ملخص
"عملية القبض على المتهمين بالتخابر أو التعاون تتم من دون اتباع الإجراءات القانونية السليمة، ويودع المتهمون في السجون لفترات طويلة تمتد أشهراً عدة وبعضهم تجاوزت مدة حبسه العام، مما يخالف ضمانات المتهم القانونية خلال مرحلة التحري المنصوص عليها في قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1991".
مع تكثيف السلطات السودانية جهودها لملاحقة المتهمين بالتخابر والتعاون مع قوات "الدعم السريع" باتت السجون مكتظة بآلاف المحبوسين انتظاراً لمحاكمات عن تهم تتعلق بالنهب والتدمير، الذي طاول المؤسسات العدلية من نيابات ومحاكم بالمناطق الساخنة التي شهدت معارك، بخاصة في ولايتي الخرطوم والجزيرة، في وقت توالي فيه المحاكم بالولايات الآمنة شمال وشرق البلاد إصدار أحكام بالإعدام والمؤبد والسجن الطويل في حق معظم المدانين، وسط انتقادات كثير من المنظمات الحقوقية المحلية والدولية في شأن طبيعة المحاكمات وأساليب ووسائل الاعتقال والتحقيق، مما أكسب التعامل مع الملف كثيراً من الحساسية والتعقيدات.
قيد التحقيق
تصاعدت تعقيدات وتشابكات قضية المتعاونين مع قوات "الدعم السريع" في أعقاب تحرير ولاية الجزيرة والاتهامات التي طاولت الجيش والقوات المتحالفة معه بارتكاب مجازر انتقامية وانتهاكات واسعة لحقوق الإنسان ضد مجموعات إثنية بعينها تحت ستار شبهة التعاون، مما حدا بالفريق عبدالفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة الانتقالي، القائد العام للجيش، إلى تشكيل لجنة للتحقيق لم تعلن نتائج عملها حتى الآن.
تفادياً لتكرار ما حدث بالجزيرة، وجه الفريق أول ركن ياسر العطا، عضو مجلس السيادة الانتقالي، مساعد القائد العام الجيش، بتكوين لجنة تضم الاستخبارات العسكرية وجهاز الاستخبارات العامة والشرطة، كآلية تختص بالتعامل مع قضية المتعاونين مع "الدعم السريع"، ومرتكبي الجرائم، مؤكداً أن أخذ الحقوق يكون وفقاً للقانون لا باليد.
اتهامات مستمرة
تتهم تقارير هيئات حقوقية الأجهزة الأمنية الرسمية بالاستمرار في تنفيذ اعتقالات على أساس عرقي، بزعم التعاون مع قوات "الدعم السريع" واحتجاز بعض الناشطين الحقوقيين.
وذكرت هيئة محامي دارفور أن السلطات اعتقلت المئات من الشباب في مدن مثل بورتسودان وعطبرة، أوقفوا في الطرقات العامة والمحال التجارية واحتُجزوا في مراكز بشمال وشرق السودان، وجهت إلى بعضهم اتهامات بالتعاون مع "الدعم السريع"، وهي تهم قد تصل عقوبتها إلى الإعدام.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
على خلفية اعتقال أربعة أطباء في مدينة ود مدني عاصمة ولاية الجزيرة الأسبوع الماضي، عبرت اللجنة التمهيدية لنقابة أطباء السودان عن مخاوفها من تعرض الحركات النقابية والتنظيمات المدنية لحملات أمنية وعسكرية مع استمرار الحرب في البلاد.
حمل بيان اللجنة التمهيدية الجهات الأمنية التي نفذت الاعتقال المسؤولية عن سلامة المحتجزين، مطالباً بالإفراج الفوري عنهم.
تكدس السجون
في السياق أكدت هيئة محامي الطوارئ السودانية أن السجون في مناطق سيطرة الجيش مكدسة بآلاف المحتجزين الذين اعتقلوا في المناطق الآمنة أو ممن نزحوا إليها في بداية النزاع أو بعد نزوحهم لاحقاً.
وأوضح عضو المكتب التنفيذي والمتحدث باسم الهيئة، مصعب صباحي، أن كل الذين اعتُقلوا بواسطة جهة تعرف بـ(الخلية الأمنية) وهي تضم استخبارات الجيش وجهاز الاستخبارات والشرطة، يُقبض عليهم ويودعون في سجون تابعة لمناطق الجيش من دون أن تتوفر لهم شروط العدالة.
أضاف صباحي أن "عملية القبض على المتهمين بالتخابر أو التعاون تتم من دون اتباع الإجراءات القانونية السليمة، ويودع المتهمون في السجون فترات طويلة تمتد أشهراً عدة وبعضهم تجاوزت مدة حبسه العام، مما يخالف ضمانات المتهم القانونية خلال مرحلة التحري المنصوص عليها في قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1991".
