ملخص
هل يمثل جي دي فانس المستقبل اللامع للتيار اليميني المحافظ في الولايات المتحدة؟
حين يقف الرئيس الأميركي المنتخب للمرة الثانية، دونالد جون ترمب، لأداء اليمين الرسمي رئيسا للولايات المتحدة الأميركية، ورغم ما حققه من إنجاز ساحق ماحق، لا يُصد ولا يُرد، إلا أن الأنظار في واقع الأمر ستكون مركزة على نائبه الشاب، جي دي فانس، أو بالأحرى جيمس دافيد فانس، والذي سيليه في القسم كنائب له.
تبدو قصة ترمب معروفة ومألوفة، وما يخطط له في ولايته الثانية شبه محفوظ من الذين لديهم دالة على التحليل السياسي المعمق في الداخل الأميركي.
غير أن المفاجأة الحقيقية التي تتكشف للعالم عامةً وللأميركيين خاصةً، موصولة بشخصية فانس، لا سيما أنه يمكننا القول إن ترمب مستقبله وراءه، فلا فرصة ثالثة أمامه للترشح لمقام الرئاسة الأميركية، كما أنه سيكون قد بلغ الثانية والثمانين، وآن له أن ينعم في منتجعه الفاخر على ساحل الأطلسي.
أما فانس، فسيكون قد وثّق خبراته العديدة، كدارس متميز وخريج واحدة من أفضل الجامعات الأميركية، جامعة ييل، ويحمل شهادة عالية، دكتوراه في القانون، مع خبرة قتالية مشرفة في الجيش الأميركي، ومسيرة مهنية في الحياة السياسية العامة، وعضو في مجلس الشيوخ الأميركي عن ولاية أوهايو. ومع وصوله إلى البيت الأبيض والمكوث هناك لأربع سنوات، سيضحى الشاب المتفرد ورقة رابحة للجمهوريين في قادم الأيام.
هل هناك مهمة خاصة لهذا النائب خلال هذه الولاية ؟ أهي ولاية تحضيرية له لقيادة أميركا مغايرة عن تلك التي نعرفها، تقف على تماس مع فكر "جعل أميركا عظيمة مرة أخرى"، أو "ماغا"، بحسب الشعار الذي رفعه الرئيس ترمب منذ وقت طويل؟
المؤكد أن الملايين في الداخل الأميركي طرحوا التساؤل: لماذا فانس صغير السن، هو المختار من قبل ترمب؟
أما الجواب، فإنه في دولة عظمى تقود العالم حتى الساعة، وداخل تنظيمات حزبية عالية المستوى، كما هي الحال مع الحزب الجمهوري، لا مجال البتة لفكرة المصادفة، قدرية كانت أو موضوعية؟
إذاً من هو جي دي فانس الآتي من بعيد والذي يقطع الراسخون في فهم ما يجري في الداخل الأميركي، بأنه رجل أميركا القادمة وليس القائمة فحسب؟
من مزالق الهوان لمعارج المجد
تبدو قصة الفتى فانس مثيرة للقراءة المعمقة، ورغم أننا لسنا في صدد مشاغبة سيرته الذاتية، إلا أن الجذور والأصول، غالباً ما تحدد توجهات البوصلة الحياتية.
ولِد في أغسطس (آب) 1984، أي في أوج مجد رونالد ريغان، والمواجهة مع "محور الشر الأعظم"، الإتحاد السوفيتي.
أبصر النور في مدينة ميدلتاون، بولاية أوهايو، من أبوين سرعان ما انفصلا، وسيقدَّر له لاحقاَ أن يحمل اسم زوج والدته الثالث، بالضبط كما حمل وليام بيل كلينتون اسم زوج والدته قبل عقود من مولده.
كتب فانس أن طفولته كانت تتسم بالفقر والإساءة وأن والدته عانت من إدمان المخدرات، وقد نشأ هو وشقيقته ليندسي في كنف أجداده من جهة الأم.
