ملخص
قدر تقرير أعدته هيئة البث الإسرائيلية، نقلاً عن مؤسسات أمنية، أن كلفة فرض حكم عسكري على قطاع غزة ستتجاوز 6.8 مليار دولار سنوياً.
فيما توصلت حركتا "فتح" و"حماس" الفلسطينيتان في ختام محادثات في القاهرة، إلى اتفاق مبدئي اقترحته مصر، لتشكيل لجنة لإدارة قطاع غزة ما بعد الحرب المتواصلة منذ أكثر من 13 شهراً، تستمر إسرائيل بسد آذانها عن كل ذلك، وتتجه للتغيير الدائم في الواقع على الأرض، خصوصاً بعد استبدال وزير الدفاع يوآف غالانت بخليفته يسرائيل كاتس، وفوز دونالد ترمب في الانتخابات الرئاسية الأميركية.
إسرائيل التي لا تزال ترفض أي مشاركة لـ"حماس" أو السلطة الفلسطينية في أي كيان يتولى إدارة قطاع غزة خلال فترة ما بعد الحرب، تريد غزة "منطقة منزوعة السلاح"، وتحت حكم مدني لإدارة شؤون سكان القطاع. وعلى رغم غياب أي قرار سياسي إسرائيلي حاسم في شأن ذلك، يواجه المسؤولون الإسرائيليون تحديات هائلة في كيفية التعامل مع تلبية حاجات أكثر من مليوني فلسطيني في القطاع من مساعدات إنسانية وكهرباء وصرف صحي بصورة تتماشى مع القوانين الدولية في ظل تعنت رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو على بقاء قواته في محوري "فيلادلفي" و"نتساريم"، ويخشى مراقبون أن يكون ذلك تمهيداً لـ"حكم عسكري" أو "احتلال" لغزة.
ومع ارتفاع صوت أجهزة الأمن الإسرائيلية الرافضة لفكرة فرض "الحكم العسكري" الإسرائيلي في القطاع لما له من عواقب وخيمة جداً، وأعباء إضافية على إسرائيل، يتجه نتنياهو لتعزيز سيطرته العسكرية على قطاع غزة وسط مؤشرات ملموسة إلى بدء تطبيق خطته من منطلق الرغبة في الحفاظ بأي ثمن على وحدة الائتلاف الحكومي وتنفيذ الخطط لمصلحة الاستيطان في غزة، بغض النظر عن كل الضغوط الخارجية، ورأي الدول العربية وبعض القوى الدولية التي تنادي بضرورة إيجاد حل سياسي دائم وشامل لقضية غزة والفلسطينيين، الذي يتعارض جملة وتفصيلاً مع طموحات وزراء في حكومة نتنياهو على رأسهم وزيرا الأمن القومي إيتمار بن غفير والمالية بتسلئيل سموتريتش، اللذان يطالبان بإعادة احتلال القطاع وإقامة مستوطنات فيه وتهجير الفلسطينيين منه، باعتباره قيمة عليا وجزءاً مما يعدونه أرض إسرائيل الكاملة بين البحر والنهر.
وكانت مسألة إقامة "حكم العسكري" في غزة أحد محاور الخلاف مع نتنياهو التي أطاحت غالانت، إذ عارض الأخير الحكم العسكري بصفته "بديلاً استراتيجياً أمنياً وعسكرياً سيئاً لأن من شأنه أن يجذب الجهد الأمني الرئيس خلال الأعوام المقبلة على حساب جبهات أخرى، وأن يكلل بالدم ومزيد من القتلى ناهيك بالثمن الاقتصادي".
وقدر تقرير أعدته هيئة البث الإسرائيلية، نقلاً عن مؤسسات أمنية، أن كلفة فرض حكم عسكري على قطاع غزة ستتجاوز 25 مليار شيكل (6.8 مليار دولار) سنوياً.
خطة سيئة
وفقاً لرئيس شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية السابق والرئيس الحالي لـ"معهد أبحاث الأمن القومي" في جامعة تل أبيب تمير هايمان، فإن الواقع الأمني الحالي في غزة يظهر أن الجيش الإسرائيلي لن يغادر القطاع في السنوات القريبة، معتبراً أن "الحكم العسكري من الناحية التكتيكية وهو خطة ناجعة، لكنه خطة سيئة جداً من الناحية السياسية والاستراتيجية، وكذلك ثمنها الهائل من حيث الموازنة ورصد قوى بشرية لتنفيذه".
