ملخص
فيما كان معهوداً أن تثير الرقابات المشكلات في وجه نصوص الأوبرات، كان من الغريب أن تلك المشكلات الرقابية تمس أحياناً نصوصاً يصعب علينا تصور الأسباب الكامنة وراءها، وليس فقط في مقاييس زمننا المعاصر.
بين أعماله الموسيقية التي تعد بالمئات، مما يجعله واحداً من أغزر الموسيقيين إنتاجاً في تاريخ هذا الفن، لحن وولفغانغ أماديوس موتزارت خلال عمره القصير 17 أوبرا تخوض كل المواضيع والتيارات الأوبرالية التي كانت سائدة في زمنه. ولعلنا لا نبالغ إن نحن أشرنا إلى أن معظم تلك الأوبرات يتمتع بحيوية تجعل كل واحدة من تلك الأعمال بالغة الحداثة تبدو في موسيقاها في الأقل، وكأنها لحنت في أيامنا هذه. لكن هذا القول من الصعب أن ينطبق على النصوص والأشعار التي استمدت الأوبرا منها حتى حين يكون المصدر أعمالاً أدبية مميزة كما الحال مع "دون جيوفاني" (عن مسرحية موليير)، أو "الناي السحري" (عن أعمال كلاسيكية عدة بل حتى فرعونية)، أو بخاصة "زواج فيغارو" عن مسرحية بومارشيه الشهيرة، أو جزء منها في الأقل. والحقيقة أنه فيما كان معهوداً أن تثير الرقابات المشكلات في وجه نصوص تلك الأوبرات، كان من الغريب أن تلك المشكلات الرقابية تمس أحياناً نصوصاً يصعب علينا تصور الأسباب الكامنة وراءها وليس فقط في مقاييس زمننا المعاصر.
"فيغارو" والرقابة
من هنا قد يكون من المفيد في هذا السياق التوقف عند واحدة من أشهر تلك الأوبرات، وهي "زواج فيغارو" من منطلق غرابة حكايتها مع الرقابة وغرابة حكايتها مع الإمبراطور النمسوي جوزيف الثاني نفسه، الذي كان معروفاً بحبه للفنون ورعايته لموتزارت ورغبته من طريق ذلك كله في جعل فيينا عاصمة إمبراطوريته مركزاً للإبداع في أوروبا. ومن هنا كان عليه، كما تقول لنا الحكاية التالية التي ننقل تفاصيلها عن "مذكرات" الشاعر والكاتب لورانزو ديلبونتي صاحب الاقتباس النصي للأوبرا نفسها، عن جزء من مسرحية بومارشيه الشهيرة، وهو جزء يستكمل مع أوبرا أخرى لا تقل شهرة عن تحفة موتزارت هي "حلاق إشبيليا". والمهم هنا هو أنه لئن كان يفترض بأوبرا موتزارت أن تعرض عرضاً عالمياً أولاً في فيينا عند بدايات عام 1786 قبل وفاة جوزيف الثاني بأربع سنوات وجد مبدعاها أن الرقابة تطبق عليها وعليهما ساعية إلى تحطيم ذلك العمل الفذ في مهده، ولنترك لديلبونتي أن يحكي لنا تلك الحكاية التي تتضمن بصورة خاصة لقاء أتى حاسماً مع الإمبرطور.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
عبقرية موتزارت
يبدأ ديلبونتي حكايته بالحديث عن رفيقه المبدع الموسيقي الشاب قائلاً إن "ضخامة عبقريته الإبداعية كانت تستوجب مده بنص درامي كبير متعدد الشكل وسام إلى أعلى الذرى، ومن هنا فيما كنا هو وأنا نخوض نقاشاً حول هذا الأمر ذات يوم، سألني ما إذا كان في إمكاني أن أقتبس له عملاً أوبرالياً مستمداً من مسرحية بومارشيه ’زواج فيغارو‘. راقتني الفكرة إلى حد كبير ووعدته بالانكباب على العمل من فوري، ولكن سرعان ما تبين لنا أن علينا تخطي عقبة كأداء. فقبل حين كانت المسرحية نفسها منع تقديمها على الخشبة الألمانية بأمر من الإمبراطور بذريعة أنها خفيفة إلى حد كبير بالنسبة إلى عروض يحضرها جمهور محترم. فكيف يمكننا أن نقترح عرضها الآن؟ وهنا تدخل صديقي ومشجعي البارون فالتزلر، مؤكداً لي أنه سيحاول جهده في هذا المجال فإن منعت في فيينا سيقوم بالتأكيد بتقديمها في لندن أو حتى في باريس، لكنني رفضت هذا العرض السخي مصراً على أن نقوم موتزارت وأنا بإنجاز نص الأوبرا وموسيقاها سراً في انتظار حلول لحظة ملائمة نعرض العمل فيها إما للهيئات المسؤولة وإما للإمبراطور نفسه إن واتتنا شجاعتنا".