وكشأن الطبقة تحت المتوسطة بدأ مسيرته الحياتية بالعمل في السابعة عشرة من عمره في متجر بقالة محلي كأمين صندوق، ليلتحق بعد تخرجه من المدرسة الثانوية بسلاح مشاة البحرية الأميركية.
أهو قدر مقدور في زمن منظور أن يحقق فانس حلم ترمب الذي لم يقدر على تحقيقه، أي الإنتظام في الحياة العسكرية؟
المؤكد أن إنطلاقة فانس الحقيقة جرت من خلال عمله أول الأمر كصحافي عسكري مع الجناح الثاني للطائرات الحربية، خلال خدمته التي استمرت أربع سنوات، ولاحقاً تم إرساله إلى العراق في عام 2005 لمدة ستة أشهر في دور غير قتالي، حيث كتب مقالات والتقط صوراً. حصل على رتبة عريف وشملت أوسمته ميدالية حسن السلوك من سلاح مشاة البحرية، وميدالية الإنجاز من البحرية وسلاح مشاة البحرية.
بإستخدام ما يعرف بقانون "جي أي" التحق فانس بجامعة ولاية أوهايو التي تخرج منها بإمتياز مع مرتبة الشرف بدرجة البكالوريوس في الآداب مع تخصصات في العلوم السياسية والفلسفة، ثم التحق بكلية الحقوق بجامعة ييل والتي حصل منها على درجة الدكتوراه في القانون، في عام 2013.
يطول الحديث عن مراحل كفاح الفتى فانس، والتي تقطع بأنه يصدق عليه القول "الكتكوت الفصيح في البيضة يصيح"، غير أنه لا يمكن تجاوز مؤلّف معين، كتبه فانس، وسيكون المرجع لأفكاره، ومعيناً لا ينضب لرؤاه وتطلعاته، عطفاً على إمكانية أن يستشف القارئ خطوطه السياسية والأحلام التي يتطلع لجعلها حقائق على الأرض... ماذا عن هذا؟
مرثية هليبيلي... الصمود طريق النصر
كان يونيو (حزيران) 2016، أي الوقت الذي ترشح فيه رجل غريب عن العمل السياسي بالمرة، أي ترمب، للرئاسة الأميركية، هو التوقيت الذي بدأ الأميركيون يسمعون فيه عن هذا الفتى النابه، والذي قدم مؤلفاً يحار المرء في فهمه، وهل هو رواية، أم سيرة ذاتية، وربما يكون طريق ثالث بمعنى رؤية سياسية.
في ذلك التوقيت نشرت "دار هاربر" كتاب فانس، مرثية هليبيلي: مذكرات عائلة وثقافة في أزمة"... فما الذي ترويه؟
يسرد فانس في الكتاب قصة حياته، وتجربة أسرته، هناك حيث يعيش أميركيون من العِرق الأبيض قصة مختلفة عما يراه العالم في كبريات المدن الأميركية مثل نيويورك، ولوس أنجلس، ولاس فيغاس.
يشير مصطلح "هليبيلي" (Hilibily) الوارد في عنوان الكتاب إلى سكان تلال تلك المنطقة، وهو مثير للجدل إلى حد ما، إذ يُعتبر مهيناً في بعض السياقات.
في هذا المؤلف يقول فانس: "أتعاطف مع ملايين الأميركيين البيض من الطبقة العاملة من أصل اسكتلندي ايرلندي، والذين لا يحملون شهادات جامعية. بالنسبة لهولاء الناس، الفقر هو التقليد العائلي". ويضيف فانس، أن "أسلاف هولاء الأميركيين كانوا عمالاً باليومية في اقتصاد العبيد الجنوبي، ثم مزارعين، وعمال مناجم الفحم، وعمال الميكانيك، والمطاحن لاحقاً".
