ملخص
ربما يعكس إقصاء ترمب لبراين هوك المتشدد ضد إيران التحول الذي يريد إحداثه الرئيس في سياسته تجاهها، ففي اليوم نفسه عُيّن مايكل ديمينو ليشغل منصب نائب مساعد وزير الدفاع لشؤون الشرق الأوسط، وهو معروف بتصريحاته المضادة لإشعال مواجهة مباشرة مع طهران والداعية لتقليص الوجود العسكري الأميركي في المنطقة.
لم يكن الرئيس الأميركي دونالد ترمب في ولايته الأولى متحمساً لمواجهة عسكرية مباشرة مع إيران وكثيراً ما انتقد بعض الصقور الجمهوريين لأنهم حاولوا دفعه نحو ذلك الطريق. وباستثناء التوجيه بقتل أهم جنرالات إيران قاسم سليماني، قاوم ترمب بعض المسؤولين في إدارته الأولى الذين أرادوا تشكيل موقف صارم يصل إلى حد تغيير النظام وإعلان الحرب عليه، واكتفى الرئيس بتشديد العقوبات.
ومنذ ترشحه للرئاسة مجدداً، بدا ترمب منفتحاً على فكرة الحوار مع إيران، كما أشار في سبتمبر (أيلول) 2024، ولم يستبعد عقد اتفاق نووي معها. وللمضي في سياسته التي تنبذ التدخل في الشرق الأوسط، استبعد ترمب بعض الأسماء التي قد تشتت أولوياته وتهز استقرار إدارته الجديدة بعدما أصبح أكثر خبرة وفراسة بساسة واشنطن، كما عبّر هو بنفسه خلال لقائه جو روغان في أكتوبر (تشرين الأول) 2024، قائلاً إن "أكبر أخطائه" كان تعيين أشخاص كان يجدر به تجنبهم، مبرراً ذلك بأنه كان جديداً على العاصمة ودهاليزها السياسية.
طرد درامي ومفاجئ
سارع الرئيس الأميركي بعد فوزه الانتخابي إلى تأكيد عدم ضم نيكي هايلي ومايك بومبيو المتشددين ضد إيران لإدارته، ولحقهما رفيقهما في الإدارة الأولى براين هوك الذي شغل منصب المبعوث الخاص إلى إيران ويعتبر عراب سياسة "الضغط الأقصى" عليها.
وإقصاء هايلي وبومبيو اللذين نافسا ترمب في الانتخابات التمهيدية لم يكُن مفاجئاً بقدر الإبعاد الدراماتيكي لهوك الذي اختير في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 ليقود الفريق الانتقالي في وزارة الخارجية، لكنه لم يستمر طويلاً في هذه المهمة، وفق تقارير أشارت إلى أن فريق ترمب أزاحه منذ فترة بعد استيائه من تصريحاته المتعجلة حول احتمال إعادة سياسة "الضغط الأقصى" على إيران.
وتأكد الخلاف بين هوك والفريق الرئاسي أول من أمس الثلاثاء بعدما كتب ترمب أن مكتبه يعمل على تحديد وفصل أكثر من ألف شخص عيّنتهم الإدارة السابقة ولا يتوافقون مع رؤيته، ووجّه الرئيس كلامه إلى الأشخاص الأربعة ومن بينهم هوك، وكتب "أنتم مطرودون"، ومن بين هؤلاء رئيس الأركان السابق مارك ميلي الذي جاء قرار عزله من مجلس استشاري متوقعاً بسبب عدائه المعلن لترمب.
إلا أن فصل ترمب لهوك من مجلس أمناء "مركز ويلسون" البحثي الذي يعيّن الرئيس الأميركي أعضاءه كان مفاجئاً، ويعكس ربما التحول الذي يريد إحداثه ترمب في سياسته تجاه إيران، ففي اليوم نفسه عُيّن مايكل ديمينو ليشغل منصب نائب مساعد وزير الدفاع لشؤون الشرق الأوسط، وهو مسؤول استخباراتي سابق معروف بتصريحاته المضادة لإشعال مواجهة مباشرة مع طهران.
