أنابيب غاز إلى الصين وزادت ضخ الغاز حتى قامت بطرد الغاز المسال الأميركي من الصين، لتتوقف بكين خلال الشهور الأخيرة عن استيراد الغاز الأميركي المسال.
أما أوروبا فخفضت استيراد الغاز الروسي عبر الأنابيب وقام الصقور الأوروبيون بإقناع أوكرانيا بعدم تجديد عقد ضخ الغاز الروسي إلى أوروبا عبر أوكرانيا والذي انتهى العالم الماضي، فالخفض الروسي لضخ الغاز عبر الأنابيب وعدم رغبة بعض الدول الأوروبية في استيراد الغاز الروسي خفّض تجارة الغاز الروسي عبر الأنابيب، لكن بوتين لعب لعبته وبدأ بإنتاج الغاز المسال وتصديره إلى أوروبا بأسعار مضاعفة مقارنة بغاز الأنابيب، وعلى رغم محاولة الاتحاد الأوروبي وقف استيراد الغاز المسال الروسي لكنه قرر أخيراً التخلي عن هذه الأفكار والاستمرار في استيراده.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
عدم تجديد عقد الغاز مع أوكرانيا سبب نقصاً في إمدادات الغاز في أوروبا ورافق ذلك شتاء قارس، فارتفعت أسعار الغاز في أوروبا وكونت فارقاً في الأسعار بين أوروبا وآسيا، بخاصة مع ضعف النمو الاقتصادي في الصين، وفرق الأسعار هذا جعل حاملات الغاز الأميركي تغير اتجاهها من آسيا إلى أوروبا، ففرق الأسعار كان أرباحاً صافية للشركات الآسيوية لم تحقق الشركات الأميركية أي أرباح إضافية منها.
ومع انتهاء الشتاء في أوروبا انخفضت أسعار الغاز المسال فأُعيد توجيه السفن المحملة بالغاز الأميركي إلى آسيا، وإحداها كانت قريبة من قناة السويس فجرى شراؤها وإرسالها إلى ميناء العقبة في الأردن حيث جرى تفريغها ونقلها عبر الأنابيب إلى سوريا، وأخرى قطرية كانت في طريقها إلى أوروبا عكست اتجاهها وعادت للخليج وأفرغت حمولتها في الكويت.
ألمانيا
قامت ألمانيا بالتخلص التدرجي من محطات الطاقة النووية والتعويض عنها باستيراد مزيد من الغاز الروسي، وقامت روسيا ببناء خط "نورد ستريم 2" ليبدأ الضخ مع إغلاق آخر محطة نووية، فتدخل الأميركيون وأُوقف الضخ، ويتضح الآن أن هذا كان سيحصل سواء غزت روسيا أوكرانيا أم لا، كما قامت ألمانيا بتوقيع عقود طويلة المدة لاستيراد الغاز المسال الروسي، وبعد الغزو الروسي لأوكرانيا قررت برلين وقف الواردات من روسيا واتخذت مواقف معادية تجاهها بما فيها إرسال أسلحة إلى أوكرانيا، لكن ألمانيا لا تستطيع التخلص من عقود الغاز المسال طويلة المدة، كما أنها لا تريد أن تظهر أنها تستورد الغاز الروسي، فقامت بالتنسيق مع الروس والفرنسيين على أن تقوم روسيا بإرسال شحنات الغاز المسال إلى فرنسا.
لمحة تاريخية
تاريخياً كانت تجارة الغاز الطبيعي إقليمية لأنه لا يمكن نقله إلا في الأنابيب، ومع تقدم التقنية جرى نقله عبر أنابيب في قاع البحر، لكن التجارة ظلت محدودة ضمن دول معينة، فتطوير تقنية الغاز المسال منذ الستينيات لم تستطع تحويله إلى سلعة عالمية إلا خلال الأعوام الأخيرة، والفكرة بسيطة من ناحية المبدأ لكنها معقدة ومكلفة من ناحية التطبيق، فقد أصبح النفط سلعة عالمية لأنه يمكن نقله في السفن إلى أي مكان في العالم، وما يميز النفط أن كمية الطاقة التي فيه عالية، فإذا أصبح بالإمكان تحويل الغاز الطبيعي إلى سائل يحوي طاقة عالية فيمكن نقله بالسفن إلى أي مكان مثله مثل النفط، ولكن الإشكال في أنه، كما ذكرت، يتطلب تقنية متقدمة واستثمارات ضخمة.
