ملخص
دونالد ترمب الذي اشتهر بكتاب "فن الصفقة" فشل مراراً في تطبيق مبادئه عند التفاوض، متخلياً عن أوراق تفاوضه كما حدث مع بوتين وأوكرانيا. من اتفاق الدوحة الكارثي حول أفغانستان إلى صفقاته التجارية الفاشلة مع الصين، أثبت عجزه عن عقد اتفاقات فعالة، مما يطرح السؤال حول قدراته الفعلية على عقد صفقات.
قدم دونالد ترمب في كتابه "فن الصفقة" The Art of the Deal الصادر عام 1987 نصيحة أساساً للغاية عندما قال "إن أسوأ ما يمكنك القيام به في أية صفقة هو أن تبدو يائساً لإبرامها، لأن ذلك يجعل الطرف الآخر يشتم رائحة الضعف، وحينها تكون قد خسرت. أما أفضل ما يمكنك فعله فهو التفاوض من موقع قوة، وتعد القدرة على التأثير أكبر مصدر قوة يمكن امتلاكه، والقدرة على التأثير هو أن تمتلك أمراً يريده الطرف الآخر أو يحتاج إليه، أو الأفضل من ذلك كله، ببساطة لا يستطيع الاستغناء عنه".
لكن من المؤسف للغاية أن الرئيس الأميركي نفسه يبدو عاجزاً عن الأخذ بنصيحته الخاصة، خصوصاً خلال وقت يستعد فيه لإجراء محادثات مقبلة حاسمة مع فلاديمير بوتين في شأن مستقبل أوكرانيا. والأسوأ من ذلك أنه لم يكتف بتجاهلها، بل فعل العكس تماماً، متخلياً عن أية ورقة تأثير كان يمكن أن يمتلكها حتى قبل أن تبدأ المحادثات.
ومن البديهي أن ترمب من خلال اقتراحه أن تتنازل أوكرانيا عن الأراضي التي استولى عليها الروس، واستبعاده نشر أية قوات أميركية على أراضيها، والأسوأ من ذلك تلميحه إلى احتمال أن تصبح أوكرانيا "روسية ذات يوم"، قد جرد نفسه عملياً من أية قوة تفاوضية، مسلماً جميع أوراق المساومة التي هي في حوزته إلى بوتين، الذي بات في موقع المسيطر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لا شك في أن القهقهة في أروقة الكرملين تتردد أصداؤها حتى البيت الأبيض، على بعد نحو 5 آلاف ميل (8 آلاف كيلومتر). وكما أشار رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية البريطاني السابق السير أليكس يونغر في برنامج "توداي" Today [تبثه "قناة بي بي سي الرابعة"]، فإن "الكشف عن كل شيء مسبقاً يبدو غريبا"، مضيفاً أن ذلك ليس مستغرباً من ترمب. لقد ذكره ما فعله ترمب في صفقته مع أفغانستان خلال ولايته الرئاسية الأولى.
تلك الصفقة كانت طبعاً "اتفاقية الدوحة" Doha Agreement التي وقعت عام 2020 والتي على رغم ترويج دونالد ترمب لها باعتبارها إنجازاً تاريخياً وصفقة القرن، فإنها مهدت في النهاية لعودة حركة "طالبان" إلى السلطة في أفغانستان. وكانت عواقبها مدمرة، إذ أرجعت ذلك البلد المنكوب مرة أخرى إلى أحلك عصوره، ولا سيما بالنسبة إلى النساء.
وعلى رغم أن الاتفاق كان يفرض على حركة "طالبان" الامتناع عن إيواء إرهابيين وتقليص الهجمات على القوات الحكومية الأفغانية، فإن هذه الشروط كانت غير قابلة للتنفيذ على الإطلاق، خصوصاً أن الاتفاق نفسه أدى أيضاً إلى تقليص جذري للقوات الأميركية في غضون 135 يوماً فحسب. ونتيجة لذلك، شهدت أفغانستان تصعيداً في هجمات "طالبان"، مما أسفر عن مقتل آلاف الأشخاص، وهي خسائر كان من الممكن تجنبها أو في الأقل تقليصها لو أن ترمب أبرم اتفاقاً مناسباً وأكثر فاعلية. وفي النهاية، ربما كان حتى نيفيل تشامبرلين ليحقق نتائج أفضل [رئيس وزراء بريطانيا من عام 1937 إلى عام 1940، الذي اشتهر بسياسة الاسترضاء تجاه ألمانيا النازية، وارتبط اسمه بـ"اتفاقية ميونيخ" عام 1938، التي سمحت لهتلر بضم منطقة في تشيكوسلوفاكيا تجنباً للحرب].
ثم جاءت اتفاقية التجارة الهزلية "المرحلة الأولى" Phase One التي وقعتها الولايات المتحدة مع الصين عام 2020. فبعد فرض رسوم جمركية على بكين، أبرم ترمب صفقة تلزمها بشراء سلع وخدمات أميركية بقيمة 200 مليار دولار على مدى عامين. وفيما بدا هذا الالتزام واعداً على الورق، إلا أن المفاوضين الصينيين تمكنوا من التفوق بسهولة على ترمب - الذي يفترض أنه خبير في عقد الصفقات - إذ لم يشتروا من الولايات المتحدة ولو حتى بدولار واحد مما تعهدوا به، كما يؤكد "معهد بيترسون للاقتصاد الدولي" Peterson Institute of International Economics [مؤسسة بحثية مستقلة تدرس الاقتصاد العالمي].
إن مثل هذه الصفقة الرديئة تذكرنا بسجل دونالد ترمب الحافل بالصفقات التجارية الكارثية التي انهار كثير منها وسجلت خسائر بملايين الدولارات. فمن "ترمب شاتل" Trump Shuttle (شركة طيرانه المنكوبة) إلى شركة "ترمب فودكا" Trump Vodka، و"جامعة ترمب" Trump University، جميعها خسرت صدقيتها وانتهت بإخفاق ذريع. وواجهت كازينوهاته في أتلانتيك سيتي سلسلة من الإفلاسات المتكررة، مما دفع بقطب الأعمال في كثير من الأحيان إلى الاعتماد على الديون والمناورات المالية المعقدة، من أجل إبقاء تلك المشاريع قائمة وإنقاذها من الانهيار.
الواقع أن ما يروج عن موهبة دونالد ترمب في عقد الصفقات ليس سوى خرافة أخرى روجت لنا. ففي الحقيقة، سرعان ما تنهار هذه الصورة عند التدقيق فيها. وبينما قد يكون عجزه التام عن التوصل إلى اتفاق جيد أمراً مضحكاً في سياقات أخرى، إلا أن عواقبه هنا قد تكون مدمرة. ففي حين أن الصفقة التجارية السيئة قد تؤدي إلى خسائر مالية، فإن الاتفاق الدولي الفاشل قد يكلف أرواحاً وموارد كبيرة. وإذا تمكن ترمب من فرض صفقة كارثية على الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، فإن العواقب قد تكون وخيمة، بحيث من المحتمل أن يرزح الآلاف تحت وطأة بوتين، الذي يعتقد كثر أنه سيواصل توسيع سيطرته على مزيد من الأراضي الأوكرانية خلال الأعوام المقبلة.
لكن ترمب لا يتقن إبرام الصفقات السيئة فحسب، بل يبرع أيضاً في عدم القدرة على عقد أي اتفاق على الإطلاق. من ينسى لقاءاته الشهيرة مع زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون الذي ادعى ترمب أنه يستطيع التفاهم معه؟ وعلى رغم وعوده بالتوصل إلى تسوية ما معه، فإن تلك الاجتماعات لم تثمر شيئاً سوى هدر لوقود الطائرات. والواقع أن حلف كوريا الشمالية مع الصين بات أوثق، وأن كيم أصبح يدعم حرب روسيا في أوكرانيا من خلال تزويدها بالأسلحة والأفراد. وفي ضوء ذلك، ربما كان من الأفضل لترمب أن يبقى في ملعب الغولف داخل فلوريدا.
كان أحد أكبر وأخطر إخفاقات ترمب هو قراره بالانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران. وعلى رغم التبرير الذي قدمه في حينه بأن الاتفاق كان معيباً ولم يفرض قيوداً كافية على الطموحات النووية الإيرانية، فإن الخطوة لم تؤد إلى بديل أكثر فاعلية. بل على العكس، فقد عاودت طهران تفعيل أجزاء كبيرة من برنامجها النووي، مما زاد التوتر في منطقة تعاني أساساً من عدم الاستقرار. ويعتقد كثر الآن أن إيران قد تتمكن من صنع قنبلة نووية في غضون أشهر، إن لم يكن أسابيع.
إلى جانب الفشل في إبرام صفقات مجدية - أو حتى أية صفقة على الإطلاق - فإن أسلوب ترمب في التفاوض رديء للغاية ويتسم بالتهور. فهو يعتمد أسلوباً متعجرفاً ومتبجحاً، يسعى من خلاله إلى فرض مطالبه غير الواقعية على خصومه عبر الضغط والتهديد. وفي كتابه "فن الصفقة" كان ترمب صريحاً في القول "إن أسلوبي في عقد الصفقات بسيط ومباشر للغاية. فأنا أضع أهدافاً طموحة للغاية، ثم أواصل الضغط بلا هوادة حتى أحصل على ما أريد".
للوهلة الأولى، قد يبدو هذا النهج وسيلة فعالة لترهيب الخصوم، بحيث يبدأ بمطالب عالية ثم يتراجع تدريجاً للوصول في النهاية إلى حل وسط. لكن - كما هي الحال مع جميع المتنمرين - تظهر المشكلة عندما يواجهه الآخرون أو يرفضون الامتثال لقواعده. ففي جوهره، يشبه طفلاً مشاكساً وانتقامياً يسعى إلى تدمير ما لا يستطيع الحصول عليه، مستخدماً الرسوم الجمركية والحظر في معاقبة الآخرين.
غير أن هذه التكتيكات القائمة على مبدأ "الأرض المحروقة" ليست سوى غطاء لفشل دونالد ترمب في إجراء مفاوضات ناجحة تشمل مختلف ملفات السياسة الخارجية الأميركية، كما يرى جيريمي شابيرو وفيليب غوردون في مقالهما بعنوان "ترمب وصعود الدبلوماسية السادية" Trump and the Rise of Sadistic Diplomacy الذي نشرته مجلة "فورين بوليسي".
ويلفت شابيرو وغوردون إلى المهارة الفريدة لدى الرئيس الأميركي في إلغاء الاتفاقات القائمة خلال ولايته الأولى، أو التخلي عنها - مثل "اتفاق باريس" المناخية، و"معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى" Intermediate-Range Nuclear Forces (INF)، واتفاق "الشراكة عبر المحيط الهادئ" Trans-Pacific Partnership، و"معاهدة الأجواء المفتوحة "Treaty on Open Skies - من دون أن يتمكن من تأمين أية بدائل مجدية. لا بل إنه في كثير من الأحيان تخلى عن تلك القضايا برمتها، تاركاً لزعماء العالم الآخرين تنظيف الفوضى التي خلفها.
وهناك إشكالية أخرى في نهجه التصادمي والمدمر، ففي عالم الأعمال، يمكن أن يتكاثر الأعداء نظراً إلى وفرة الشركات والفرص البديلة. لكن عندما يتعلق الأمر بالعلاقات الدولية، وفي ظل وجود أقل من 200 دولة في العالم، فإن نجاح المفاوضات والاتفاقات يعتمد على العمل بروح من حسن النية، وإلا فإن المخاطرة قد تصل إلى عزل حتى أقرب الحلفاء.
صحيح أن الولايات المتحدة بمواردها الهائلة يمكنها التصرف بتعجرف من دون عواقب، لكن دونالد ترمب قد يستهلك بسرعة ما تبقى من رصيد حسن النية الذي لا تزال بلاده تتمتع به. فهو يعرف بنهجه القائم على الصفقات، غير أن الحقيقة هي أن كثيراً من تلك الاتفاقات المزعومة تنتهي بإلحاق الضرر بالذين يفترض أن يكونوا المستفيدين منها.
فمسألة فرض رسوم جمركية عقابية على دول أخرى على سبيل المثال، قد تمنحه صورة "الرجل القوي" لبعض الوقت، لكن إلى متى يمكن أن تبقى قائمة قبل أن يدرك المواطنون أن هذه التعرفات سترتد عليهم وتنعكس عليهم سلباً على أوضاعهم، كما يحذر كثير من متخصصين في مجال الاقتصاد؟
وعلى رغم كل ذلك، خرج بيت هيغسيث وزير الدفاع الجديد في إدارة ترمب ليعلن للعالم أن رئيسه "أفضل مفاوض على سطح الكوكب". وقد يكون هذا النوع من الولاء مفهوماً، لكن بالنظر إلى السجل الكارثي لترمب في عقد الصفقات، لا يسع المرء إلا أن يتساءل، عن أي كوكب يتحدث؟
© The Independent