ملخص
ارتباط النساء بالنوافذ يبدو مثل متلازمة تطاردهن دوماً، فمن الرغبة في التلصص من بعد، إلى قصص العشاق وعالم الجريمة، وصولاً إلى اعتبار الشرفات سبباً للانحدار الأخلاقي وفق ما تراه حكومة "طالبان" بأفغانستان، يمكننا متابعة هذه العناصر التي رسمت علاقة استثنائية بين المرأة وهذه البقعة التي تجلب النور والهواء للبنايات
تبدو النافذة رفيقة أساسية للعشاق والمتلصصين واللصوص أيضاً، إنها متنفس الهواء وممر الضوء الذي يسمح بالخصوصية، هذه الميزات تجعلها حاضنة مثالية للنساء في فترات طويلة من التاريخ القديم، إذ كانت تعد بوابتهن للاطلاع على ما يجري في المحيط، وتضمن لهن السلامة والاختفاء عن الأنظار. وذلك حينما لم يكن مسموحاً لهن بالخروج إلى الشارع إلا في أضيق الحدود، فوجدن في هذا الاختراع الذي يعود إلى المصريين القدماء حلاً مثالياً لمتابعة الحياة من بعد من دون التورط في المشكلات أو التعرض للمضايقات، فالتصاقهن بالنافذة الصغيرة والنظر منها سواء عبر الزجاج أو مباشرة ضمن لهن التواصل والمعرفة بأقل الخسائر، ومن هنا ارتبطت النوافذ بالمرأة وسيلة تواصل متفق عليها، وربما كانت الوحيدة لهن في بعض الأوقات.
لكن، منذ قرون أيضاً بدأت النساء في نيل حقوقهن الاجتماعية والتعليمية تباعاً، وتساوين في الوظائف والفرص بالرجال بموجب القانون، لذا يعتقد البعض أن ارتباطهن بالشرفات والنوافذ بات أمراً كلاسيكياً ومن الماضي السحيق، لتأتي حكومة "طالبان" التي عادت إلى حكم أفغانستان مجدداً في 2021، لتعيد لهذه المتلازمة قوتها، فبعد منع الفتيات من استكمال مراحل التعليم الثانوية والجامعية وتحريم صوتهن في الشارع أو سفرهن من دون محرم، صدر قرار جديد، أخيراً، لتحجيم بناء النوافذ بسبب النساء.
بلا نوافذ
ووفقاً لما نشره متحدث حكومة "طالبان"، فإن المباني الجديدة يجب ألا تحوي نوافذ تطل على أماكن جلوس النساء، وكأن النساء سجينات يتحركن في مساحة محدودة للغاية خاصة بهن، ولذا فمن السهل رصد المنافذ التي تطل عليهن، ووأدها قبل البناء.
فبعد أن تخلصت النساء من القيود المجتمعية التي ربطتهن بالمهمة الوظيفية للشرفات، أعادت "طالبان" تلك الضوابط أكثر تضييقاً، لكن الحقيقة أن العلاقة بين النساء والنوافذ ملتبسة دوماً، فهي ليست فقط وسيلة للتحايل على ما فرض عليهن قسراً، لكنها أيضاً كانت منصة لعرضهن كبضائع في بقاع أخرى من العالم. فالتشبث بمظاهر العفة من طريق منع النساء من التجوال بمساحات تحيط بها النوافذ، يقابله قصة أخرى تربط فئة من النساء بالشباك، لكن كبضاعة واضحة للجنس، إذ إن النوافذ الحمراء في شارع دي فالن بالعاصمة الهولندية أمستردام ارتبطت منذ القرن الـ14 الميلادي تقريباً، بعمل البغاء، ولا يزال هذا التقليد معمولاً به حتى اليوم رغم مطالبات منظمات حقوق الإنسان بتوقف دعم الحكومات مثل هذه الأعمال التي تعد متاجرة بالبشر، معتبرين أن الغطاء القانوني لا يحمي الفتيات، إنما يحمي من يديرون أعمالهم.
وكانت الشبكة الدولية للحقوق والتنمية قد طالبت مراراً المجلس الدولي لمنظمة العفو الدولية بعدم الاعتراف بممارسة البغاء كحق من حقوق الإنسان بل ينبغي مقاومته، ورغم ذلك فلا يزال يجذب هذا الشارع الذي يتكون من 300 منزل تقريباً تقدم الجنس مقابل المال سياحاً كثراً، إذ يتحول إلى شعلة من اللون الأحمر يومياً بدءاً من الـ11 مساء في هولندا، وتبذل الشرطة مجهوداً كبيراً لمحاولة الحفاظ على الأمن ومنع التجاوزات إلا أن سمعة المكان تجعل غالبية رواده مؤهلين لارتكاب أفعال تزعج الشرطة المحلية، نظراً إلى ارتباطه أيضاً بتجارة أنواع مختلفة من المخدرات.
