Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

علمانيون في أديرة مسيحية... لماذا؟

عيش الصمت الموحي برسالة كونية يفهمها الجميع من دون كثير من الكلام

ملخص

بوذي وهندوسي وهاربة من المسيحية وباحث عن السكون، والجميع في دير مسيحي بينيدكتي... لماذا؟

مؤكد أن مؤسسي الأديرة الأوائل الذين لاذوا بالصحارى والجبال والغابات وكل موضع ظنوه بعيداً من الناس، كانوا يسعون إلى غير ما يسعى إليه بعض سكان الأديرة اليوم. ومن المؤكد أيضاً أنهم كانوا يهربون من غير ما يهرب منه أحفادهم في زماننا، الذين يكتب أحدهم ما يلي:
"صمت الدير ليس كالصمت العميق في الغابة أو قمة الجبل، فهو صمت محتشد نابض بالحياة، يوشك أن يكون ملموساً. ومن جماله، ومما يعمقه ويوسعه، أنه يخصنا جميعاً. فبين الحين والآخر أسمع صوت باب سيارة يغلق بقوة، أو يصلني صوت حركة من المطبخ المشترك، فأتذكر، ويثيرني أن أتذكر، أن هذا المكان لا يقع خارج الدنيا، لكنه مختبئ في قلبها".
ويكتب أيضاً "في عزلة صومعتي بالدير... وفي الصمت، أشعر بكل من في الدير من الغرباء وكأنهم أصدقاء، ألتقي معهم في جذر عميق. وحين يمر أحدنا بالآخر في الطريق، لا نتبادل من الكلام الكثير، ولكن ما لا نقوله هو ما نتبادله".
ذلك ما يكتبه في كتابه الأحدث، بيكو آير، الصحافي الأميركي صاحب التجارب الطويلة في الاعتزال، والمؤلفات الكثيرة المتعلقة بالجانب الروحي في حياته. فليس لجوؤه إلى الأديرة، كما نرى، إلا بحثاً عن الدنيا، عن أسباب أعمق لحب الناس، وعن السكون لا عن السكينة. وما يهرب منه هو تعقيد الحياة الحديثة لكيلا تلهيه مغرياتها ونقائصها.
أما أجدادنا الأقدمون فتدفعهم إلى البعد من الحضارة أسباب أخطر شأناً، فقد كانوا يهربون بعقائدهم ممن يريدون فرض غيرها عليهم، كانوا يهربون بإلههم، بل إليه. يبحثون في عزلة الصوامع البعيدة "رضوان الله"، وذلك ما يشهد به القرآن للمسيحيين الذين اخترعوا الرهبنة. صحيح أن القرآن ينتقد أنهم ما رعوها حق رعايتها، ولكنه لا ينكر أنهم في الأصل ابتغوا بها رضاه.
في كتابه الصادر حديثاً بعنوان "المشتعل: التعلم من الصمت"، يمضي بنا بيكو آير رأساً إلى دير يقصده معاصرون لنا، فيكتب "في أصيل أحد الأيام أخرج إلى الصمت الموسيقي، فأمر بامرأة، طويلة شقراء، تبدو وكأنها من مكتب في الطابق الخامس والعشرين من بناية وسط المدينة التي ينتظر فيها رؤسائي مقالاتي. تبتسم قائلة ’أنت بيكو؟‘، ’أنا هو‘. ’أنا بولا. كتبت لك رسالة العام الماضي لأرى إن كان بوسعك أن تأتي وتتحدث إلى طلبتي‘".

هي روائية، واضح أنه لا ينقصها وكيل أدبي أو ناشر جيد في نيويورك أو منحة من المجلس الوطني للفنون، تدرس في مكان قريب على بعد ساعتين جنوباً. هربت من المسيحية وهي فتاة صغيرة في مينيسوتا اللوثرية، والآن رجعت إلى السكون ودفء الصحبة".
يكشف آير في كتابه أن بقية المقيمين في الدير ممن يمر بهم أو يراهم في المطبخ المشترك، "ليسوا على ما كنت أتوقع من رزانة وصرامة. يحييني أحدهم بانحناءة بوذية، وآخر بإيماءة هندوسية... فما يجمع بيننا ليس مذهباً، كما تبين لي، أو كائناً فانياً أو كتاباً مقدساً، إنماً هو الصمت الموحي برسالة كونية".

بوذي وهندوسي وهاربة من المسيحية وباحث عن السكون، والجميع في دير مسيحي بينيدكتي!