تحريض وتصنيف
تابع "يُحول المتهمون إلى النيابات والمحاكم الموجودة في مناطق سيطرة الجيش بشكل جزافي وصدرت بالفعل أحكام وصلت إلى درجة الإعدام على كثر منهم، وغالباً ما يحاكمون بدوافع سياسية تحت المادة (51) من القانون الجنائي لسنة 1991، بتهمة الجرائم الموجهة ضد الدولة، من دون تمثيل للدفاع وبإجراءات غير مكتملة الضمانات القانونية مع طول فترة الحبس، حتى إن الجوانب الموضوعية ضعيفة جداً في ما صدر من إدانات".
وأردف "للأسف معظم الاعتقالات في مناطق سيطرة الجيش تتم بنهج تحريضي في كثير من الأحيان، أو بناءً على تصنيف جهوي أو قبلي في أحيان أخرى، وليس بناءً على أدلة محددة قانونية كما لا تتوفر لهم ضمانات التحري القانونية".
واتهم صباحي أجهزة العدالة وإنفاذ القانون ممثلة في السلطة القضائية ووزارة العدل والنيابة العامة بالافتقار إلى الاستقلالية اللازمة لمحاكمات عادلة ونزيهة وشفافة، معتبراً أن اعتقال المحبوسين تم بشكل تعسفي.
رهائن مدنيون
من جهتها أعربت منسقة الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في السودان، كليمنتين نكويتا سلامي، عن قلقها إزاء التقارير عن احتجاز رهائن في مناطق القتال بالبلاد وعدم قدرة المدنيين على مغادرة مناطق الصراع.
دعت سلامي، في بيان قصير على حسابها بمنصة "إكس"، إلى السماح بخروج المدنيين من مناطق الصراع وتأمين مرورهم للوصول إلى مناطق آمنة.
على صعيد متصل أوضح الناشط الحقوق والمجتمعي، عز الدين الأحيمر، أن السلطات الأمنية ألقت القبض على المئات من المتهمين في المناطق التي حررتها من قبضة قوات "الدعم السريع"، ووجهت لهم اتهامات مباشرة بالتعاون مع منظمة إرهابية.
أشار الأحيمر إلى أن هيئات حقوقية مستقلة عدة رصدت توسعاً ملحوظاً في أحكام الإعدام في حق العشرات من الشباب والفتيات خلال الفترة الماضية، إلى جانب أعمال قتل خارج نطاق القانون، مطالباً اللجنة الدولية للصليب الأحمر بالعمل على التحقق من ظروف احتجاز المتهمين بالتعاون والتخابر وتسهيل عمليات إطلاق سراحهم سواء بالنسبة إلى المحتجزين من جانب الجيش أو "الدعم السريع".
تصنيف المتعاونين
تابع "هناك ضرورة لتصنيف المحتجزين بتهمة التخابر أو التعاون مع ’الدعم السريع‘ وفقاً لأدوارهم، فباستثناء المنتظمين في القتال بشكل مباشر، هناك متهمون بالمساهمة في التعبئة والتجنيد أو الدعم المعنوي أو السياسي وهناك متهمون بالتواطؤ مع العدو، مما يتطلب التمييز بين مرتكبي الجرائم والانتهاكات الكبيرة ضد المدنيين، وأولئك الذين أُجبروا على التعاون أو اضطروا إلى التعايش معها تحت الترهيب في مناطق سيطرة ’الدعم السريع‘".
طالب الأحيمر بضرورة الإسراع بتقديم المحتجزين إلى محاكمات عادلة لضمان عدم بقائهم قيد الاحتجاز فترات طويلة مع امتلاء السجون، مشدداً على ضرورة استعجال تشكيل لجان تحقيق مستقلة للوقوف على كل حالة على حدة وإتاحة الفرصة لهم للدفاع عن أنفسهم، بخاصة الذين لم يرتكبوا جرائم جسيمة.
لفت الناشط الحقوقي والمجتمعي إلى أن "قضية المتعاونين مع قوات ’الدعم السريع‘ ليست مسألة أمنية فحسب بل لها أبعاد متعددة ومتشعبة يتطلب حل تشابكاتها بمعالجات قانونية واجتماعية، حتى لا تقود إلى تعميق الانقسامات التي ضربت المجتمع السوداني، لأن واقع المجتمع أصبح محتقناً بالغبن تجاه مجموعات سكانية بعينها متهمة بالتعاون في عمليات السلب والنهب وانتهاك الأعراض، مما يخشى معه من رد فعل متهور من المواطنين لاستعادة منهوباتهم بأنفسهم لأن كثيرين يعرفون من نهب منازلهم ومن أرشد إليها".
