Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

 الشعر يواجه حال الاغتراب تحت وطأة الحنين

المغربي مبارك السريفي يستعيد الطفولة في مواجهة فوضى الحياة

لوحة للرسام المغربي فريد بلكاهية (صفحة الرسام - فيسبوك)

ملخص

يراوح الشاعر والمترجم المغربي، أستاذ الأدب العربي في جامعة بنسلفانيا، ما بين الكتابة بالعربية والإنجليزية، فقد أصدر عدداً من المجاميع الشعرية بلغة ويتمان من بينها "أثر ابتسامة" و"قصائد المدينة" و"مطاردة فضاء متحرك"، وأصدر بالعربية أعمالاً أخرى من بينها "الصمت مكان وحيد" وأنطولوجيا "شرفة أطلسية" عن الأدباء المغاربة المقيمين في أميركا، فضلاً عن ترجماته عدداً من الكتب العربية.

 في عمله الشعري الجديد "لا تقصص رؤياك على إخوتك"، الصادر عن دار الأدهم في القاهرة، يعود السريفي إلى طفولته وإلى تجاربه القديمة في الحياة، مرتكزاً على الذاكرة في التقاط صور الماضي، لذلك ضم النصوص الأولى في الكتاب تحت عنوان دال: "تلك الأيام"، في إشارة إلى أننا أمام حالات استعادة وارتجاع متعاقبة.

في نصه الأول المهدى إلى إريك سيلين يرسم الإطار الذي تنطلق منه نصوص مجموعته الشعرية. ثمة رجل هادئ في شرفة البيت يتأمل المكان الراهن، لكنه منجذب إلى أشياء قديمة تحكمها "وتيرة الماضي"، لقد أوكلت إليه مهمة سرد اللحظات المنفلتة التي شبهها بـ"تموجات اللهب الساحرة"، وإذا كان العنوان يحمل دلالات النهي عن الحكي "لا تقصص رؤياك"، فإن الشاعر في المقابل يمارس هذا الحكي من بداية الكتاب إلى نهايته، غير أنه يظهر منه ويضمر وفق ما يريد، كأنما يتفق مع القارئ بأن تفاصيل حياتنا غير مهيأة لأن تحكى على الآخر في كليتها.

شعرية الأمكنة

يبدو مبارك السريفي في عمله الجديد متأثراً بالثقافة السينمائية من جهة، وبالكتابة الشعرية الراهنة في الحياة الأميركية، فهو يتوسل لغة قريبة من القارئ، من أجل تشكيل مشاهد متسلسلة. وهو يبرع في هذا التشكيل، ثم إنه في الآن ذاته مولع بوضع إطار لكل قصيدة، فالمعنى يتدرج لديه بالضرورة من مكان ما ومن لحظة ما. إنه يتقاسم مع القارئ إحداثيات المشهد قبل أن ينقل إليه المشاعر التي تعتمل داخل هذا الإطار، ويمكن أن نقف عند بعض الأمثلة، فهو يستهل نصاً بعنوان "أثناء غفوة عازف الكمان" بتأطير زماني ومكاني: "الساحة فارغة ظهراً"، ويبدأ نصاً بعنوان "جدتي" على هذا النحو: "عند المساء/ حين ينسدل الكون/ تجلس وحدها على عتبة البيت"، ونقرأ في مطلع نص "مناجاة": "الخامسة/ يستعيد الصباح رونقه/ من شرفة البيت".

يتكرر الأمر ذاته في مستهل قصيدة "لا غد في الأفق": "منتصف الليل/ تضيء الغرفة البسيطة/ تلقي نظرة خاطفة على المكان الساكن". هذا الحضور الثنائي في مداخل النصوص هو العنصر الأبرز في معمار القصيدة عند مبارك السريفي. وحين يغيب الزمان ينوب عنه المكان بالضرورة، ويكفي أن نتأمل هذه الأسطر التي يستهل بها نصوص المجموعة: "لا أحد رآه يدور حول نفسه في المطارات"، "ممدداً على الأرجوحة"، "فجأة انفتحت الصحراء لنا"، "في الغرفة الفارغة تخلع جلدها وتعلقه على المشجب"، "تتنزه على جسر السين بفتور"، "على جدران الكهف تتحرك الظلال"، "على المقعد الوحيد"، "عبرت شارع أنكردج".