يجري تسييل الغاز من طريق تبريده في خزانات خاصة إلى 160 درجة مؤية تحت الصفر، فيتحول إلى سائل ويتقلص حجمه بنحو 600 مرة لتزداد كثافة طاقته بصورة كبيرة ويسهل نقله في سفن خاصة، ولا تستطيع أية دولة استيراد الغاز المسال إلا إذا بنت محطات "إعادة تغويز" تقوم بأخذ الغاز المسال من السفن وتحوّله إلى حاله الأصلية الغازية، ثم تنقله عبر أنابيب إلى محطات الكهرباء والمصانع، وهذا يعني أن الغاز ينقل من الحقول إلى محطات التسييل عبر أنابيب ثم يجري تسييله ونقله إلى سفن خاصة تنقله إلى موانئ فيها محطات إعادة التغويز لتعيده لحاله الغازية، ثم ينقل عبر أنابيب إلى أماكن الاستهلاك، ولهذا فإن أسعار الغاز المسال أعلى من أسعار الغاز في الحقول بصورة كبيرة، وأعلى من الغاز المنقول عبر الأنابيب.
التسعير
نظراً إلى عدم وجود سوق حرة للغاز المسال ولأن العقود كانت بين الحكومات، فقد جرى تسعير الغاز المسال وفقاً لمعادلة تربطه بالنفط ووفقاً لمحتوى الطاقة فيه، فإذا ارتفعت أسعار النفط ارتفعت أسعار الغاز المسال، وإذا انخفضت هبطت أسعار الغاز المسال معها، وكان كل شيء يجري وفق عقود طويلة المدة ومن دون أية مرونة فيها، إذ لا يستطيع المشتري إعادة بيع الشحنات إذا لم يكن بحاجة إليها، لكن ثورة "الصخري الأميركي" جاءت بطريقة جديدة للتسعير، فسعر الغاز في الأسواق المستقبلية أو الفورية الأميركية تضاف إليه كلفة التسييل والشحن، وبعبارة أخرى فهو لم يعد مربوطاً بأسعار النفط، والآن لدينا سعران في السوق، سعر العقود الطويلة المدة المرتبط بالنفط، وسعر في الأسواق الحرة يخضع لقوى السوق، وهما سعران مختلفان وقد يكون الفرق بينهما كبيراً في بعض الأحيان كما حصل عام 2022، وهذه الاختلافات تسبب كثيراً من المشكلات في أسواق الغاز المسال.
وعلى رغم فصل تسعير الغاز المسال الأميركي عن النفط لكنه مرتبط به من نواح عدة، فآبار النفط الصخري تنتج كميات كبيرة من الغاز، وارتفاع أسعار النفط يرفع إنتاج النفط وأسعار الغاز أيضاً، فيقوم المنتجون بالتخلص من الغاز في الأسواق بأي سعر مما أدى إلى انخفاض أسعار الغاز داخل الولايات المتحدة، ودعم صناعة الغاز المسال الأميركية، وإذا استمرت أسعار النفط بالانخفاض خلال الشهور المقبلة فإن إنتاج النفط الأميركي سينخفض وستنخفض معه كميات الغاز المتاحة لترتفع أسعاره، وهذا سيجعل أسعار الغاز المسال، وفقاً للعقود طويلة المدة، منخفضة، فإذا انخفضت الأسعار إلى أقل من كلف الغاز المسال الأميركي في آسيا أو أوروبا فإن هذا سيشكل ضربة لصناعة الغاز الأميركية.
خلاصة الأمر أن الرئيس ترمب يجهل هذه العلاقة، فهو يريد انخفاض أسعار النفط وزيادة صادرات الغاز المسال ولا يمكن لهما أن يتحققا معاً، لكنه يصر على أن تقوم دول أوروبية وآسيوية بزيادة مشترياتها من الغاز المسال الأميركي في مقابل عدم فرض رسوم جمركية عليها.