هل كانت هذه النشأة هي المولّد الرئيس لتوجهات فانس لجهة العِرق الأبيض البروتستانتي الأنغلو ساكسوني، والذي يبدو وكأنه في طريق للتراجع ديموغرافياً وسط أجناس وأعراق مغايرة؟
ستكون هذه الجزئية بلا شك من أهم منطلقات فانس السياسية، والتي ستشكل قوامه الفكري والحزبي، لا سيما أن هذا العمل وضِع على قائمة "نيويورك تايمز" لأكثر الكتب مبيعاً في عامي 2016 و 2017، بل أدرجته صحيفة التايمز ضمن 6 كتب للمساعدة في فهم فوز ترمب عام 2016، هذا على الرغم من أن فانس في ذلك الوقت كان يناصب ترمب العداء الواضح.
تم تقديم فانس في صحيفة "واشنطن بوست"، التي وصفته بأنه "صوت حزام الصدأ، لكن وعلى الرغم من ذلك، فإن هناك أصواتاً مغايرة انتقدته ومنها، سارة جونز، محررة مجلة "ذا نيو ريببليك" التي وصفته بأنه "المفسر الأبيض المفضل لدى وسائل الإعلام الليبرالية"، ومرة أخرى نعتته بـ "النبي الكاذب لأميركا الزرقاء"، كما وصفت الكتاب بأنه "أكثر بقليل من قائمة من الأساطير حول ملكات الرعاية الإجتماعية".
غير أنه وفي كل الأحوال، فقد دفع كتاب "مرثية هليبيلي" فانس إلى التواصل مع النخبة المجتمعية الداروينية في الداخل الأميركي، وبدأ من وقتها بكتابة عمود لـ "نيويورك تايمز".
لاحقاً سيقول فانس إن تفاعلاته مع تلك النخب الإجتماعية في هذا الوقت، وخاصة إزدرائهم المتصور "للأشخاص الذين نشأ معهم"، ساعدت في تشكيل آرائه اللاحقة.
حكماً كانت "مرثية هليبيلي" الخطوة التالية بعد البحرية الأميركية، التي جعلت من فانس شخصاً مرغوباً ومحبوباً في الوسط الأميركي النخبوي الأبيض بنوع خاص، وربما لا نغالي إن قلنا وسط اليمين الأميركي، ما سيجعله خياراً عميقاً ودقيقاً لترمب في ولايته الثانية.
في عام 2017، انضم فانس إلى شركة الاستثمار التي أسسها ستيف كيس وتسمى Revolution LLC (انتبه إلى الاسم ودلالاته... الثورة)، وتم تكليف فانس بتوسيع مبادرة تدعى "صعود البقية"، والتي تركز على تنمية الاستثمارات في المناطق المحرومة خارج وادي السيليكون ومدينة نيويورك.
هل كان هناك من يعمل على إعداد فانس ضمن خارطة الرجل الأبيض القادمة بقوة، وقطعاً للطريق على أميركا أخرى، الديمقراطية اليسارية التي انحرفت بالبلاد، على الأقل في تقدير المتطهرين الجدد من الأميركيين المعاصرين إن جاز التعبير؟
فانس واليمين الأميركي الجديد
هل يمكن إعتبار فانس "أحد أنبياء اليمين الأميركي الجديد" ، بحسب توصيف الكثير من الأميركيين؟
في التاسع والعشرين من يوليو (تموز) 2021، وفيما كان ترمب يملأ الدنيا صياحاً حول "سرقة" انتخابات الرئاسة 2020، ظهر فانس في برنامج المذيع الأميركي الإشكالي، تاكر كارلسون، حين كان لا يزال مذيعاً في قناة "فوكس نيوز".
في ذلك الوقت، كان فانس مثله مثل كارلسون، معارضاً لترمب، ولاحقاً سيُقدَّر لكلاهما أن يضحيا من أشد داعميه ومعاونيه في الحل والترحال.
