ملخص
سبق المسلسل في تناول سيرة السوداني، مديرة مكتب صحيفة "نيويورك تايمز" السابقة في بغداد مارغريت كوكر في كتاب عنوانه "صائد الدواعش"، وجاء المسلسل ليؤكد رغبة الجمهور وتوقه لتخليد واحدة من قصص كثيرة مر بها العراق أثناء سنوات العنف والإرهاب، وتكريم أبطال حقيقيين من الواقع القريب لبلاد الرافدين.
انقضى رمضان، وانتهت حفلات الاحتفاء بمسلسل "النقيب" الذي عرض أخيراً على شاشة قناة "العراقية" الرسمية وكان بمثابة انعطافة لها مغزاها، فأن يتم تكريم أحد منتسبي الأجهزة الأمنية عن دوره الاستثنائي في الحرب على "داعش" هو محاولة لتسليط الضوء درامياً على دور هذه الأجهزة في التصدي للإرهاب، بعد أعوام من تصدر روايات الإشادة المنفردة بمقاتلي "الحشد الشعبي" بدعوى أنهم كانوا في صدارة المواجهة.
هذه النقطة الأخيرة أثارت نقاشاً طويلاً في الماضي لأن النصر العراقي على التنظيم اشتركت فيه أجهزة أمنية عراقية عدة، تقدمها جهاز مكافحة الإرهاب والجيش العراقي، والشرطة الاتحادية، ومعهم مقاتلو "الحشد"، لكن المنصات الموالية لبعض الفصائل المسلحة العراقية أرادت تعزيز هذه السردية على حساب جهود وتضحيات لا غبار عليها.
حارث السوداني، ضابط عراقي منسوب لخلية "الصقور" الاستخباراتية التابعة لوزارة الداخلية العراقية، تمكن من التسلل إلى صفوف تنظيم "داعش" ليصبح معتمداً لديهم في نقل السيارات والعجلات المفخخة (تمكن من تفجير العشرات منها في عمليات مموهة ومسيطر عليها) لما يقارب من عام ونصف العام قبل أن يُكتشف ويُعدم من قبل التنظيم عام 2017.
وسبق المسلسل في تناول سيرة السوداني، مديرة مكتب صحيفة "نيويورك تايمز" السابقة في بغداد مارغريت كوكر في كتاب عنوانه "صائد الدواعش"، ترجمه الصحافي العراقي عمار كاظم محمد. وجاء المسلسل ليؤكد رغبة الجمهور وتوقه لتخليد واحدة من قصص كثيرة مر بها العراق أثناء سنوات العنف والإرهاب، وتكريم أبطال حقيقيين من الواقع القريب لبلاد الرافدين.
أنتج "النقيب" ضمن منحة رئاسة الوزراء للدراما العراقية، وكتب سيناريو العمل جعفر تايه وأخرجه وثاب صكر، وهو من تمثيل عواطف السلمان وإياد الطائي ومازن محمد مصطفى وحسن هادي وحيدر أبوالعباس وسمر قحطان وسامر دشر وتحرير الأسدي.
دراما غير مقنعة
لكن العمل فشل في خلق قصة موازية على الشاشة تصلح لأن تكون جزءاً من مادة وثائقية ناجزة يمكن العودة إليها، ولعل ذلك يعود تحديداً إلى الاختيار غير الموفق لبطل المسلسل حيدر أبوالعباس الذي أخفق في أداء دور حارث السوداني باحتراف، بل كان أداؤه بارداً ولم يجسد الشخصية مثلما يجب أن تكون عليه، وخصوصاً في إطار الاجتهاد بتقديم تباين نفسي وسلوكي بين شخصية الضابط الذي يعاود مقر مؤسسته الاستخباراتية ويزور أهله بشكل متقطع، وذلك المخترق للتنظيم الإرهابي (أبوصهيب) الذي يعيش بينه ويجتمع مع عناصره، إذ لم نلمس تمايزاً بين سلوك الممثل وهو يؤدي الشخصيتين، ويمكن ملاحظة ذلك من أول حلقة وحتى الحلقة الـ15 والأخيرة، بخلاف الفنان حسن هادي الذي كان موفقاً في أداء شخصية القيادي في التنظيم (أبومريم).
لم يكن هناك أيضاً شغل عميق في نطاق توليف عناصر القصة الدرامية وتقديم صورة أكثر إجادة ودقة لأجواء التنظيم ويومياته، وظهر أن قياداته وعناصره جميعهم من العراقيين عدا طيف من اللقطات التي نشاهد فيها دوراً لأحد الآسيويين (أكينو)، وهو ما يخالف الواقع بما ينبه إلى خلل في البناء الدرامي للمسلسل، لأن الحقائق تشير إلى أن مقاتلي التنظيم بينهم أجانب وعرب، مما يعرفه أي متابع.
اهتم العمل بالخلفية الاجتماعية للنقيب حارث وعائلته، ونجح في توجيه الأضواء نحو بيئة مدينة الثورة (الصدر حالياً)، التي كانت الإشارة إليها غائبة عن الدراما العراقية لناحية طريقة العيش والحياة اليومية.
