ملخص
على ماسك أن يجيب عن سؤال وجودي: ما الغاية من "إكس"؟ فلو كان الهدف منها أن تصبح مكاناً مفتوحاً للجميع لا يمكن إذاً قولبتها على شاكلة عقيدة شخص واحد
باعتباري شخصاً قضى سبع سنوات في إدارة المحتوى على "تويتر"، تابعتُ إيلون ماسك فيما عمل بصورة منهجية على تفكيك منصة أحببتها وتشجيع مستخدميها على إبراز أسوأ ما فيهم، بينما أخذ يتبنى مقاربات غير متسقة بصورة خطرة إزاء قضايا جوهرية مثل خطاب الكراهية والمعلومات الكاذبة. وصرت أرى مجتمعاً كنت أجده مشوقاً وممتعاً وقد تحول إلى مكان مُتعِب ومُحبِط ومثير للغضب. وهذا ليس انطباعي وحدي.
فمستخدمو "إكس" يهجرون المنصة حقاً. وقد انسحبت من المنصة بالفعل بعض أهم العلامات التجارية مثل صحيفة "غارديان" ودار أزياء "بالنسياغا" ومتجر "بيست باي" للإلكترونيات وإذاعة "أن بي آر" (ناشيونال بابليك راديو) [الإذاعة الوطنية الأميركية العامة] وحتى "جسر كليفتون المعلق". ومن السهل ملاحظة هذه الظاهرة: الأسبوع الماضي، انخفض عدد متابعيَّ على المنصة بـ1000 شخص تقريباً فيما اكتسبت من ناحية أخرى 1000 متابع جديد على المنصة المنافسة لها، "بلوسكاي" Bluesky، وهذه ليست مصادفة بتاتاً، بل هي قصة مألوفة تتكرر على المنصة التي ما زلنا نصر بكل عناد أن نسميها "تويتر" (فلا أحد على الإطلاق يسميها "إكس").
كنت لأنظر إلى ماسك بشماتة، وهو يتولى قيادة سفينة تغرق لو لم يكن الرجل خطراً إلى هذا الحد. ففي نهاية المطاف، هو الرجل عينه الذي يطور واجهات عصبية يمكن زرعها في الدماغ ويحاول استيطان المريخ وتوكل إليه مهمة إعادة هيكلة بيروقراطية الحكومة الأميركية. فلو تعذر عليه المحافظة على استقرار المنصة الأساس، كيف يمكن الوثوق به لتولي مهمات تشمل حرفياً علم الصواريخ وجراحة الدماغ وإدارة بلد بأكمله بصورة سلسة؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تميزت إدارة ماسك بالتناقضات. فقد تزعم أنه يشتري "تويتر" بغية "مساعدة البشرية التي أحبها" وخلق "ساحة بلدة افتراضية" [مكان نقاش عام مفتوح]. لكن عوضاً عن ذلك، أسس ملعباً للمتصيدين الافتراضيين، يزدهر فيه خطاب الكراهية ولا تلقى فيه الإساءات الصادرة عن نخبته الجديدة، أصحاب شارة التوثيق الزرقاء، أي معارضة. انخفضت إيرادات الإعلانات كثيراً وخلال أقل من عام واحد، تراجعت قيمة الشركة إلى أقل من نصف الثمن الذي دفعه ماسك لاقتنائها. هذه ليست منظمة تُدار بصورة جيدة: بل هي كارثة من الناحيتين المؤسسية والثقافية.
وأبرز مكان يتجلى فيه هذا التناقض هو إدارة المحتوى. خلال الأشهر الأخيرة، أعلنت "إكس" أن عبارة "متوافق الجنس" التي تعتبر عبارة محايدة تستخدم للإشارة إلى أفراد غير متحولين جنسياً، شتيمة، فيما سمحت بالإبقاء على الشتائم الموجهة ضد المتحولين جنسياً على المنصة. وعندما انتشرت صور فاضحة لتايلور سويفت، منشأة بالذكاء الاصطناعي، قيدت "إكس" عمليات البحث عن اسم المغنية- غير أنها لم تمنح هذا الشكل من الحماية لمشاهير آخرين يواجهون إساءات مشابهة. وصنفت المنصة إذاعة "أن بي آر" (الإذاعة الوطنية العامة) وسيلة "إعلام تابعة للدولة" (وهو تصنيف كان مخصصاً في السابق للأبواق الإعلامية الحكومية)، لكنها لم تطبق المعيار نفسه على وسائل الإعلام الأخرى التي يمولها القطاع العام.