لسنوات عدة لعب فانس دوراً رئيساً في صفوف نخبة اليمين الجديد، والذي يمكن وصفه بشكل فضفاض، بأنه الجناح الفكري للحزب الجمهوري المؤيد لترمب بما في ذلك العديد من المسؤولين عن مشروع 2025، هذه المجموعة المختلطة التي تتكون من مثقفين، وناشطين سياسيين، ومؤثرين من كافة الإتجاهات الفكرية الأميركية، والذين يتمسكون بمجموعة متنوعة من أنظمة المعلومات، وأحياناً يكون لديهم أهداف سياسية متباينة.
غير أنه من الواضح أن الغريزة الوحيدة التي يتمسك بها فانس وبقية اليمين الجديد، هي التشكيك العميق في النسوية الحديثة، والمساواة بين الجنسين، أو ما يسميه اليمين الجديد "إيديولوجيا النوع الإجتماعي"، بجانب الشوفينية الصريحة التي تسعى إلى التراجع عن الكثير من مكاسب النسوية.
يبدو فانس رجلاً محترماً من رجال الأسرة، شخص يدعم القيم المحافظة التقليدية للحزب الجمهوري من خلال دعم سياسات قوية مؤيدة للأسرة.
يعارض فانس بشدة الإجهاض ويرى أنه خطأ حتى في حالات الإغتصاب وزنا المحارم، وقارن ذات مرة بين "شر الإجهاض وشر العبودية"، كما عارض في عام 2023 إجراء استفتاء في أوهايو يضمن السماح بالإجهاض. كما كان ايضاً واحداً من 28 عضواً فقط في الكونغرس الذين عارضوا قاعدة HIPAA الجديدة والتي من شأنها أن تحد من وصول سلطات إنفاذ القانون إلى السجلات الطبية للنساء.
ولعله من المثير أن نجد فانس من كبار مروجي سياسات رئيس وزراء المجري، صديق ترمب المقرب والمحبب، فيكتور أوربان، المؤيدة لكثرة الولادات، والتي تقدم مساعدات مالية جيدة للأزواج المتزوجين، تتزايد مع تزايد عدد الأطفال.
يبدو فانس كذلك من أوائل الرافضين لزواج المثليين، وخلال حملته لمجلس الشيوخ في عام 2022، أكد أن أفكار الثورة الجنسية جعلت الإنفصال أمراً سهلاً للغاية، وأن الشباب "يغيرون زوجاتهم كما يغيرون ملابسهم".
في كل ذلك يتناسب فانس تماماً ويتعاطف مع فصيل اليمين الأميركي الجديد الذي يشير إلى نفسه بإعتباره "ما بعد الليبرالية".
هنا ينبغي للقارئ أن يتوقف وبقوة أمام هذه الآراء ويتساءل بعمق، هل نحن أمام ضرب من ضروب رفض الشتاء الديموغرافي الذي يخيم على الولايات المتحدة عامة، ويؤثر على النوع الأبيض بشكل خاص؟
غالباً هذه هي الجزئية الأهم في مشروعات اليمين الأميركي بشكل عام، وهناك ما يشبه تقسيم الأدوار بالنسبة لها، ففي حين يكاد دونالد ترمب يتفرغ لإشكالية الهجرة غير الشرعية، والتي تجعل اليمين المتشدد يصيح بقوة هذه الأيام، حيث هناك نحو 30 مليون مهاجر غير شرعي، فإن فانس يهتم بقضية المواليد، وما يمكن أن يلحق بها من جراء ثورة الجنس المثلي، وتحويل النوع، والمثلية الشائعة والذائعة، ما يجعل منه يمينياً بإقتدار.
فانس ومخطط اليمين للسلطة الأميركية
هل جي دي فانس، أحد الأذرع العملياتية من اليمين الأميركي، للإستيلاء الناعم والديمقراطي، وبما لا يخالف القوانين والدستور، على كافة مناحي السلطة في الداخل الأميركي، سواء كانت تشريعية أو تنفيذية أو قضائية؟
أحد أفضل الذين قدموا إجابة شافية وافية عن السؤال المتقدم، هو "إيان وارد" مراسل مجلة "بوليتيكو" الأميركية العريقة في واشنطن، والذي يرى أن فانس صاغ بالفعل استراتيجيته السياسية الخاصة بعبارات تشبه إلى حد كبير تلك التي نجدها على صفحات مفكري اليمين الجديد الذين أثروا عليه.