يكتب أندرسن تيبر في تقريره عن الكتاب "نيويورك تايمز-3 يناير (كانون الثاني) 2025" أن "آير في ما يبدو قضى حياته متنقلاً بين بيوت في اليابان، والولايات المتحدة، وإثيوبيا، والتيبت، وكوبا، وغيرها. وبقي لديه مع ذلك مكان واحد يقصد فيه السكون مذ كان صغيراً، هو معبد سانتا باربرا فيدانتا، الذي يقع أعلى التلال القريبة من بيت طفولته، مطلاً على ريف كاليفورنيا والمحيط المتلألئ من بعيد ويوفر له إحساس الملاذ".

قال آير لتيبر "أعتقد أننا جميعاً نسعى إلى أماكن السكينة التي نسترد فيها ما فقدناه... فحتى في طفولتي، حينما كنت لا أرغب في غير الحركة والإثارة، كان شيء ما يأتي بي إلى هنا، إلى أهدأ مكان عرفته".
جرت مياه كثيرة منذ طفولة آير وحتى رشده، فمضت به الصحافة إلى أقصى أرجاء الكوكب، لكن بقيت هذه البقعة مكاناً للتمهل والتأمل في حياته. ومع ذلك فكتابه الجديد ليس مخصصاً لهذه البقعة، إنما لتجاربه في مكان آخر مركزي في مساعيه إلى السكينة والهدوء، هو معتزل بيندكتي في "بيج صور" على ساحل كاليفورنيا ظل يتردد عليه طوال العقود الثلاثة الماضية، ابتداء من عام 1991 حينما قصده للمرة الأولى بعد احتراق بيته في سانتا باربرا.
مشرداً بعد احتراق بيته، وحراً أيضاً بحسب ما ينقل عنه أندرسن تيبر، أمده الدير بأربعة جدران، وسرير، ونظرة جديدة إلى حقائق الحياة والحب والموت. إذ تعلم من الرهبان "الرفقة والرحمة، والتعايش مع القلق، بل والموت".
"واكتشف أيضاً مزيجاً منعشاً من ثقافتي العالم القديم والجديد، فكانت إقاماته في معتزل ذلك الدير تطلق عنان الإبداع عنده، وتعلمه كيفية الاندماج في محيطه".
يكتب آير أن "المعتزل، مثلما تبين لي، لا يتعلق بالهرب بقدر ما يتعلق بإعادة التوجيه وبالتذكر. فالمرء لا يتعلم حب الدنيا إلا بالنظر إليها من كثب، ومن جميع الجوانب".
يكتب أندرسن تيبر أن "المشتعل" شأن كتاب آير السابق، "حياة شبه معروفة: بحثاً عن الفردوس" يمثل "سعياً إلى العثور على خط يواصل به استكشافه للعالمين الداخلي والخارجي، فقد ازداد بحث بيكو في الآونة الأخيرة تركيزاً على العالم الداخلي" بحسب محررته جين ديلينغ إذ تقول "إن لدى آير دائماً فضولاً حارقاً تجاه حياة الآخرين الداخلية، وهو الآن يشرع في تتبع فضوله تجاه داخله الخاص". ويعد آير ذلك تطوراً واعياً، وتحول متدرجاً في تركيزه.

