ملخص
تبدو حدة المفارقة أنه بينما تقاوم الولايات المتحدة وتحارب بشراسة من أجل ألا تتخلى عن عرش الاقتصاد العالمي، فهي تتنازل طواعية، ومن دون مقاومة، عن عرش القوى الناعمة المختلفة، بل تتنازل عن تميزها وتفوقها في هذا المجال هدية للصين، ولكل القوى الطامحة الجديدة، وفي وقت دقيق، حيث تثار معركة إعادة تشكيل العالم وامتلاك أوراق القوة والحضور.
يواصل الرئيس الأميركي دونالد ترمب حملته ضد مظاهر القوة الناعمة الأميركية كافة، وكأنه لا يريد أن يستثني منها شيئاً تقريباً، وما زالت الضجة الكبيرة حول إيقاف الوكالة الأميركية للتنمية الدولية للمساعدات، وهي قوة مادية وناعمة في الوقت نفسه، والتي بدأت بتجميدها بدعوى المراجعة والدراسة، ثم انتهت قبل مرور أشهر المراجعة الثلاثة إلى الإلغاء الكامل والتصفية، وتلى هذا إيقاف قناة "الحرة" العربية، فضلاً عن التفاعلات المعقدة التي تتواصل مع الجامعات الكبرى، وآخرها جامعة "هارفرد" العريقة التي رفضت الخضوع لطلباته وتعرض بعضها لإجراءات عقابية كبيرة.
المعركة الأكاديمية وما بعدها من دلالات
ربما تبدو هذه القضية أقل خطورة نسبياً من مسألة وكالة المساعدات الأميركية، ولكنها في الحقيقة بالغة الأهمية أيضاً، وتتداخل مع قضايا عديدة، وتمس أسس النظام السياسي الأميركي وتقاليد الفكر والبحث العلمي وتقاليد الجامعات الكبرى في العصر الحديث، وتمتد بطبيعة الحال لقيم الديمقراطية.
والمظلة التي اختارت الإدارة الجديدة أن تعمل في إطارها هي مظلة الانحياز الأعمى لإسرائيل وعداء الشعب الفلسطيني، ولكن في الحقيقة ليست السبب الوحيد، وعموماً بدأت الأمور بتصريحات لترمب، ولاحقاً لمساعديه، بعدم السماح بأي انتقادات أو تظاهرات ضد إسرائيل، ودعماً للفلسطينيين، وبعدها فرضت إجراءات عقابية في حق جامعة "كولومبيا" على رغم أن الأخيرة كانت متجاوبة مع الضغوط اليهودية، وهي الضغوط التي تسببت في إقالة رئيستها على رغم تنازلاتها، ثم بعثت الإدارة بتهديدات للجامعة الأعرق "هارفرد" قِبلة نسبة ضخمة من النخبة الأميركية والعالمية والأقدم حتى من تاريخ الاستقلال الأميركي، وهو ما لم يعجب الجامعة التي رأت التمسك بتقاليدها الجامعية، فكانت النتيجة إجراءات عقابية فورية وصلت إلى استقطاع أكثر من ملياري دولار من الدعم الحكومي الفيدرالي للجامعة، مما يعنى أن القضية انتقلت إلى مرحلة تكسير عظام، على أن رد فعل الجامعة أدى إلى استقواء جامعات أخرى انتقدت سلوك الإدارة الأميركية، وفي كل الأحوال من الواضح أن هذه القضية مرشحة لتفاعلات معقدة وقاسية في الفترة المقبلة.
وفى التقدير أن السبب الآخر لهذه المواجهة الجديدة ليست إسرائيل وحدها، وإنما في الحقيقة عدم ارتياح ترمب للتيارات السياسية والفكرية التي تسيطر على جامعات القمة الأميركية الليبرالية، والتي يصوت كثر من أبنائها تاريخياً، وليس اليوم فقط ضد الحزب الجمهوري، وربما اليوم لا ترتاح أكثر نخبها ودارسيها للتوجهات اليمينية المتشددة وللمفاهيم الشعبوية التي يروج لها ترمب، ومن ثم فالأرجح أنه لا يشعر بالارتياح نفسياً وسياسياً لما تمثله هذه الجامعات التي يتصدر كثير منها عرش الجامعات في العالم وليس فقط بلاده، وتلعب دوراً ربما لا يمكن تقديره بثمن في الترويج للحياة والنموذج الأميركي، ويتم تاريخياً ربط كثير من كوادر العالم المختلفة من دول متقدمة ودول جنوب بهذه الثقافة من خلال هذه الجامعات.
والمفارقة أيضاً أن مناخ هذه الجامعات وتمويلها الضخم يحقق النسبة الكبرى من التفوق العلمي والأكاديمي الأميركي الذي ينعكس تكنولوجياً، وفي مناحي الحياة كافة، ويكفي تذكر أن مستشفيات جامعة "هارفرد" العديدة كانت تحصل على دعم حكومي يقدر بأكثر من 7 مليارات دولار، وسيكون السؤال: هل ستكون هذه هي الخطوة الثانية بانعكاسات هذا على المنظومة الطبية والرعاية الصحية والأبحاث العلمية في مجال الطب؟ كلها أسئلة مهمة وتداعياتها ليست هينة.
والمفارقة أيضاً أن التضييق الذي سيتم على الجامعات والمؤسسات العلمية في ما يتعلق بالنشاط السياسي، وستمس عرباً، وربما يهوداً أميركيين أكثر، وغيرهم، لن تمس الطلبة الصينيين الذين يملأون الجامعات الأميركية في التخصصات كافة، وليس معروفاً عنهم أي نشاط سياسي أو غير سياسي حتى.