اليوم وبعد النصر المؤزر لترمب، وتحليق الجمهوريين في سماوات الحكم في البلاد، وعبر تشكيل تحالف بين اليمين الجديد وحركة "جعل أميركا عظيمة مرة أخرى"، فإنه في غالب الظن سيصبح فانس طليعة لنخبة سياسية جديدة، ورغم أنها ليست شعبية في حد ذاتها، إلا أنها قد تؤسس لنظام اجتماعي يراه البعض غير ليبرالي بل ورجعي بشكل واضح.
هنا وفي واقع الأمر، يجسد فانس نموذجاً أصلياً تم طرح نظريات عنه بالتفصيل في الكتب والبودكاست المجاورة لليمين الجديد، تلك التي قرأها فانس واستمع إلى العديد منها، ومن خلال تشكيل تحالف بين اليمين الجديد وجماهيرية "ماغا" (MAGA) يمكن لفانس وفقاً لهذه القراءات أن يعمل كزعيم لحركة جديدة لإنشاء نظام سياسي غير ليبرالي ورجعي بشكل صريح، ورغم تبني خطاب الشعبوية المحافظة، فإن هذا النظام الجديد سيكون نخبوياً بالأساس، فهو سيطرد النخبة الحاكمة الحالية في أميركا من أجل استبدالها بنخبة جديدة مستمدة من صفوف اليمين الجديد.
في مقابلة مع فانس أجراها صحافي "بوليتيكو" إيان وارد عينه، وجرت في مكتبه بمجلس الشيوخ الأميركي في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، قال نائب الرئيس القادم: "إن إحدى الطرق التي تجعلني شعبوياً للغاية هي أنني أعتقد أن الناس بحاجة إلى ممثلين منتخبين يحاولون توجيه إحباطاتهم إلى حلول من شأنها أن تجعل حياتهم أفضل". وأضاف "إن إحدى الطرق التي تجعلني غير شعبوي للغاية هي أنني أعتقد أن كل حركة شعبوية كانت موجودة على الاطلاق قد فشلت ما لم تستحوذ على مجموعة فرعية من الأشخاص الذين يعملون بشكل إحترافي في الحكومة". واعتبر فانس كذلك أنه "لا يمكنك إدارة حركة سياسية فقط من خلال الناخبين، فأنت بحاجة إلى الناخبين، وتحتاج إلى كل شيء من حولك للوصول إلى الجماهير الأميركية العريضة.
من أين للمرء أن يستدل على شخصية فانس الحقيقية؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فانس ووصف الملك الفيلسوف الإنجليزي
حكماً الجواب عن علامة الاستفهام المتقدمة، يدور دوما حول المفكرين والمشيرين الذين أسهموا في صياغ عقل فانس.
يتحدث البروفيسور جيمس أور، الأستاذ المشارك في فلسفة الدين في جامعة كامبريدج والشخصية البارزة وراء الحركة المحافظة الوطنية في المملكة المتحدة عن فانس، فيرى فيه "ملك وفيلسوف إنجليزي عتيق، يظهر على سطح الأحداث في حاضرات أيامنا".
في سبتمبر (أيلول) المنصرم وعبر مجلة "ناشونال إنترست" الأميركية الشهيرة، كتب أور: "من مرثية ريفية إلى مرشح لمنصب نائب الرئيس، قطع فانس شوطاً طويلاً منذ نشأته في أوهايو وحتى الساعة، حيث يملي عقيدة ترمب لجيل الألفية، كما اكتسب شهرة واسعة لرفعه درجة حرارة الخطاب السياسي في أميركا".