وفي حين تبدو النوافذ الحمراء المشرعة والنصف مشرعة متاحة تماماً مقابل المبلغ المالي المتفق عليه، فهناك أيضاً قوانين ينبغي الالتزام بها، وبينها عدم السماح بالتصوير نهائياً، أو حتى إظهار الهاتف تجنباً لمشاجرات مع عاملات الجنس اللاتي لا ينبغي أن تقل أعمارهن عن الـ21 سنة وفقاً لما أقرته القوانين في البلاد قبل نحو ربع قرن، واللافت أن هناك نوافذ شبيهة في بلدان أخرى مثل تايلاند واليابان وبلجيكا أيضاً.
أسطورة نافذة جوليت
وبين الإغراق في المصادرة على الحركة والمتاجرة بالجسد، هناك أطياف أخرى ترسم علاقة النساء بالنوافذ، بعضها رومانسي وآخر كلاسيكي وتقليدي، وهناك أيضاً ما هو متعلق بالجريمة والأسطورة والخيال. وربما تكون حكاية روميو وجوليت واحدة من القصص التي كان للنافذة بها دور معقد، لا يزال أثره مستمراً حتى اليوم، ومترجماً في صورة وفود سياحية تؤمن بأن هناك أصلاً لما يتردد، حول هذه الشرفة التي تقع في مدينة فيرونا الإيطالية، إذ تستقبل آلاف السياح الذين يتركون أمنياتهم ورسائلهم عندها آملين أن ينصلح حالهم في الحب، وأن يكونوا أكثر حظاً من بطلي المسرحية الشكسبيرية التي يقال إن الأديب البريطاني كتبها في القرن الـ16، واستلهمها من أحداث وقعت في القرن الـ13.
ورغم أن المسرحية الأصلية لم يأتِ فيها ذكر لشرفة جوليت بهذه الصورة، فإن قوة الحكي الشعبي جعلت للنافذة دوراً رئيساً فيها، إذ كان يقف روميو أسفلها، ويتنصت إلى حديث حبيبته، محاولاً التواصل معها من طريق هذه الشرفة التي اكتسبت سمعة أسطورية، في قصة الحب التراجيدية التي امتلأت بالصراعات على أكثر من مستوى، وانتهت بصورة مأسوية.
ورغم الشك الكبير في ما يحيط بهذه الشرفة من حكايات ومدى واقعيتها، فإن تشكيل الموقف الجمعي حولها نابع من تكرار الكتب والسينما والإعلام بصورة عامة لسرديتها. ووفقاً لتصريحات سابقة أدلى بها الباحث المهتم بالسياحة مارتين لوهمان لوكالة الأنباء الألمانية، فإنه رغم أن الآراء التاريخية حول الشرفة تميل إلى أن ربطها بالقصة الرومانسية أمر ملفق على الأرجح، فإن التراث القصصي المستمر عبر الأجيال رسخ الأسطورة في الأذهان. مضيفاً أنه لولا القصة الرومانسية العظيمة لظلت الشرفة الموجودة في فيرونا شرفة عادية تماماً ملحقة بمنزل قديم وصغير، إذ استمدت خلودها من شغف الناس بأحداث الرواية التي ربطت بها.
نساء يتلمسن النور ورجال متلصصون
الصورة الشديدة النمطية التي ربطت النساء بالنوافذ وحصرتهن في دائرة محدودة، لتتحول إلى رمز للعزلة والوحدة والحزن والرغبة في التأمل، ورغم أنها متعلقة بعصور سحيقة كان يطلب فيها من النساء البقاء بمنازلهن خوفاً عليهن من الأخطار في أزمنة لم تكن فيها القوانين المدنية قد تطورت بعد، فإنها مع ذلك بقيت صامدة في الأذهان، فالمنتظرات خلف النوافذ عادة يقابلهن رجال متلصصون، إذ لعبت النافذة دوراً حيوياً في التواصل بالإشارة بين الجنسين، سواء سلباً بصفعها في وجه من يطلب الود من الشباك، أو بمواربتها والتخفي وراء زجاجها وإعطاء إشارات غير مباشرة أو بمنح رسائل الغرام عبر الابتسامات الراضية.
هذه اللقطات التقليدية جعلتها ملهمة للشعراء والأدباء والرسامين، الذين استقوا لوحاتهم من مشاهد الحياة. وربما تعد لوحة "فتاة عند النافذة" التي رسمها الفنان الإسباني سلفادور دالي منتصف العشرينيات من القرن الماضي، من أبرز الأعمال التشكيلية في هذا الصدد، إذ تصور شقيقته آنا ماريا من الخلف وهي تتابع منظراً طبيعياً خلاباً لخليج مائي أمامها، حيث توحي اللوحة بالهدوء وتعطي الأولوية لتفاصيل الطبيعة الصامتة التي تتداخل بألوانها وانسيابيتها مع تكوين الفتاة وملابسها، من دون الاهتمام بالتركيز على ملامح وجهها، بل وضعت وكأنها مكون يتماهى مع عناصر الطبيعة حولها.
