ملخص
الإدارة الجديدة في دمشق أمام اختبار صعب بسبب تفشي الفساد وانهيار الليرة إلى مستويات أدنى أمام الدولار إضافة إلى نفور القطاع الخاص وسط غياب الحوافز.
خلفت أعوام الحرب في سوريا أوضاعاً اقتصادية ومالية معقدة، فمع ملايين الأطنان من الركام المتناثر على أوجه المدن، واضطراب الإنتاج وتفكيك الصناعة وهرب القطاع الخاص إلا من خواص النظام السابق، وتفشي الفساد في الإدارة وانهيار الليرة إلى مستويات أدنى أمام الدولار تبقى الإدارة الجديدة في دمشق أمام اختبار صعب لا يمكن اجتيازه من دون تضافر جهود المجتمع الدولي والإقليم في دعم النهوض بسوريا من جديد.
وبلغ حجم الاقتصاد السوري 67.5 مليار دولار عام 2011، واحتلت البلاد المرتبة 68 بين 196 دولة في تصنيف الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وهو ما يضاهي مرتبة باراغواي وسلوفينيا، وبحلول العام الماضي، هبط الاقتصاد إلى المرتبة 129، بعدما انكمش بنسبة 85 في المئة إلى 9 مليارات دولار فحسب، وفقاً لتقديرات البنك الدولي، وهذا يضع البلاد على قدم المساواة مع دول مثل تشاد والأراضي الفلسطينية.
تداعيات تدهور الليرة السورية
وبحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، نزح 4.82 مليون شخص، أي أكثر من خمس سكان البلاد، فيما لا يزال هناك 7 ملايين سوري إضافي، أي أكثر من 30 في المئة من السكان، نازحين داخلياً حتى ديسمبر (كانون الأول) 2024، وأدى الصراع إلى تدمير البنية التحتية للبلاد، مما تسبب في أضرار دائمة في أنظمة الكهرباء والنقل والصحة، وشهدت عديد من المدن، بما في ذلك حلب والرقة وحمص، دماراً واسع النطاق.
وبحسب بيانات البنك الدولي، تدهورت قيمة الليرة السورية بصورة كبيرة، من نحو 45 و54 ليرة للدولار إلى أكثر من 13 ألف ليرة في 2023، مما أدى إلى ارتفاع التضخم إلى 140 في المئة مقابل 4.8 في المئة في 2011، ودفع 96 في المئة من السوريين تحت خط الفقر من نحو 47.7 في المئة فقط عام 2009.
لكن ثمة روشتة اقتصادية أو دستور اقتصادي يقضي بلملمة شتات الاقتصاد المنهك على رغم أن المهمة ستكون أبطأ من تلك السرعة التي سقط بها النظام السابق، وهو ما قد يستغرق أعواماً من العمل الجاد، بحسب محللين اقتصاديين تحدثت إليهم "اندبندنت عربية"، اتفقوا على امتلاك سوريا موقعاً جغرافياً متميزاً ومقدرات طبيعية وبشرية هائلة إن أحسن استغلالها في الفترة المقبلة.
تفاصيل الحالة الحرجة التي يعايشها الاقتصاد السوري
قال المحلل الاقتصادي السوري، عثمان فاروسي، إن الوضع الاقتصادي في بلاده بعد أعوام من حكم نظام الأسد في حال حرجة، من جهة تفشى الفساد وسوء الإدارة، مما أدى إلى انهيار الصناعة وتدهور الاقتصاد، ولإعادة إحياء الاقتصاد السوري وإعادة بناء الصناعة، يتطلب الأمر خطة شاملة تركز على استعادة ثقة الشعب والمستثمرين، وإرساء الأمن والاستقرار، وإطلاق الطاقات الإنتاجية.
وأشار فاروسي إلى أنه يتعين في البداية إصلاح القطاع العام ومكافحة الفساد من خلال تطبيق إجراءات صارمة لمكافحة الفساد، وتعزيز الشفافية والمساءلة، مع إعادة هيكلة المؤسسات الحكومية وتحسين كفاءة المؤسسات الحكومية، وتبسيط الإجراءات، وتقليل البيروقراطية، وتعزيز سيادة القانون عبر حماية حقوق الملكية، وتوفير بيئة قانونية مستقرة لجذب الاستثمارات.
وتأتي إعادة إعمار البنية التحتية، ضمن خطة مقترحة تشمل قطاع الطاقة عبر إعادة تأهيل محطات توليد الكهرباء، وتوسيع شبكات التوزيع، وقطاع النقل من خلال ترميم الطرق والجسور والموانئ والمطارات، والارتقاء بقطاع الاتصالات عبر تطوير شبكات الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، وأيضاً تحسين خدمات المياه والصرف الصحي، كما يقول.
كيف يمكن تحفيز القطاع الخاص في سوريا؟
دعا فاروسي إلى دعم وتحفيز القطاع الخاص، عبر تسهيل الاستثمار وتبسيط إجراءاته، وتقديم حوافز للمستثمرين، ودعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة من خلال توفير التمويل والتدريب والاستشارات، وتشجيع الابتكار وإنشاء حاضنات أعمال ودعم البحث والتطوير، وتقليص البيروقراطية وتسهيل إجراءات تأسيس الشركات والحصول على التراخيص، وتوفير حوافز ضريبية وجمركية لجذب المستثمرين، خصوصاً في المناطق الصناعية المتضررة.