مشاهد قنص الإرهابيين والعمليات الانتحارية كانت فقيرة فنياً، ولم تخضع للمعالجة الواجبة على المنحى الإخراجي في إظهار جانب من الأكشن والترقب الذي أحاط بعمليات المواجهة الحقيقية مع "داعش"، سواء على مستوى صناعة المشهد الواحد، أو على صعيد استخدام تقنيات غير تقليدية في تمثيل هذه الأحداث.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
المشاهد الافتتاحية للمسلسل أوضحت بساطة خيال الكاتب في خلق بداية مؤثرة تليق بقصة السوداني، كما أن التصاعد في الأحداث، بناءً على الوقائع التي حصلت، لم يتناغم معه بطل المسلسل وهو يتنقل بين شخصيتي ضابط الاستخبارات والعنصر المتعاون مع التنظيم.
أما الحلقة الأخيرة فغير مبرر فيها كل هذا التوديع المبالغ به أمام الكاميرا لحارث السوداني من قبل رفاقه في الاستخبارات، في مشاهد لم تكن مشغولة فنياً، وكان بالإمكان اختصارها بنظرات سريعة أو إيحاءات مدروسة تستعرض القلق على مصير صائد الدواعش، وانحسر التفكير كما يتبين في كيفية إثارة المشاهد بإطالة الحوارات.
جدل المقدس والفني
إن خط الأحداث الخاص بالمسلسل، كان في حاجة إلى حبكة أعلى إتقاناً تولد أثراً عاطفياً من دون أي تنازل عن الجوانب الفنية وطبيعة الصراع، نذكر على سبيل المثال طريقة تقديم (أبومصطفى) للتنظيم من قبل زميله في الاستخبارات (أبوصهيب) أو النقيب حارث، وكذلك مشهد القبض على (أبوبركات) الذي كان باهتاً وغير مقنع بالمرة.
فنانون وكتاب سيناريو ساقوا الانتقادات للعمل وما فيه من هفوات إخراجية، وتوجهت معظمها لأداء البطل ولكاتب السيناريو، إذ نصح المنتج مشتاق فاضل الكاتب بـ"الاستعانة بضباط استخبارات قبل الشروع بتأليف مثل هذا العمل مستقبلاً، وأن يكون معه في ورشة الكتاب لدراسة الشخصية وكيفية بناء العقدة والحل والتعامل مع الكاميرا وأجهزة الهاتف والأداء الشخصي للضابط نفسه، لأن قصة حارث السوداني ليست أقل من (رأفت الهجان)".
الكاتب ضياء سالم قال في منشور له على "فيسبوك"، إن "هذا الفنان (يقصد حيدر أبوالعباس الذي وضع صورته) قدم أسوأ ما في الدراما العراقية بتمثيل شخصية حارث البطل الذي على الدولة العراقية أن تضع له تمثالاً".
أما على المستوى الشعبي فقد حصد المسلسل إشادات كبيرة من الجمهور غير المتخصص الذي تلقف باستحسان هذا التكريم الدرامي لرجل أمن عراقي اخترق تنظيم "داعش"، رغم انكشاف أمره ونهايته في ما بعد.
يخفق كاتب العمل جعفر تايه في كل عمل تلفزيوني بتقديم نفسه كمشتغل في الحقل الفني، وذلك بإدخال متبنياته العقائدية كرافعة لتسويق أعماله وكتاباته في الدراما، ففي مسلسل "آمرلي" الذي عرض العام الماضي، ادعى تايه أن الإمام علي كان حاضراً في معارك تحرير مدينة آمرلي، عندما "روى له ذلك ضابط وجد الدواعش وقد قتلوا جميعاً في تلك المعركة إلا جريح واحد بقي منهم أبلغه بأن من تولاهم بسيفه هو فارس على حصانه". وقتها دافع تايه عن نفسه بأنه لم يستطع تجسيد ذلك درامياً، ثم عاد ليستخدم التبرير ذاته في حديثه قبل أيام عن عمله "النقيب"، قائلاً إنه "لم يتمكن من نقل حقيقة حضور السيدة فاطمة الزهراء في إحدى عمليات النقيب حارث السوداني، التي شاهدها أحد الضباط من زملاء حارث وهي بهيئة امرأة تجلس قرب المواجهات الحامية".
مثل هذه التصريحات، ربما تثير ما تثيره اجتماعياً، لكن لا قيمة فنية لها، بل تضع علامات استفهام حول مدى قدرة مثل هذه الأعمال الدرامية على أن تكون خاضعة لتقييمات تأخذ بنظر الاعتبار مستوى الإبداع المجرد في العملية الفنية، لا تمرير الإدخالات الخطابية واستدرار عواطف الجمهور باسم العقائد والغيبيات، لتطويق وإزاحة ما يطاول المسلسل من النقد والتفكيك اللاحقين، ناهيك بالتمهيد لخلق مجال تقديس جديد بوجه من يفكر بمناقشة عمل درامي يحضر في قصته الحقيقية نبي أو إمام أو ولي من أولياء الله.