من جهته شدد النائب العام، الفاتح محمد عيسي طيفور، على عدم سماح مؤسسات العدالة بأخذ الحقوق باليد، مطالباً المواطنين بالاحتكام إلى القانون وتقديم البلاغات لاسترداد حقوقهم.
وأكد طيفور، خلال تفقده سير عمل النيابات بولايات الجزيرة والنيل الأبيض وسنار، اكتمال مثلث العدالة بعد انتشار الشرطة والنيابات والمحاكم.
ملاحقات سياسية
على الصعيد ذاته أوضح المعز حضرة، المحامي في مجال حقوق الإنسان، عدم وجود تهمة بمسمى "المتعاونين" في جميع القوانين السودانية، معتبراً أن الأمر برمته يندرج تحت محاربة رموز ثورة ديسمبر (كانون الأول) ولجان المقاومة، بموجب قوانين غير مكتوبة، منها ما يعرف بـ"قانون الوجوه الغريبة" الذي يعمل على تطبيقه فلول نظام البشير البائد مستهدفين به ناشطي الثورة.
ووصف حضرة حملات الاعتقالات ضد من يوصفون بالمتعاونين مع "الدعم السريع" بأنها محاولات تلفيقية لمحاربة كل من ينادي بـ"لا للحرب"، ويُلاحق ويُحارب شباب لجان المقاومة والطوارئ بصفة خاصة بمثل تلك الطرق المعيبة وغير القانونية.
وزاد "منتسبو النظام البائد الذين أعيدوا إلى أجهزة النيابة والقضاء هم من يقودون هذه الحملات، بتشكيل ما يسمى (الخلية الأمنية) من مجموعات المؤتمر الوطني الذين يخدمون في الأمن والجيش والشرطة وهم عبارة عن كتائب تنفذ اعتقالات خارج القانون، في مخالفات قانونية واضحة تحدثت عنها التقارير الحقوقية الدولية والأممية بما فيها لجنة مجلس حقوق الإنسان في جنيف".
تلفيق وظنون
شدد محامي حقوق الإنسان على أن "التخابر من التهم التي يصعب إثباتها قانوناً، كذلك لم تكن هناك بينات واضحة ضد كل الذين اتهموا بتقويض النظام الدستوري والجرائم ضد الدولة، بل هي تهم (ظنية) ملفقة لم تبنَ على أساس قانوني، واستندت فقط إلى رسائل أو تغريدات وجدت في هواتفهم، لذا فإن كل المحاكمات التي تمت وصدرت عنها أحكام بالإعدام غير صحيحة أو حقيقية".
من الجانب الآخر تحتجز قوات "الدعم السريع" المئات من المدنيين والعسكريين السابقين ممن تتهمهم بالتواطؤ والتخابر مع الجيش في سجون بمناطق سيطرتها أشهرها سجن سوبا، إلى جانب تحويلها كثراً من المنازل إلى مراكز للاعتقال في أوضاع إنسانية بالغة السوء، في ظل مصير غير معلوم داخل تلك المراكز وغياب أي نوع من المحاكمات.
تشير تقارير حقوقية إلى أن قوات "الدعم السريع" تمتلك أكثر من 40 مركز احتجاز تضم آلاف المحتجزين، في أوضاع إنسانية صعبة، فضلاً عن الإشارة إلى عمليات ابتزاز من قبل بعض عناصر "الدعم السريع" بالمطالبة بمبالغ كبيرة كفدية مالية لإطلاق سراح المحتجزين بعد الدفع.
وفق التقارير يواجه المحتجزون والأسرى لدى قوات "الدعم السريع" ظروفاً قاسية يتعرضون فيها لانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان بالتعذيب الجسدي والنفسي والحرمان من كل الحقوق الأساس، مما تسبب في وفاة عديدين منهم داخل مراكز الاحتجاز وذلك استناداً إلى شهادات ناجين من تلك المعتقلات.
منذ اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات "الدعم السريع" منتصف أبريل (نيسان) 2023، تصاعدت قضية المحتجزين المتهمين بالتعاون مع "الدعم السريع"، مع مواصلة السلطات الأمنية السودانية حملات ملاحقاتها المتهمين، وأثارت أحكام الإعدام المتعددة التي أصدرتها محاكم سودانية في مواجهة العشرات على خلفية بلاغات بالتعاون أو التخابر مع قوات "الدعم السريع"، موجة من الجدل في الأوساط القانونية والسياسية السودانية، دافع عنها البعض واعتبرها آخرون أحكاماً ذات صبغة سياسية.