ومن إسبانيا كذلك، لكن هذه المرة في القرن الـ17، جاءت لوحة "امرأتان عند النافذة" لبارتولومي موريلو، إذ ظهرت امرأة ومعها فتاة يتابعان شيئاً ما باهتمام عبر النافذة باعتبارها وسيلتهما مع العالم الخارجي. بينما يرتديان بملابس المنزل، وربما كانتا مشغولتين بأعمال المطبخ وجاءتا على عجل للفوز برؤية حدث قد يكون مرحاً. تفاصيل اللوحة بألوانها توحي بالسلام وربما البهجة والبساطة في نظراتهما ناحية ما يجري.
تطورت وظيفة النافذة على مدى أجيال وعصور ووفقاً لطبيعة كل مجتمع. إذ لا تزال تستخدمها بعض النساء في المناطق الشعبية حتى اليوم في مصر لجلب الحاجات البسيطة من المحال المجاورة، فيمكنهن باستخدام وعاء مربوط بحبل أن يحصلن على بقالتهن من دون حاجة إلى أن يصعد بها أحدهم، فقد كانت النافذة، وشكلها المتطور "البلكونة"، وسيلة منجزة لقضاء المهام اليومية بالنسبة إليهن.
وظهرت أهمية النافذة أيضاً في الأغنيات العربية من طريق أعمال كثيرة، وبينها "شباك حبيبي" لعبدالعزيز محمود، و"من الشباك لأرميلك حالي" وهي من الفلكلور السوري، إضافة إلى أعمال أخرى أبرزت دور الشباك في قصص الحب بين أبناء وبنات الجيران، وبينها "من حبي فيك يا جاري" لحورية حسن، و"ابن الجيران" لنانسي عجرم، إضافة إلى أغنية "الشباك" لأسماء لمنور التي سردت الولع واللهفة للفتاة التي تنتظر رؤية حبيبها الغائب بينما هي تبكي، ولمحمد منير أغنية شهيرة هي "شبابيك" التي تعد من أعماله الأيقونية التي منحت الشبابيك أبعاداً غير مطروقة في الغناء العربي.
دراما النوافذ تبحث عن النساء أيضاً
في حين استغلت الدراما التلفزيونية والسينمائية النوافذ وارتباطها بالنساء لصنع أكثر من قصة مشوقة، استلهم بعضها من حكايات واقعية كما استند عدد منها إلى أعمال أدبية ذائعة الصيت، وعربياً تعد قصة الحب الاستثنائية بين بطلي "حب في الزنزانة" التي نشأت عبر نوافذ وقضبان السجن واحدة من القصص التي أظهرت قيمة ما يمكن أن تقدمه النوافذ لامرأة مسجونة في عنبر السيدات، إذ منحتها حياة وحكاية لم تكن تحلم بها، والفيلم قامت ببطولته سعاد حسني مع عادل إمام عام 1983.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
عالمياً أيضاً هناك "المرأة في النافذة" الفيلم المأخوذ عن رواية بالاسم نفسه، وقامت ببطولته إيمي آدمز عام 2021، وأخرجه جو رايت، إذ تدور قصته في جو من التشويق النفسي والغموض بعدما تتحول نافذة منزل طبيبة الأطفال آنا فوكس في نيويورك إلى ما يشبه شاشة عرض تبدو مستندة إلى هلاوسها وأفكارها، إذ تشاهد آنا منها أحداثاً تبدو مرعبة ومنها قتل جارتها، وتقابل بالتشكيك الشديد ممن حولها حيث تعاني الطبيبة من رهاب الأماكن العامة، وتتهم بأنها تنسج سيناريوهات خيالية تراها عبر نافذتها.
وفي عالم من الإثارة النفسية أيضاً، جسدت كريستين بيل دور فنانة تشكيلية فقدت ابنتها وانهار زوجها وتهشمت حياتها المهنية، في المسلسل المحدود "المرأة في المنزل المقابل لنافذة الفتاة" 2022، إذ توصم بأنها مضطربة وتعاني ضلالات باعتبارها مدمنة كحول ومهدئات، حتى عندما تقع جريمة قتل غامضة لفتاة في النافذة المقابلة لها لا تؤخذ شهادتها على محمل الجد.
كانت النوافذ أيضاً طريقة مفضلة من ضمن طرق جو غولدبيرغ العديدة لمتابعة ضحاياه من النساء، حيث كان يختار عادة منزلاً مقابلاً لهن ليتلصص عليهن من النوافذ أيضاً باستعمال عدسات للتكبير والتقريب، وذلك في مسلسل الجريمة والإثارة "You" الذي يتناول سيرة قاتل متسلسل للنساء اللاتي يقع في غرامهن، وهو من بطولة بن بادغلي وقد عرضت منه أربعة مواسم حتى الآن، لتتحول الشبابيك معه إلى لعنة لن تترك صاحبتها التي تتدلل خلفها إلا جثة هامدة.