ستة أسابيع لعمل جبار
وهكذا في الوقت الذي راح ديلبونتي يشتغل على الأشعار والنصوص، انطلق موتزارت يضع ألحانه. وذلك في عمل أنجز خلال ما لا يزيد على ستة أسابيع، وكان من حسن طالع الموسيقي الشاب أن المسارح في فيينا كانت في حاجة ماسة إلى أعمال جديدة، بالتالي بدت المناسبة ملائمة للقيام بمحاولة جدية لاقتراح تقديم العمل الجديد، وأخذ ديلبونتي كما يتابع في مذكراته، على عاتقه طلب موعد من الإمبراطور في مسعى منه إلى إعادة إحياء المشروع. وها هو يستكمل الحكاية: "عند أول اللقاء مع الإمبراطور بادرني مستنكراً بقوله: أنت تعرف أن موتزارت بقدر ما تتجلى عبقريته في كتابة الموسيقى الأوركسترالية، يبدو عاجزاً عن إنتاج موسيقى للمسرح الغنائي باستثناء مرة واحدة لا يمكن الاعتداد بها ولا تضمن بلوغ الموسيقي الشاب مستوى عالياً من العبقرية الإبداعية في هذا المجال".
وهنا استمد ديلبونتي شجاعة من تلطف الإمبراطور ليقول له مبتسماً، "أنا نفسي يا صاحب الجلالة لا أزعم أنني كتبت حتى الآن سوى دراما واحدة قدمتها في فيينا، وكان الفضل في تقديمها لطيبة مولانا نفسه". وهنا بدا شيء من التردد والحيرة على محيا الإمبراطور ودمدم قائلاً "هذا صحيح، ولكن ما العمل وأنا نفسي منعت مسرحية (زواج فيغارو) هذه من أن تقدم على خشبة ألمانية؟". ويفيدنا ديلبونتي هنا بأنه تشجع ليجيب الإمبراطور قائلاً "أعلم ذلك يا صاحب الجلالة، ولكن بما أنني أنا نفسي حولت هذا العمل الكوميدي إلى عمل أوبرالي، تمكنت من أن اقتطع منه فقرات وحوارات بأسرها وأربط بين حوارات أخرى باذلاً كل ما لدي من جهد كي أخلص النص مما يعتريه وقد يسيء إلى الذوق السليم. باختصار عملت بصدق لكي أجعل هذا العمل لائقاً بأن يشرفه جلالتكم بحضوره ويرعاه، أما بالنسبة إلى موسيقته فبقدر ما يمكن لي أن أتحدث عنها أعد جلالتكم بأنها لن تقل في قيمتها الإبداعية عن تحفة فنية استثنائية"، فكان جواب الإمبراطور ببساطة "حسناً، وبالنسبة إلى الموسيقى سأتكل على ما لديكم من ذوق سام، بينما أتكل بالنسبة إلى البعد الأخلاقي على ما لديكم من حيطة وفطنة. هيا سلم الناسخين أصول العمل كي ينسخوها".
القصر يستدعي موتزارت
ويخبرنا ديلبونتي هنا بأنه بعد دقائق وصل بسرعة عند موتزارت، إذ لم يكن فتح فمه ليزف إليه النبأ السعيد بعد، حين وصل مرسال من القصر الإمبراطوري يطلب من الموسيقي الشاب التوجه من فوره إلى القصر مصطحباً معه نوطات الأوبرا. "أطاع موتزارت من فوره، كما يروي ديلبونتي، وتوجه إلى القصر حيث أسمع الإمبراطور بعض المقاطع المنجزة التي فتنت سيد البلاد بل أذهلته من دون مبالغة. ونعرف طبعاً أن ذوق الإمبراطور جوزيف الموسيقي كان مرهفاً إلى حد كبير، بل كان ذواقة حقيقياً لكل ما ينتمي إلى الفنون الجميلة". وما النجاح الكبير الذي حققته هذه الأوبرا في فيينا كما في العالم كله إثر ذلك ولا سيما في باريس، إذ لن يقدم العمل على أية حال إلا في ربيع عام 1793، سوى الدليل القاطع ليس فقط على القوة الإبداعية المتجلية في "زواج فيغارو" بل حتى وبحسب تعبير لورنزو ديلبونتي في مذكراته، "بل كذلك على أن الإمبراطور كان صائباً في أحكامه الفنية". ولعل من المفيد هنا أن نضيف أن الشاعر والكاتب ديلبونتي إنما كتب هذه العبارات الأخيرة بعد سنوات من رحيل الإمبراطور جوزيف وحلول خليفته الإمبراطور ليوبولد في الحكم محله من دون أن يكون متمتعاً بحبه للفنون، وبعد سنوات طويلة من رحيل رفيقه المبدع موتزارت شاباً عام 1791. مما يعني أننا هنا أمام حكم للتاريخ حول الولادة الإبداعية والعملية لواحدة من أشهر الأوبرات وأبقاها حتى اليوم. وبقي أن نذكر هنا أن النجاح الذي كان لتقديم "زواج فيغارو" في فيينا كان كبيراً، ولا سيما إذ انتشرت أنباء رعاية الإمبراطور لها. كان نجاحاً أنقذ موتزارت في الوقت نفسه من ضائقته المالية، ولو إلى حين، لكنه بات من المعيارية إلى درجة بدا معها استقبال فيينا نفسها لأوبرا موتزارت التالية "دون جيوفاني"، هزيلاً ومرعباً إذ راح الجمهور يقارن بين العملين فيصل إلى نتيجة مفادها بأن "زواج فيغارو" تفوق في أهميتها ونجاحها ما قوبلت به "دون جيوفاني"، لكن ذلك لم يدم طويلاً إذ يرى معظم المؤرخين اليوم أن هذه الأخيرة أهم وأقوى، بل لعلها "أجمل أوبرا كتبت على مدى تاريخ هذا الفن".