وتشير التقديرات الإسرائيلية إلى أنه ستكون هناك حاجة إلى نحو 20 مليار شيكل (5.4 مليار دولار) لتمويل القوات العسكرية في قطاع غزة، بما في ذلك إبقاء أربع فرق من الجيش، وأيام خدمة لقوات احتياطية ونفقات أخرى، ويضاف إلى هذا المبلغ كلفة مئات ملايين الشواكل سنوياً لمصلحة تشغيل آلية الإدارة المدنية، وتكلفة إضافية تراوح ما بين خمسة و10 مليارات شيكل (1.3 -2.7 مليار دولار) سنوياً مقابل الحد الأدنى من الخدمات المدنية للسكان الفلسطينيين في قطاع غزة.
وقالت هيئة البث الإسرائيلية، إن كلفة تشغيل مثل هذه الإدارة تتطلب 400 وظيفة جديدة للجيش الإسرائيلي. وأشارت إلى أن الموازنة التقديرية للفلسطينيين هي تشغيلية فحسب، من دون إعادة تأهيل قطاع غزة من بنية تحتية ومستشفيات ومدارس وطرق وغيرها.
وعلى رغم أحاديث في إسرائيل، من بينهم نتنياهو، عن عدم وجود نية لفرض حكم عسكري في غزة، يرى محللون ومعارضون إسرائيليون أن حرية العمل العسكري التي قد تؤدي إلى تآكل قدرات "حماس" العسكرية مع مرور الوقت، في ظل الامتناع عن اتخاذ قرار حول الجهة السلطوية التي ستدير الشؤون المدنية في قطاع غزة، سيقلل الأزمات السياسية وسيخفض التوتر داخل ائتلاف الحكومي الحالي.
في المقابل يتخوف قادة عسكريون من أن ذلك سيحدث تآكلاً عسكرياً لقوات الجيش بصورة دائمة وفي جميع المناطق، بما يشمل إصابات جسدية ونفسية، وتآكل قدرات جنود الاحتياط، وتدهور الطاعة وأخلاقيات القوات النظامية نتيجة الأعباء الهائلة، في حين يخشى آخرون من أن حرية العمل العسكري في قطاع غزة من دون وجود خطة فعلية قابلة للتنفيذ التي تعتزم إسرائيل إخراجها إلى حيز التنفيذ وتجنب اتخاذ قرار، من شأنه أن يؤدي إلى التضحية بالمناعة الاجتماعية في إسرائيل، وتشكيل خطر على الاقتصاد، وتقويض مكانة البلاد الدولية خصوصاً مع تزايد موت المخطوفين في الأسر لدى "حماس".
دموي ومكلف
في مؤتمر لمجلس المستوطنات الإسرائيلية بالضفة الغربية قبل أسبوع، تحدث سموتريتش عن أن التبعات الاقتصادية لاحتلال قطاع غزة "سيكلف بضع مئات الملايين فقط على الأكثر وليس 5 مليارات دولار كما يشاع". وبحسب ما ذكرته صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية فإن "نتنياهو يضع بقاءه السياسي فوق كل اعتبار آخر، ويريد استمرار المناورة سياسياً لكي يستمر بالحرب ويحتفظ بالحكومة ويمنع تعرضه للمساءلة القضائية بالفساد وبالفشل في السابع من أكتوبر".