يقطع أور بأن هناك جانب فلسفي تشكله شبكة من المستشارين والداعمين على الجانب الأخر من المحيط الأطلسي، فضلاً عن حاشيته الأميركية، وأحد هولاء المستشارين والداعمين هو معلم روحي مدهش وهو أكاديمي يطلق عليه فانس لقب "الشيربا البريطاني"، (الشريبا هم القادمون من الشرق).
يبرز البروفيسور "جيمس أور" كشخصية هائدة مؤثرة حيث درج على أن يجمع الفلاسفة واللاهوتيين ذوي الميول اليمينية لتبادل الأفكار.
في الصيف الماضي استضاف أور مناظرة شارك فيها بيتر ثيل، المؤسس المشارك لشركة "باي بال" وأحد المتبرعين الأوائل لترمب. وفي حديثه لأول مرة عن صداقته الوثيقة مع فانس، قال أور في بودكاست POWER PLAY التابع لمجلة "بوليتيكو"، إن المرشح الجمهوري لمنصب نائب الرئيس قد ينتهي به المطاف رئيساً في البيت الأبيض يوماً ما. ومازح أور بأن فانس يتمتع بشخصية "رجل تقليدي" تتلذذ بالتقاليد والروحانية، فضلاً عن نهج "رجل التكنولوجيا" الأكثر حضوراً.
أصبح جيسم أور وفانس صديقين في عام 2019، بعد عام من تحول فانس إلى الكاثوليكية ، وأكتشفا أنهما يشتركان في الاهتمام بالإيمان والسياسة المحافظة، لا سيما أن زوجة جيمس أور قسيسة أنغيليكانية بارزة. ويقول أور "كنا نتفق على السير معاً لمسافات طويلة، ونتبادل الأفكار حول حالة العالم". ويضيف إن "تبني فانس للتعاليم الكاثوليكية يتفق مع آرائه بشأن الحياة الأسرية، التي أثارت الجدل".
ويرى أور أنه "ربما بسبب نشأة فانس المحطمة، فإنه يفهم قيمة الأسرة ربما أكثر من الآخرين الذين كانوا محظوظين بما يكفي لينشأوا في أسر سعيدة".
فانس والفيلسوف الكاثوليكي دينين
من بين أهم العقول الكثيرة التي لعبت دوراً واضحاً جدا في تكوين ونشأة عقل فانس، والتي ستترك أثراً واضحاً خلال السنوات الأربع القادمة، يأتي الفيلسوف الكاثوليكي في جامعة نوتردام في واشنطن، باتريك دينين.
يُعد دينين، أستاذ النظرية السياسية في جامعة نوتردام، أحد أبرز المؤيدين الأكاديميين لفكرة "ما بعد الليبرالية"، وهي فلسفة سياسية تتجنب التركيز الذي تتسم به الليبرالية الصغيرة على حماية حقوق الأفراد وحرياتهم لصالح الترويج لنظام "ما بعد الليبرالية" القائم على تعزيز القيم المحافظة والدينية.
أستشهد فانس بـ "دينين" بإعتباره مؤثراً فكرياً رئيساً وظهر معه في الفعاليات، بالإضافة إلى تعريف نفسه بأنه عضو في "اليمين ما بعد الليبرالي".
في إحدى أمسيات صيف عام 2023، دخل فانس قاعة رقص مبطنة بالرخام في الجامعة الكاثوليكية الأميركية، حيث تجمع حشد من 250 شخصاً لإطلاق كتاب للفيلسوف دينين، وكان معهد الدراسات الجامعية المحافظ قد استضافه.
في تلك الليلة، توجه فانس، والذي كان قد مضى بضعة أشهر فقط على ولايته الأولى كعضو في مجلس الشيوخ الأميركي، مباشرةً إلى دنين واحتضنه بشدة، وكان الرجلان يبتسمان ويحييان بعضهما بعض مثل الأصدقاء القدامى.