يستهل كوستيكا براداتان أستاذ العلوم الإنسانية المتميز في كلية الشرف بجامعة تكساس التقنية استعراضه للكتاب "ذي أميركان سكولار-10 أبريل (نيسان) 2025" بقوله إنه "ليس بالأمر اليسير على أحد ألا يفعل أي شيء، أي شيء على الإطلاق. فذلك لا يستوجب فقط ما يقتضيه السكون من جهد للتركيز والانتباه، ولكنه يستغرق أيضاً كل ما يسبق ذلك من سنوات التدريب والاستعداد والانضباط الذاتي التي ينبغي على المرء أن يبرع فيها، ويقتضي المرور الجبري بمسار العمل على الذات". ويستشهد براداتان بقول أوسكار وايلد إن "عدم القيام بشيء هو أصعب ما في العالم، بل الأصعب والأشد تعقيداً". فقد كان وايلد كدأبه يخفي من وراء هزله جدية أكيدة.
"وهذا ما يعلمه بيكو آير خيراً من غالب الناس. إذ تكشف جملة أعماله المتنامية عن صراع دائم بين حياة العمل والكدح والانتظام في شؤون الدنيا، وبين سعي لا يكل من أجل السكون والصمت والانفصال عن الدنيا. فيكتب في كتابه ’فن السكون‘ أن ’كسب لقمة العيش وكسب العيش نفسه يبدءان في بعض الأحيان طريقين متضادين‘. وسيرة آير الذاتية نفسها تجسيد لتنافر هذين المسارين. ففي حين أطلقه أحد المسارين إلى حياة الترحال بوصفه صحافياً مرموقاً وكاتب رحلات بارزاً، وجهه المسار الآخر إلى رحلات خاصة إلى أماكن، إن لم تعده ببعض الراحة والانفصال أو حتى بالسكون التام، ففي الأقل ببعض التباطؤ: من قبيل نيبال والهند وكوبا، وفي نهاية المطاف، ساقه سعيه نحو السلام والسكينة، فترك نيويورك ليقيم في غرفة أحادية في أحد شوارع طوكيو الخلفية، حيث حاول، فلم يصادف سوى نجاح محدود، أن يعيش حياة شبه رهبانية، سردها في كتاب ’السيدة والراهب‘ (1991). وفي الكتاب التالي، تزوج الراهب الفاشل السيدة واستقرا في بلدة نارا قرب كيوتو (أي طوكيو القديمة). واستمراراً لبحثه عن السكون (’التحرر من الكدح المستمر‘ على حد وصفه)، دأب آير على ترك بيته في اليابان والذهاب إلى دير كامالدولي البيندكتي في "بيج صور" بكاليفورنيا. فعلى مدار العقود الثلاثة الماضية، قام بأكثر من 100 من هذه الرحلات. فلعل من أكبر مفارقات عصرنا أنك لكي تحقق السكون يجب أن تدمن على الترحال. وقصة هذه الرحلات هي التي يحكيها كتابه الأحدث ’المشتعل‘".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يتبع دير كامالدولي الجديد الذي يلجأ إليه آير بانتظام نظام رهبنة أسسه في القرن الحادي عشر الراهب الإيطالي رومولد الذي طوبه (أي أعلنه في درجة ما قبل القدسية) البابا غريغوريوس الثالث عشر لاحقاً. ويفرض هذا النظام بحسب كوستيكا براداتان ثمناً باهظاً للانفصال عن العالم. فها هي قاعدة القديس رومولد الوجيزة: ’الزم صومعتك لزوم الفردوس. واترك الدنيا كلها وراءك وانس أمرها‘. فما أسهل القول، وما أشق العمل، وذلك ما يكتشفه كثير من الأشخاص في كتاب آير. فالدنيا يصعب نسيانها أو تركها وراء الظهر، لأنها تتبعك حيثما ذهبت، وهي دائمة اللحاق بك، مهما اجتهدت في السعي إلى الاختباء منها. قد تجد نفسك في نهاية المطاف وحيداً في صومعتك متأهباً للتنعم بالعزلة بعد طول انتظار، فإذا بك تكتشف أن الدنيا سبقتك إلى الصومعة، فانغلق عليكما معاً بابها. وليس بوسعنا أن نترك الدنيا وراء أظهرنا بسهولة، لأنها فينا بالفعل، كأنها جراثيم مرض. وحتى الرهبان ممن اجتازوا أشق الاختبارات لا يكونون آمنين من العدوى. إذ يقول أحدهم في ’المشتعل)‘، ’حتى نحن معشر الرهبان، نذهب إلى البلدة ونرجع، ونتكلم فتعلو أصواتنا، وتتسارع نبراتنا، فكل شيء سباق، سباق جرذان‘".