أصوات من التيار الانعزالي
عمل ديمينو الذي سيشرف على سياسة الشرق الأوسط في "البنتاغون" في الاستخبارات الأميركية ووزارة الدفاع في إدارة ترمب الأولى. وقبل تعيينه هذا الأسبوع في منصبه الجديد، كان باحثاً في مركز أبحاث "أولويات الدفاع" وهو مؤسسة ممولة من عائلة كوش التجارية وتدعو إلى خفض التدخلات الأميركية الخارجية، وأسسها حلفاء السيناتور الجمهوري راند بول الذي يدعو إلى تقليص الوجود الأميركي في الشرق الأوسط.
وتوضح تصريحات ديمينو ميله إلى المعسكر الانعزالي المتشكل داخل إدارة ترمب الجديدة، إذ قال في ندوة أقامها مركز "أولويات الدفاع" في فبراير (شباط) 2024 إن الشرق الأوسط لا يؤثر في المصالح الأميركية، والتهديدات التي يشكلها "يمكن وصفها على أفضل وجه بأنها ضئيلة أو منعدمة".
ويدعو ديمينو إلى إزالة المواقع العسكرية في العراق وسوريا وتوظيف الدبلوماسية والاعتماد على الأطراف المحلية والمراقبة الاستخباراتية والضربات بعيدة المدى لمنع التهديدات الإرهابية، وانتقد مراراً من يقول إن إيران ستستولي على الشرق الأوسط، إذا لم يكُن هناك وجود أميركي قوي. وفي ورقة كتبها مع آخرين في نوفمبر عام 2023، أفاد بأن "إيران تمتلك قدرات محدودة على استخدام قواتها العسكرية التقليدية خارج حدودها."
وبعد الهجوم الصاروخي الباليستي الثاني الذي شنته إيران على إسرائيل العام الماضي، اعتبر ديمينو الهجوم رداً "معتدلاً إلى حد ما" على العمليات الإسرائيلية ضد طهران والمجموعات الإرهابية التابعة لها، وأشار إلى أن إيران في تراجع، وربما يسلك الإيرانيون هذا النهج أملاً في قدوم إدارة ديمقراطية تكون أكثر استعداداً للعودة لاتفاق مشابه للاتفاق النووي الذي أبرمته إدارة بارك أوباما.
وبدا المسؤول العسكري الجديد رافضاً في أكثر من مناسبة شن هجمات على إيران، وعارض بشدة مهاجمة برنامجها النووي، لافتاً إلى أن أي عمل إسرائيلي قد ينهي حال "ضبط النفس" لدى إيران، وأشاد بالرئيس السابق جو بايدن لضغطه على إسرائيل لعدم استهداف مثل هذه المواقع في أبريل (نيسان) 2024.
وقال إنه لا يعتقد بأن الهجوم الصاروخي الإيراني الأول ضد إسرائيل في أبريل كان مصمماً لإحداث ضرر حقيقي، بخلاف معظم خبراء السياسة الخارجية الأميركيين، وأشاد بإسرائيل لضربتها الانتقامية المخففة التي نفذت تحت ضغط من إدارة بايدن. وطالب ديمينو بسحب القوات الأميركية من مناطق مثل شمال شرقي سوريا، على النقيض من دعوات بعض المحافظين إلى ضرب إيران أو وكلائها رداً على الهجمات على القوات الأميركية في المنطقة.
يطالب بوقف الضربات على الحوثيين
وفي مقالة رأي في يناير (كانون الثاني) 2024 في مجلة Responsible Statecraft التي يديرها "معهد كوينسي"، رأى ديمينو أن الضربات الأميركية المستمرة ضد الحوثيين في اليمن "عديمة الفائدة"، وكتب "يعرف المحللون العسكريون الشرعيون والخبراء الإقليميون أن هذه الضربات محكوم عليها بالفشل منذ البداية".