أذكر عندما انشغل فريق إدارة المحتوى الذي كنت أحد أعضائه بوضع المحادثات في سياقها الصحيح وفضح المعلومات الكاذبة وإنشاء تسلسل زمني مدروس عن الأحداث العظمى. كنا نؤمن بمهمة "تويتر". ولم يكن شعار "#حب مكان عملك" الذي عُلق بكل فخر على جدار كل مكتب من مكاتب "تويتر"، مجرد دعاية مؤسسية - بل كنا نسعى حقاً، قلباً وقالباً، إلى تحويل هذه المنصة ذات النفوذ الهائل، إلى قوة للخير.
ولم يفت الأوان لإنقاذ "تويتر". إليكم الطريقة:
أولاً، وضع معايير متسقة لإدارة المحتوى. فحين تُهدد الحسابات الساخرة بالإغلاق بسبب سخريتها من ماسك أو حلفائه على ما يبدو، وتُزال البلاغات والتوضيحات المكتوبة ضد بعض الشخصيات العامة فيما لا تُزال عندما تكون ضد شخصيات أخرى، فذلك يُضعف الثقة بعدالة المنصة.
وثانياً، استعادة الإدارة القوية للمحتوى. صحيح أن ميزة ملاحظات المجتمع (Community Notes) مفيدة، لكنها غير كافية. عندما أسهم انتشار المعلومات الكاذبة على "إكس" بتأجيج العنف على أرض الواقع في أعقاب مأساة ساوثبورت [تظاهرات اليمين المتطرف في بريطانيا إثر مقتل تلاميذ عدة طعناً]، بين ذلك مدى تأثير سياسات المنصة بصورة مباشرة في السلامة العامة. نحتاج إلى فرق مختصة - بشرية ومن الذكاء الاصطناعي - تعمل بصورة فاعلة للحفاظ على نزاهة المنصة.
وثالثاً، على ماسك أن يتوقف عن التصرف كأسوأ متصيد على منصته. فسلوكه هو المعيار الذي يحدد الطابع الطاغي على المنصة كاملة. وعندما يتصرف المالك نفسه بطريقة استفزازية، يضفي شرعية على تصرف الآخرين بطريقة مماثلة، بل يشجع عليه أيضاً.
ورابعاً، أصلحوا تجربة الإعلانات. في ظل الإدارة السابقة، كان هدف الإعلانات على "تويتر" دقيقاً وفعالاً. أما الآن، فالمستخدمون يواجهون سيلاً لا ينتهي من الإعلانات الضعيفة ذات النوعية الرديئة بدل العلامات التجارية من الصنف الأول التي كانت تهيمن على المنصة سابقاً. وهذا يخلق حلقة مُفرغة إذ يؤدي انخفاض إيرادات الإعلانات إلى اعتماد أكبر على الاشتراكات، ويرسخ نظاماً يتألف من طبقتين.
وفي الأخير، على ماسك أن يجيب عن سؤال وجودي: ما الغاية من "إكس"؟ فلو كان الهدف منها حقاً أن تصبح مثل "ساحة البلدة للعالم"، لا يمكن إذاً قولبتها على شاكلة عقيدة شخص واحد أو شخصيته. في الوقت الحالي، يشعر مستخدمون كثر بأن المنصة ما عادت "لهم"- وهم يعبرون عن رأيهم من خلال الخروج منها واللجوء إلى منصات بديلة مثل "بلوسكاي" و"ماستودون" و"ثريدز".
إن الوقت ينفد. فكل يوم يمر لا تُعالج فيه هذه القضايا الأساسية، يدفع مزيداً من المستخدمين نحو منصات بديلة. والسؤال المطروح في هذا المجال ليس إن كان بالإمكان إصلاح "إكس" بل إن كان ماسك مستعداً لوضع أجندته الشخصية جانباً لمصلحة خير المنصة التي أنفق 44 ملياراً لاقتنائها.
لكن في الوقت الراهن، يقف كثير من بيننا في وضع ترقب وانتظار، وفيما نحن على أهبة الانسحاب، غير أننا نأمل في حدوث تغييرات لا تنفك احتمالات تحققها تتضاءل.
© The Independent