لكن ثمة أولويات يتعين خلال المرحلة الراهنة العمل عليها كما يقول فاروسي، أبرزها العمل على استقرار الأوضاع الأمنية من خلال تحقيق وقف إطلاق النار الدائم، وتسوية النزاعات، وإعادة تأهيل الخدمات الأساسية، وتوفير المساعدات الإنسانية لتلبية الحاجات الأساسية للمواطنين، بالتوازي مع محاسبة جميع الفاسدين وتقديمهم للعدالة، مع إرساء مبدأ الشفافية في جميع المعاملات الحكومية والعقود الاستثمارية، والعمل بجدية على استرداد الأموال المنهوبة من الشعب السوري التي هربت إلى الخارج، وذلك بالتعاون مع الجهات الدولية المتخصصة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من بين ما دعا إليه المتخصص الاقتصادي السوري، إعادة الأراضي المصادرة من المواطنين بصورة غير عادلة خلال فترة حكم الأسد، وذلك خلال مدة أقصاها ستة أشهر، مع التعويض عن أي أضرار لحقت بأصحابها، وتعزيز استقلالية القضاء لحماية حقوق المستثمرين والمواطنين.
مساهمات الاقتصاد الزراعي السوري في الخروج من المأزق
ويعول فاروسي كثيراً على قطاع الزراعة، ويقول إنه يتعين دعم زراعة المحاصيل الاستراتيجية والتركيز على دعم زراعة القمح والشعير والذرة، لتحقيق الاكتفاء الذاتي من هذه المحاصيل الأساس، مع التركيز على تحسين الإنتاجية وتوفير البذار المحسنة والأسمدة بأسعار مدعومة، مع تشجيع زراعة المحاصيل التي تتمتع بميزة نسبية في كل منطقة جغرافية، مثل القطن في الحسكة والفستق في حلب والحمضيات في اللاذقية، وذلك بهدف زيادة الصادرات وتوفير العملات الأجنبية.
ويعتقد فاروسي أن خمسة أعوام كافية لتحقيق كثير من المنجزات على صعيد إعادة إحياء اقتصاد بلاده عبر أهداف قابلة للقياس، مشيراً إلى وجود عديد من الآليات التمويلية لتنفيذ تلك الخطط، في مقدمها المساعدات الدولية الحكومية والخاصة، والاستثمار الأجنبي المباشر، والخصخصة عبر بيع أصول الدولة غير الاستراتيجية، مع إصدار السندات السيادية.
وفي تقرير نشر في يونيو (حزيران) 2024، قال المركز السوري لبحوث السياسات إن البلاد شهدت العام الماضي تضخماً مفرطاً للغاية ومتسارعاً، إذ تضاعف مؤشر أسعار المستهلك مقارنة بالعام السابق، وأن أكثر من نصف السوريين يعيشون في فقر مدقع، وغير قادرين على تأمين حاجاتهم الغذائية الأساسية.
إرث العقود الستة من الفساد في سوريا
من جانبه يقول الاقتصادي اللبناني حبيب البدوي إن سوريا بالأساس بلد غني على رغم ما مرت من الإنهاك الذي سبق أعوام الثورة منذ 2011 إلى فترة الستينيات من القرن الماضي، إذ كان الفساد متفشياً ومتغلغلاً في المجتمع على نحو عميق، وهو ما يجعل من التعامل حالياً مع إرث العقود الستة أمراً ليس بالهين.
ويشير البدوي لـ"اندبندنت عربية" إلى تمتع سوريا بموقع استراتيجي، وموارد طبيعية مهمة في مقدمها النفط، إذ كانت تنتج قبل عام 2011 نحو 400 ألف برميل يومياً، ويلفت أيضاً إلى امتلاكها قطاعاً سياحياً نشطاً، وزراعة متطورة خصوصاً في السهول، علاوة على امتلاك البلاد صناعات مهمة في مقدمها صناعة المنسوجات، ناهيك بالموارد المائية والثروة السمكية والغاز قبالة الساحل السوري في شرق المتوسط، ضمن حوض يضم اليونان وتركيا ولبنان وإسرائيل ومصر وليبيا.
ويرى البدوي أن كل هذه المقومات داعمة لنهوض الاقتصاد السوري من جديد لولا أن الإدارة الجديدة تواجه فساداً مستشرياً، ويتعين مواجهة تركة الرشوة المتجذرة في عديد من الإدارات السورية الحكومية، وتساءل عما إذا كانت حقول النفط في الشمال الشرقي للبلاد ستظل خاضعة لسيطرة الأكراد، وما إذا كانت إسرائيل ستتخلى عن المناطق التي احتلتها في جبل الشيخ على حدود درعا وحوران، وتلك المناطق تحديداً معروفة بزراعة القمح، وهو ما يحرم البلاد من قدرات زراعية.
أهمية العائدات النفطية في إنعاش اقتصاد سوريا
يرى المدير المشارك لمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة أوكلاهوما، جوشوا لانديز، أن السيطرة على موارد النفط السوري أمر مهم للإدارة السورية الجديدة، على رغم أن ذلك لن يكون أمراً سهلاً، إذ كانت البلاد تنتج قبل الحرب قرابة 400 ألف برميل يومياً، بينما تنتج اليوم ما دون 90 ألف برميل يومياً، إثر الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية للصناعة النفطية، حتى صارت البلاد تستورد نفطاً أكثر مما تصدر.
ويشير جوشوا لانديز إلى أن العائدات النفطية كان تمثل في الماضي نحو نصف عائدات سوريا، وبالنظر إلى كونه مصدراً مهماً من مصادر التمويل، فسيتعين على حكومة دمشق الجديدة أن تعمل لإعادة السيطرة على الحقول النفطية في شمال البلاد.
وتضم محافظة دير الزور السورية نحو 40 في المئة من احتياطات النفط السورية وكثيراً من حقول الغاز، وتخضع هذه المحافظة حالياً لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من الولايات المتحدة.