وطالب بوقف العمليات العسكرية في البحر الأحمر، قائلاً "ينبغي لواشنطن أن تبدأ بالاعتراف بأن مصالحها الاقتصادية والأمنية الوطنية لا تتأثر إلى حد كبير بالمرور عبر البحر الأحمر، وأن عليها ترك الصين للتعامل مع المشكلة بالضغط على إيران والحوثيين".
وأثار تعيين ديمينو قلق المحافظين في واشنطن ومخاوف الإسرائيليين، ونقل موقع Jewish Insider عن مسؤول سابق في إدارة ترمب عمل في فريق الانتقال الرئاسي قوله إن أفكار ديمينو "أسوأ من نهج بايدن، ففي الأقل أراد بايدن محاربة الحوثيين قليلاً".
وحث المسؤول الجديد على تعزيز شحنات المساعدات إلى غزة من خلال "زيادة الضغط الدبلوماسي" على إسرائيل وانتقد السياسات التي قوضت السلطة الفلسطينية، وأكد سابقاً أن على الولايات المتحدة استخدام الدبلوماسية لإنهاء حرب غزة، مشيراً إلى أن أي محاولة لإنهاء حكم "حماس" لن تؤدي إلا إلى صعود "حماس 2.0".
وقال ديمينو في ندوة فبراير إن "من المبالغة" الاعتقاد بأن الضربات الأميركية يمكن أن تؤدي إلى تدهور قدرات الحوثيين أو حتى ردعهم أو تغيير إستراتيجيتهم، واتفق مع أحد المشاركين على أن الولايات المتحدة "مدمنة" على الضربات الجوية ولا تستطيع استعادة الردع.
وجه آخر يرى الصين التهديد الأكبر
اختار فريق ترمب إلبريدج كولبي ليتولى منصب وكيل وزارة الدفاع لشؤون السياسات، وقد أشرف في "البنتاغون" سابقاً على مهمات الإستراتيجية وتنمية القوات، وتولى مسؤولية إعادة توجيه الموارد الدفاعية الأميركية من الشرق الأوسط إلى آسيا والمحيط الهادئ للتركيز على الصين وصراع محتمل معها على تايوان.
وتأخذ هذه الرؤية في الاعتبار الاستثمار الصيني المتزايد في تطوير جيشها، مقابل ضعف القطاع الصناعي الدفاعي الأميركي الذي ينتج السفن الحربية ببطء وكلفة باهظة، مما ينذر بهزيمة الولايات المتحدة في حال دخلت في مواجهة مع الصين بسبب تايوان. وهذه العوامل، بحسب كولبي، تحتم إعادة تموضع الموارد الدفاعية الموجودة في أوروبا والشرق الأوسط.
إلا أن من المحتمل أن يواجه كولبي ممانعة داخلية لتقليل الوجود العسكري في الشرق الأوسط، كما حدث خلال إدارة ترمب الأولى، إذ واجه صعوبة في تمرير التوجه الجديد على كل من القيادة المركزية وهيئة الأركان المشتركة، في حين وجد دعماً من القوات الجوية والبحرية.
المؤرخ نيال فيرغسون يصف كولبي بأنه "الأكثر حكمة وتأنياً بين الجيل الجديد من الإستراتيجيين المحافظين"، ويدعمه المحافظون من معتنقي الواقعية السياسية لتشكيكه في جدوى التدخلات العسكرية، في حين يراه بعض اليمينيين متساهلاً للغاية مع إيران.
وعلى كل حال، لا يمكن الجزم بأن هذه التعيينات كافية لتقريب إيران من إدارة ترمب التي تتشكل أيضاً من صقور متشددين ضدها مثل وزير الخارجية ماركو روبيو ومستشار الأمن القومي مايكل والتز. وعلى رغم انفتاح ترمب تجاه إبرام اتفاق مع إيران، فإن إدارته بعثت برسالة واضحة من أسبوعها الأول أنها لن تتساهل مع الجماعات الموالية لطهران في المنطقة، مثل الحوثيين في اليمن الذين أعادت تصنيفهم "منظمة إرهابية أجنبية".