اعتبر بعض الذين عاشوا هذه الأمسية أن هذا العناق كان بمثابة استعارة حية لإحتضان فانس واليمين الأميركي الجديد، ذلك الموعود بالإزدهار والنمو بصور مضطردة خلال ولاية ترمب القادمة، لعمل دينين كنوع من خريطة الطريق لحركتهم السياسية الناشئة، وهي العملية التي تحدث عنها دينين بإسهاب في مجلة بوليتيكو ذاتها من قبل .
هل سيترك دينين أثراً على أميركا برمتها في الأعوام القادمة؟
الشاهد أنه من شأن النظام ما بعد الليبرالي الذي اقترحه دينين، أن يسمح للنخبة الجديدة بتعزيز التعاون بين القلة والكثيرين، في السعي إلى تحقيق الصالح العام.
هل قدم دينين بالفعل أفكاراً يمكنها أن تغير الأوضاع وتبدل الطباع في الداخل الأميركي، ذاك الذي بات معتلاً ومختلاً في الأعوام الأخيرة؟
لقد توقع الكثيرون بالفعل أن تدخل الولايات المتحدة وسط إعصار خطير من التشارع والتنازع حول رئاسة 2024، وعلى الرغم من أن هذا لم يحدث، وغالباً بسبب وعي الجماهير الأميركية لمستقبل البلاد، وخوفاً من الفتن الإيديولوجية والدوغمائية دفعة واحدة، إلا أن هناك من يرى أن أميركا ليست في مأمن بالمطلق لفترة زمنية طويلة قادمة، ما لم تطفو على السطح بدائل قادرة على استنقاذ الأميركيين من وهدة الصارعات القائمة والقادمة.
هنا ربما يتحتم علينا العودة ومن جديد إلى أفكار دينين، لاسيما كتابه المتميز "لماذا فشلت الليبرالية" الذي نُشر عام 2018، فقد زعم دينين أن الليبرالية الصغيرة مدمرة للذات حتماً، وأن النظام السياسي القائم على توسيع الحقوق الفردية والإستقلالية من شأنه في نهاية المطاف أن يقوض المؤسسات الجماعية، مثل الأسرة والدين والمجتمعات المحلية، التي تجعل الحياة السياسية ممكنة في المقام الأول.
أما في مؤلفه التالي "تغيير النظام"، فإن دينين لا يتبني مصطلح "غير ليبرالي" بل يطرح رؤية لـ "نظام ما بعد ليبرالي" مثالي من شأنه أن يتخلى عن حماية الليبرالية لحقوق الأفراد لصالح نظام اجتماعي يعزز الصالح العام.
هل دينين هنا وثيق ولصيق الصلة بما يعرف بفكر "العقيدة الإجتماعية" للكنيسة الرومانية الكاثوليكية؟
المؤكد أن فانس الذي اعتنق الكثلكة، أثبت وعبر الصوت والصورة نهار الإقتراع، أنه كاثوليكي حقيقي غير منحول، فقد اصطحب زوجته وأولاده بعد أن أدلى بصوته، إلى كنيسة كاثوليكية مارونية بجوار منزله، وهناك عمد لأن يصلي له أحد الكهنة الشرقيين اللبنانيين.
هنا تبدو أفكار العقدية الإجتماعية للكنيسة مدخلاً جيداً في عقل فانس الكاثوليكي للعمل على ازدهار الإنسان، ووفقاً لـ "دينين"، فإن إلتزام الليبرالية الزائفة بالمساواة يوفر حالياً غطاء لنخبة فاسدة ويسارية الميول لملاحقة مصالحها الخاصة على حساب مصالح الجماهير المظلومة واليمينية الميول.
على النقيض من ذلك، في نظام دينين ما بعد الليبرالي، تعمل النخبة الحاكمة الجديدة على تعزيز التعاون المجتمعي إنطلاقاً من منظومة أخلاقية مختلفة جوهرياً.
لكن يبقى السؤال المهم: هل من علاقة عضوية بين جي دي فانس وبين القائمين على مشروع أميركا 2025 اليميني الذي يكاد يعلَن في سماوات البلاد عما قريب؟