وأكدت الصحيفة أن "غالانت تطرق قبل إقالته من رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو من منصب وزير الدفاع إلى الآثار المترتبة على إنشاء إدارة عسكرية ومدنية في غزة وأن تطبيقها سيكون دموياً ومكلفاً وسيستمر أعواماً، وأن الجيش سيحتاج في هذه الحال لقوات هائلة، وسيتكبد خسائر بشرية فادحة تضطره لمغادرة غزة بلا رجعة". وكشفت الصحيفة أن غالانت أشار إلى "اقتراح ملموس موجود الآن على مكتب نتنياهو، يتعلق بإدارة عسكرية موقتة كبديل لحماس".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعن الطريقة التي يفكر بها نتنياهو، قال المحلل السياسي بالقناة "12" الإسرائيلية عميت سيغال، إنه "بإقامة حكم عسكري لفترة تمتد ما بين أشهر وسنوات معدودة كمرحلة أولى ستتحول (حماس) من جيش إرهاب إلى منظمة عصابات، ومن منظمة عصابات إلى مجموعة خلايا معدودة، ومن ثم تدخل جهات عربية مدنية إلى القطاع كمرحلة ثانية"، في حين قدرت أجهزة الاستخبارات الأميركية التي اتفقت فيها مع أجهزة الأمن الإسرائيلية، أن "حماس لن تختفي على الأرجح من القطاع" وأن المطلوب هو إضعاف الحركة لدرجة لا تكون فيها قادرة على شن هجوم آخر.
وبحسب ما تحدث مسؤول أميركي لصحيفة "معاريف" الإسرائيلية فقد "تعلم الأميركيون بالطريقة الصعبة من خلال وقوعهم في الوحل الفيتنامي والأفغاني والعراقي، أنه في غياب التحرك الدبلوماسي فإن المعارك تميل إلى التحول إلى حرب استنزاف طويلة الأمد تكلف خسائر فادحة".
حرب استنزاف
وفقاً لعدد من القراءات والتحليلات التي نشرها كتاب ومحللون فلسطينيون، فإن الإدارة الأميركية لم تعد ترى فائدة من استمرار الحرب بالوتيرة الحالية، وتضغط على نتنياهو بالقبول بصفقة معقولة لتبادل الأسرى، قد تقود لهدوء يمهد الأجواء لترتيبات إقليمية. ويرى محلل الشؤون الأمنية والاستراتيجية محمد المصري أن حكم غزة عسكرياً أو احتلالها طويلاً غير ممكن.
وقال المصري، "حرب العصابات الموجودة في غزة تستنزف الجيش الإسرائيلي، وقد يجد نفسه مضطراً لوقف إطلاق النار العلني أو سحب القوات من المدن ويبقى في شريط حدودي وما يسمى محوراً نتساريم وفيلادلفي".
وبحسب ما جاء في تقرير للمركز الفلسطيني للبحوث والدراسات الاستراتيجية، فإن غياب أي اتفاق يسفر عن وقف شامل لإطلاق النار وانسحاب كامل ورفع للحصار عن قطاع غزة وفتح لكل المعابر لإدخال المساعدات وأفق سياسي يؤدي إلى قيام دولة فلسطينية، ستبقى المعارك مستمرة لأجيال قادمة".
بدوره قال عضو الكنيست رام بن باراك الذي شغل سابقاً منصب نائب رئيس جهاز الأمن الخارجي (الموساد) في مقال نشرته صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية، "حربنا في غزة بلا هدف، ومن الواضح أننا نخسرها، ونعود إلى القتال في المناطق نفسها ونخسر مزيداً من الجنود". وأضاف، "اقتصادنا ينهار، نخسر على الساحة الدولية، وعلاقاتنا مع واشنطن تنهار ولا نحقق أي نجاح".
وفي ظل الموقف المتشدد الذي تتبناه حكومة نتنياهو من دون أن يكون هناك قرار سياسي معلن في شأن المرحلة المقبلة، ينفذ الجيش الإسرائيلي استراتيجيات على الأرض يرى مراقبون أنها تتماشى مع فرض سيطرة دائمة على غزة، إذ إن توسيع نطاق القوات العسكرية بصورة تدريجية مع إنشاء مواقع عسكرية جديدة في مواقع حساسة، وتمديد شبكة للطرق في أنحاء مختلفة من القطاع والتنسيق مع شركات خارجية تعمل تحت إشراف إسرائيلي مباشر لتنسيق المساعدات الإنسانية في غزة، يسهم في إرساء بيئة من السيطرة العسكرية، تشير إلى أن إسرائيل بصدد تنفيذ خطط كانت على الورق لتصبح واقعاً ملموساً على الأرض.