"كثير ما تغيرت الدنيا منذ عهد القديس رومولد وقليلاً أيضاً ما تغيرت، فهو الكدح نفسه في كل مكان، والظلم نفسه، والاضطراب السياسي، وانتصار القوة الغاشمة. وأغامر فأقول إن المغزى الأدق لنظام القديس رومولد هو ألا يتبع حرفياً، فذلك مستحيل، وقد لا يكون مرغوباً أصلاً، وإنما تبنيه باعتباره طموحاً دائماً، وذلك ليس ضرورياً وحسب، ولكنه واقعي أيضاً. فاعمل وكأنك تركت الدنيا وراء ظهرك، على أن تعتني بها قدر طاقتك. ففي فعل الاعتناء هذا قد تعثر على الفردوس. إذ يكتب آير أن ’الراهب في جوهره هو الإنسان الأسمى في الدنيا. والدنيا هي الأحوج إلى لطفه وتضحيته بالنفس، والأكثر اضطراباً في الدنيا هم الأحوج إلى اهتمامه‘. فحينما ترى سباق الجرذان حولك في كل حدب وصوب، يكون الأكثر روحانية من إدارتك ظهرك له هو أن تواسي ضحاياه وتطبب جراحهم. وكما يقول أحد رهبان الكتاب ’إن وظيفتنا هي أن نبقى في المرجل على ألا نحترق‘. فالمغزى من حياة الرهبنة إذاً ليس الكمال الفردي وإنما ما يحدث لك في معرض سعيك إليه. فلو أن هناك من هو خير من الراهب الأمثل، فهو الراهب الفاشل".
من المزايا العظيمة في كتاب آير على حد قول كوستيكا براداتان أنه يقدم لنا سرداً دقيقاً وثرياً، ومسلياً في بعض الأحيان، وعميقاً فيها جميعاً، لما يحدث في نفس الراهب الهارب من الدنيا عندما يواجه في عزلة صومعته الدنيا التي يحاول الفرار منها. غير أن الدنيا التي يواجهها في صومعته دنيا مختزلة إلى جوهرها ومن ثم فهي أصدق، إذ إن ’العالم هنا لا ينمحي، لكنه يرجع إلى أبعاده الأصح‘ بحسب ما يكتب آير، و’الأمر ليس عثوراً على أي شيء أو طلباً لأي شيء، إنما هو السماح بتلاشي كل ما هو غير لازم‘. وهذه التجربة تجعله يرى كل شيء بعينين جديدتين غير مشوشتين، فمما يراه أنه يرى نفسه ويرى وضعه الجديد. فيكتب آير: ’كم هو غريب وثري أن يتطهر المرء من كل الضجيج‘. ويرى أيضاً علاقاته بالآخرين. فيكتب ’كثيراً ما أشعر في عزلة صومعتي أنني أقرب إلى من أهتم بأمرهم مما لو أنهم معي في غرفة واحدة، وأتذكر بغاية الوضوح لماذا أحبهم‘. وفي صومعة الراهب الانفرادية تفتح الدنيا ذراعيها أكثر مما درجت عليه".
سعي آير الدائم إلى السكون والعزلة هو الذي يسوقه إلى الدير البيندكتي، وليس أي التزام ديني. وعلى رغم عيشه حياة روحية شاقة، فهو يعترف بأنه لا ديني: ’إن اثني عشر عاماً من الوجود قسراً في كنيسة المدرسة، كل صباح ومساء، جعلتني أنفر أشد النفور من جميع الصلبان والترانيم‘. وحينما يسأله صديق بعد كل زياراته الطقوسية للدير ’هل تؤمن بالرب؟‘ يجيب آير: ’لا يهم‘".
يكتب براداتان أن "دين اللادين يشهد الآن ازدهاراً كبيراً، إذ يتوافد طالبو السكون العلمانيون من أمثال آير على المعتزلات. فهل لا ينبغي أن يثير هذا قلق الآباء البيندكتيين، وأمثالهم، ممن يقدمون المأوى لغير المؤمنين؟ على الإطلاق. لأنهم أيضاً قد يجيبون، وإن من الجهة المقابلة، بقولهم ’لا يهم‘. فهم يرون أن طلاب الصمت هؤلاء ينفذون تعاليم الرب وإن لم يعلموا ذلك".

ويتساءل براداتان: "أليس في هذا عبث؟" ويجيب "لا يهم. فهذا هو سحر الدنيا التي نعيشها". لكن، لماذا الأديرة؟ لو أن كل ما يبحث عنه طالبو السكون العلمانيون، بتعبير براداتان، يمكن العثور عليه في شتى أنواع المنتجعات والأجواء، ولو أن مخيمات رحلات السفاري توفر ما توفره الأديرة. لماذا التوافد على الأديرة إذاً؟ لعله دافع قريب الشبه بالذي يدفع المجرم إلى مسرح جريمته، لعله أمر شبيه بالارتباط بالأم حنيناً إلى الرحم الذي عشنا كلنا فيه ذات يوم. ولم لا؟ لعل مئات السنين من الصلوات والترانيم والتسابيح في تلك الصوامع لم تضع بدداً، فلا يزال أثرها ملتصقاً بالجدران يمكن أن نتحسسه، أو عالقاً بالهواء يمكن أن نتنفسه.
 


العنوان: Aflame: Learning from Silence 

تأليف: Pico Iyer

الناشر: Riverhead Books-Penguin Publishing Group

اقرأ المزيد

المزيد من كتب