وكالة المساعدات التنمية الأميركية
عرضنا في كتابات سابقة بعض جوانب هذه القضية في معرض الحديث عما فعله ترمب في أشهره الأولى، وكيف أن كثيراً من برامج الرعاية الصحية حول العالم ستتوقف وتنهار بالكامل بسبب التوقف المفاجئ للمعونة الأميركية، وعلى رغم ذلك أشرنا إلى بُعد مهم من أن كثيراً من المليارات التي كانت تنفقها هذه المؤسسة الضخمة كانت تدخل في جيوب أميركية من أفراد وشركات من خلال صور عديدة، مثل الإشراف على أبحاث طبية وعلمية، سواء من خلال منظمات أممية كمنظمة الصحة العالمية وغيرها، فضلاً عن المساعدات المباشرة للدول المختلفة ومؤسساتها الاجتماعية والعلمية، وفي معظم هذه المشروعات، إن لم يكن كلها، كان هناك، دوماً، الطرف الأميركي المشرف الذي يتقاضى نسبة ضخمة مما يتم تقديمه بهذا الصدد، ولكن من دون شك، لا يمكن التقليل من حجم وأهمية هذه المساعدات في قضايا صحية وسكانية واجتماعية مهمة لدول الجنوب، كتنظيم الأسرة ورعاية الأمومة والطفولة، ومكافحة الفقر والأمراض المتوطنة، إذ كان كثر من المواطنين البسطاء حول العالم يحملون كثيراً من التقدير والصورة الزاهية للولايات المتحدة ودعمها ورعايتها.
وفى الحقيقة، إن هذه المساعدات المادية لم تكن فقط أداة اقتصادية للترويج والدفاع عن المصالح الأميركية، ولكنها لعبت دوراً لا يمكن تجاهله في إبراز صورة البريق الأميركي وجاذبية وقوة هذه الدولة كأكثر المجتمعات جاذبية في العالم.
وكانت إحدى مشكلات الصين الصاعدة، كقوة كبرى في العالم، أنها تستجيب لطلبات الحكومات، وليس الشعوب في بناء مؤسسات ضخمة أو قصور حكومية وحتى مدارس، ولكن مع قليل من المشروعات التي يلمسها المواطنون البسطاء، مثل تلك الأميركية، حتى لو كان معظمها رعاية فقراء وليس تحسين أحوالهم المستقبلية، كما كانت جاذبية المشروعات الصينية أنها كانت بلا شروط سياسية، وبخاصة في ما يتعلق بتوجهات النظم السياسية، وهو أمر محل خلاف لدى الناشطين السياسيين في دول الجنوب، وفي مختلف الأحوال كانت واشنطن تتفوق بمساحة كبيرة في ما يتعلق بتدفقات مساعداتها الخارجية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إغلاق قناة "الحرة"
أنشئت قناة "الحرة" في أعقاب الغزو الأميركي للعراق في محاولة لتحسين صورة الولايات المتحدة التي تضررت كثيراً بسبب هذا الغزو، وروجت بعدها لأجندة وتوجهات السياسة الأميركية في المنطقة والعالم، وصحيح لا توجد دراسات تقييم لمدى فاعلية وصدقية هذه المحطة لدى الرأي العام العربي، لكنها، في الأقل، عكست اهتماماً أميركياً بألا تغيب وجهة النظر الأميركية عن التفاعلات الإقليمية في الشرق الأوسط، وليس فقط مجرد الدفاع عن سلوكها، واليوم يغيب هذا المنبر في وقت تزدحم فيه الساحة الإعلامية في المنطقة بمنابر عديدة ومتنوعة وتكتسب حرفية متزايدة، والبعض يتحدث عن نسب حضور ومتابعة متصاعدة.
واشنطن تغيب في وسط عالم يُعاد تشكيله
لعقود أسهب الكتاب والباحثون في مناقشة مفهوم القوة الناعمة التي بلورها عالم السياسة الأميركي المشهور جوزيف ناي في تحليل مصادر القوة والتأثير الأميركية المتنوعة وقدرتها على التأثير، إضافة إلى القوة المادية - العسكرية والاقتصادية، وهي في الحقيقة بلورة لمفهوم وظاهرة قديمة زادت أهميتها في العصر الحديث، لكنها أقدم من ذلك، وهذا ليس موضوعنا، ولكن التركيز كان على القوة الأميركية بهذا الصدد، وكانت المقارنات بين واشنطن والقوة الصاعدة، أي الصين، تشير إلى أن هذا البعد يعطى أسبقية ضخمة للأولى، وتروج المقارنات إلى أن الصين، حتى لو صعدت اقتصادياً، فهي بعيدة كثيراً عن التأثير الثقافي والسياسي الأميركي.
ومن هنا تبدو حدة المفارقة أنه بينما تقاوم الولايات المتحدة وتحارب بشراسة من أجل ألا تتخلى عن عرش الاقتصاد العالمي، فهي تتنازل طواعية، ومن دون مقاومة، عن عرش القوى الناعمة المختلفة، بل تتنازل عن تميزها وتفوقها في هذا المجال هدية للصين، ولكل القوى الطامحة الجديدة، وفي وقت دقيق، حيث تثار معركة إعادة تشكيل العالم وامتلاك أوراق القوة والحضور.