إن انشغال الشاعر بتأطير المشاهد التي ينقلها إلينا بعنصري المكان والزمان هو ما دفعه في الغالب، عن قصد أو عن غير قصد، إلى تقسيم الكتاب إلى أربعة أقسام، حملت النصوص المندرجة تحت القسم الأول عنوان "تلك الأيام"، بينما كان عنوان القسم الثاني هو "أمكنة"، فيما حملت نصوص الفصلين الثالث والرابع عنواني "حب" و"تراجيديا"، باعتبار هذين العنصرين هما التشكيل الأمثل للمشاعر التي تُصرف داخل الإطار المكاني والزماني.

لا يتوقف السريفي عند تشكيل المكان والاحتفاء به في نصوصه، بل إنه يعمد باستمرار إلى تذييل هاته النصوص بأسماء الأمكنة التي كتبت فيها، واللافت أنها تنتمي لجغرافيات متباعدة: ألاسكا وأمستردام والرشيدية وباريس وسيدي قاسم وفيلاديلفيا ولشبونة وأرفود وسان فرانسيسكو ونيو أورليونز وبوسطن ونيو تاون وغرناطةو ميلوكي والدار البيضاء وغيرها.

طغيان الحنين

إن المجموعة الشعرية "لا تقصص رؤياك على إخوتك" للمغربي مبارك السريفي هي كتاب حنين بامتياز. يقول الشاعر في ما يشبه الاستسلام لجبروت هذا الشعور: "بعد أن قيل كل شيء/ ونأت المسافة/ يعود الحنين"، بل إنه يشير في أحد نصوصه إلى أن سبب كل الاعترافات هو الحنين. ثمة عناوين في الكتاب تغذي هذه التيمة، وترفع من ثم من منسوب التأثير في المتلقي، وتدخل القارئ إلى مناطق التقاطع والتعاطف مع الشاعر: "حب في المهجر"، "الترحال"، "ندم متأخر"، "لم يبق لنا سوى هذا الشاهد لنبكيك"، "الهائم"، "بدون عنوان"، "الغرفة الفارغة".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في هذا السياق يعمد الشاعر إلى ترصيص كمية هائلة من المشاهد المستعادة، والمستقاة من حياة سابقة في المكان الأول. في أحد نصوصه نقرأ: "تنجرف حياتك كالماء من بين أصابعك"، لذا فالكتابة هي مقاومة لهذا الانجراف.

كتاب مبارك السريفي "لا تقصص رؤياك على إخوتك" آهلٌ بالصور الشعرية. إن المشاهد تتدفق من أول صفحة إلى آخرها بإسهاب كبير، كما لو أن الشاعر مشغول على الدوام بنقل حياته وما يعتمل فيها من مشاعر متداخلة على هيئة صور، إذ يغدو الكتاب الشعري بمثابة ألبوم صور بين يدي القارئ. ولعل الاستعادات الغزيرة لمحكيات الطفولة ووقائع الأزمنة السابقة، وتقاسمها من ثم مع الآخر، تشكل نوعاً من الخلاص من سطوة الماضي. فالشاعر يتعافى من مرض الحنين عبر تقاسم أسبابه مع قارئ يفترض أنه يشبهه، أو أنه قادر على التفاعل مع الشحنات الشعورية المتدفقة من نصوصه الشعرية. تقول سوزان سونتاغ في هذا الصدد: "حين ينتابنا الخوف نطلق الرصاص، وحين ينتابنا الحنين نطلق الصور".

صدَّر السريفي كتابه الجديد بكلمة مطولة للشاعر المصري أحمد الشهاوي، أكد فيها أننا أمام ذاكرة تقاوم الضياع، يقول الشهاوي: "هذا الكتاب الشعري كتبه صاحبه خشية أن تتلاشى ذاكرته، ويهزمها النسيان، ويقسو عليها البعد، وتقددها الغربة".

يكتب السريفي غاضاً الطرف عن نصيحة إميل سيوران: "على الإنسان ألا ينبش في الذاكرة إذا أراد أن يكون سعيداً"، إنه وهو يكتب يسعى إلى أن تكون الذاكرة هي الحضور غير المرئي وفق تعبير فيكتور هيغو، بل لعله صرخ أثناء الكتابة مثلما صرخت قبله رضوى عاشور: "الذاكرة إذاً، الذاكرة هي كل شيء".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة