ملخص
تواترت خلال الأشهر الأخيرة الزيارات البريطانية نحو أفريقيا مما يؤشر إلى حقبة جديدة عنوانها الرئيس استدارة من لندن صوب القارة السمراء خصوصاً مع انهيار النفوذ الفرنسي.
يثير الحراك الدبلوماسي الذي تقوده بريطانيا في شمال أفريقيا هذه الأيام تساؤلات حول الدوافع الكامنة خلفه، خصوصاً في ظل الجدل الذي رافق ذلك، لا سيما بعد إعلان وزير الخارجية دافيد لامي على هامش زيارته تونس عن تخصيص تمويلات من لندن إلى هذا البلد من أجل تعليم المهاجرين غير النظاميين.
وإثر محادثات عقدها مع الرئيس التونسي قيس سعيد في قصر قرطاج كشف لامي عن تخصيص تمويل لتونس يصل إلى 5 ملايين جنيه استرليني، لبرامج تعليمية وتأهيل المهاجرين غير النظاميين الموجودين في هذا البلد الواقع شمال القارة السمراء.
وبموازاة هذه الزيارة التي أثارت الجدل والتساؤلات في تونس، كانت لنائب رئيس الأركان البريطاني هارفي سميث تحركات في ليبيا المجاورة التقى خلالها الفاعلين هناك وأهمهم رئيس حكومة "الوحدة الوطنية" الموقتة عبدالحميد الدبيبة وقائد "الجيش الوطني الليبي" اللواء المتقاعد خليفة حفتر ورئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي.
حد من التدخلات الروسية
وتأتي الاندفاعة العسكرية والدبلوماسية البريطانية نحو شمال أفريقيا في سياق إقليمي يتسم بتصاعد النفوذ الروسي، إذ باتت لموسكو قوات في كل من مالي والنيجر وبوركينا فاسو وجمهورية أفريقيا الوسطى وغينيا الاستوائية وليبيا.
ومنذ أعوام تحدثت حكومات المملكة المتحدة عن "إستراتيجيات طويلة الأمد" تجاه القارة السمراء التي تشكو فوضى أمنية وسياسية ومعضلات اقتصادية على رغم أنها تزخر بثروات هائلة، لكن لندن ركزت جهودها الدبلوماسية أخيراً على كل من ليبيا وتونس.
ومنحت الحكومة البريطانية خفر السواحل التونسي الذي يكافح من أجل التصدي لعمليات الهجرة غير النظامية طائرات مسيّرة ومناظير ليلية للرؤية.
الناشط السياسي التونسي المقيم في إيطاليا مجدي الكرباعي قال إن "زيارات لامي إلى شمال أفريقيا تندرج في إطار سياسات بريطانيا للحد من الهجرة غير النظامية، كما أن هناك مساعي أخرى من لندن للتصدي لتنامي النفوذ الروسي، خصوصاً أن تغلغل موسكو في الساحل الأفريقي قد يدفعها إلى الضغط على بريطانيا وبقية الدول الأوروبية بورقة المهاجرين".
وتابع الكرباعي في حديث إلى "اندبندنت عربية" أن "بالتالي، بريطانيا تسعى إلى الحد من التدخلات الروسية في المنطقة، وهناك تخمينات في شأن تطورات ملف الهجرة غير النظامية عام 2025 وأن عدد المهاجرين سيرتفع مقارنة بالعام الفائت نظراً إلى وضع المهاجرين".
وتعرف دول الجزائر وليبيا وتونس وجود عشرات آلاف المهاجرين غير النظاميين الذين دفعتهم الأزمات في دولهم إلى منطقة شمال أفريقيا التي تستخدم كنقطة عبور نحو السواحل الأوروبية.
تراجع ملحوظ
وتواترت خلال الأشهر الأخيرة الزيارات البريطانية نحو أفريقيا، مما يؤشر إلى حقبة جديدة عنوانها الرئيس استدارة من لندن صوب القارة السمراء، خصوصاً مع انهيار النفوذ الفرنسي التاريخي.
وتخيم الخلافات على علاقات الجزائر وفرنسا، فيما اضطرت باريس إلى سحب قواتها من خمس دول أفريقية أخرى هي النيجر ومالي وبوركينا فاسو وتشاد والسنغال، وتخطط لسحب مزيد.
وأوضح الباحث في المعهد الملكي البريطاني للدراسات الدفاعية والأمنية جلال الحرشاوي أنه "عند النظر إلى دور بريطانيا في شمال أفريقيا فيمكن القول إنه دور يشهد تراجعاً ملحوظاً، خصوصاً في ليبيا، ولا بد هنا من التذكير بمدى تقلص نفوذها خلال العقد أو العقدين الماضيين".
وأردف الحرشاوي في تصريح خاص أن "بريطانيا أصبحت دولة صغيرة جداً، لكنها بلا شك تفهم دول المنطقة جيداً، لا سيما ليبيا حيث لها تاريخ طويل في التأثير في مجريات الأمور هناك، ومع ذلك تبقى دولة صغيرة".
وفسر أنه "عندما قرر حفتر على سبيل المثال مهاجمة العاصمة طرابلس عام 2019، كان تأثير بريطانيا شبه معدوم، وفي بعض الملفات يمكن للمملكة المتحدة أن تؤثر عبر تقديم أفكار وإظهار نوع من القيادة، خصوصاً في القضايا التي تهم الولايات المتحدة، وحالياً تتصدر بريطانيا المشهد في إدانة الفساد داخل ليبيا بصورة عامة، وداخل المؤسسات الليبية تحديداً. لذلك من المهم متابعة مواقفها، ليس بسبب قوتها الذاتية، ولكن لأنها قد تؤثر في توجهات واشنطن".
فرص اقتصادية
وعلى رغم أنها باتت في قلب أزمات معقدة ومركبة سواء تتعلق بالهجرة غير النظامية أو أزمات داخلية مثلما يحدث في ليبيا منذ نحو عقد، فإن شمال أفريقيا تختزن ثروات أهلتها لأن تكون في قلب المنافسة الدولية.
وقال الحرشاوي "بالفعل تهتم بريطانيا بشدة بالفرص الاقتصادية لشركاتها في أنحاء شمال أفريقيا كافة، ولكن هي تسعى في ليبيا بصورة خاصة إلى تحقيق التوازن بين هذا الطموح ودورها السياسي، وباختصار لا تنبغي المبالغة في أهمية بريطانيا التي أصبحت دولة صغيرة مقارنة بتركيا أو غيرها من الدول في المشهد الليبي".
وشدد على أن "لندن تتابع عن كثب الأنشطة الروسية في المنطقة، وهي دائماً تؤيد اتخاذ إجراءات ضد التوسع الروسي"، مستدركاً "لكن مرة أخرى، من الصعب جداً على البريطانيين التحرك بمفردهم، ومع ذلك، إذا عملوا بصورة وثيقة مع دول أخرى مثل الولايات المتحدة أو أوكرانيا أو غيرها، يمكن للمملكة المتحدة أن تقوم بدور مؤثر من خلال اقتراح خطط عمل ضد روسيا في دول مثل ليبيا".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تقليص الدور الروسي
ورأى الباحث السياسي الليبي أحمد المهدوي أن "لقاء نائب رئيس الأركان مع حفتر والدبيبة والمنفي ليست له أية دلالات أو تقاطعات مع زيارة وزير الخارجية البريطاني إلى تونس، فالمحادثات في بنغازي وطرابلس تأتي في إطار حرص الحكومة البريطانية على إيجاد حلول سياسية للأزمة الليبية التي أصبحت تؤرق المجتمع الدولي وسط المتغيرات الجيوسياسية الحالية في المنطقة، لا سيما بعد تولي الرئيس دونالد ترمب رئاسة الولايات المتحدة الأميركية وإيقاف الحرب في غزة".
وبيّن المهدوي لـ"اندبندنت عربية" أنه "بالتالي أصبح من الضروري إنهاء حال الانقسام في ليبيا ودعم المسار الذي تقوده البعثة"، مشيراً إلى أن "الوفد البريطاني قام بزيارة إلى شرق ليبيا والتقى القائد العام للقوات المسلحة المشير خليفة حفتر، مما يؤكد أن بريطانيا لا تريد أن تحسب على طرف دون الآخر".
في المقابل، أبرز أن "البريطانيين حريصون على تقليص الدور الروسي في أفريقيا".
وحول ما إذا كانت لدى بريطانيا أوراق ضغط على الفرقاء في ليبيا، استبعد المهدوي ذلك، قائلاً "لا أعتقد بأن هناك أية أوراق لدى بريطانيا للضغط على السلطات في المنطقة أو الفرقاء الليبيين، وإنما هناك مصالح مشتركة تسعى بريطانيا إلى الحصول عليها في المستقبل".
ووسط احتدام التنافس على المواقع في أفريقيا، من غير الواضح إذا ما كانت بريطانيا ستستعيد نفوذها، لا سيما مع انهيار الحضور الفرنسي في القارة السمراء.