ملخص
في 12 مايو (أيار) من كل عام، تحتفل منظمة يونسكو العالمية باليوم العالمي للتمريض. ويستحق فعلا الجهاز التمريضي مثل هذا اليوم الاحتفالي، تبعاً لما يعاني من مشكلات وصعوبات، يومية وحياتية. وقدأدت هيمنة الرأسمالية المعاصرة وسيطرتها على الكوكب إلى تداعيات سلبية قد تؤثر بشكل خطر في الجهاز التمريضي.
لا عناية تمريضية من دون قيم إنسانية ترعاها وتظللها، ولا مجتمع سليماً مستقراً من دون عناية تمريضية إنسانية، ولا قيم من دون فلسفة تنشئها وتحددها. فالجهاز التمريضي يتعامل أساساً مع إنسان لجأ إليه لأنه يعاني، وقد يخسر حياته إذا لم يجد العناية الصحيحة والمعاملة الحسنة. لذلك تصنف مهنة التمريض بوصفها فناً وعلماً ونشاطاً إنسانياً رفيعاً، وينظر إلى الممرض بوصفه ذلك الفارس النبيل الشجاع الذي يتفانى ويضحي بنفسه في سبيل خدمة المريض وحماية المجتمع لا سيما في أوقات الأوبئة والحروب.
التمريض، إذاً، أحد أهم المهن الصحية التي تهتم بالمرضى والأسرة للوصول إلى حال صحية جيدة آمنة داخل مؤسسات الرعاية الصحية وفي المجتمع أيضاً. وكثيراً ما كانت مهنة التمريض مهنة إنسانية جليلة سامية، تتطلب كثيراً من الجهد والتضحية ممن يقومون بها، وتفترض فيهم التحلي بأقصى درجات الصبر والحكمة والتفاني والرقي الإنساني ومكارم الأخلاق، وإن كانت تلوثت في العقود الأخيرة باللوثة الرأسمالية التجارية التي أصابت كل شيء، لا سيما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ومجموعة الدول الاشتراكية وهيمنة الرأسمالية المتوحشة على الكوكب، إذ نظرت إلى كل شيء مهما كان راقياً ونبيلاً وإنسانياً بوصفه نشاطاً تجارياً يحقق لها الأرباح أو يوقعها في الخسائر، أي بوصفه سلعة تباع وتشترى.
هكذا انتشرت روح الرأسمالية الجشعة ولم تستثن حتى المستشفيات ودور الرعاية الصحية ومن يعملون فيها من الجهاز التمريضي والجسم الطبي على حد سواء. عندئذ، لم يعد الإنسان يعامل بما هو في غاية ذاته وبما هو كائن يتمتع بكرامة لا تنفصم عنه، بحسب ما دعا إليه فيلسوف الأنوار كانط. لكن بعد تفشي جائحة كورونا وانتشارها في العالم أجمع، أدرك الإنسان المعاصر من جديد أهمية مهنة التمريض، بحيث أعيد تقدير الجهاز التمريضي وتم النظر إلى الممرض بوصفه فدائياً مغامراً مجازفاً بحياته من أجل إنقاذ حياة الآخرين وحفظ المجتمع من الفناء الأكيد عبر تقديم الرعاية وتعزيز الحياة الإنسانية والمساعدة على الشفاء في أحلك الظروف، حتى لو كانت خطرة جداً.
ومن ثم، كان الناس قد غفلوا عن أهمية مهنة التمريض ودورها الرائد في حماية المجتمع في السنوات التي سبقت انتشار فيروس "كوفيد-19" حتى أيقظهم الفيروس اللئيم والقاتل هذا من سباتهم التمريضي وثبت ريادة دور التمريض في الحفاظ ليس على المريض فحسب، بل على المجتمع بأسره. وعليه، فإن ميداناً إنسانياً بهذه الأهمية لا بد أن تحكمه قيم ومبادئ إنسانية، وأن يتجسد في أنماط حياة، وأن يرسم معنى للحياة، تقف وراء النشاط التمريضي وتؤلف الخلفية الفكرية له. من هنا العلاقة الوثيقة للفلسفة بالتمريض بما هي مصنع دائم لإنتاج الأفكار التي تعنى بالإنسان بما هو إنسان وبما هي ذلك الاختصاص الذي يطرح الأسئلة والمشكلات حول الحياة والموت والإنسان والعلاقة بالآخر، سواء كان مريضاً أم معافى.
يوم التمريض العالمي
في الـ12 من مايو (أيار)، وهو ذكرى ولادة الممرضة البريطانية فلورنس نايتنجيل التي تعد رائدة التمريض الحديث، يجري الاحتفال بيوم التمريض العالمي (IND) في جميع أنحاء العالم تحت شعار: الممرضون والممرضات معاً، قوة من أجل الصحة العالمية، وذلك للإشارة إلى تفرد مهنة التمريض وأهميتها في المجتمع ودورها المهم في حمايته، علماً أن المجلس الدولي للتمريض (ICN) يحتفل بهذا اليوم منذ عام 1965. يذكر أن هذا المجلس يضم أكثر من 130 جمعية وطنية للممرضين والممرضات، تمثل 28 مليون ممرض وممرضة من جميع أنحاء العالم. يدعو مجلس التمريض الدولي هذا الدول إلى الاستثمار في قطاع التمريض من أجل رسم اتجاه التمريض المستقبلي، وتلبية الحاجات الجديدة المستجدة في هذا المجال، وتحقيق التنمية المستدامة والتغطية الصحية الشاملة، وتأمين العدالة الصحية للجميع.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هكذا يتم تنظيم احتفالات بهذا اليوم لتحقيق مجموعة من الأهداف. منها تغيير النظرة العالمية إلى موظفي الجهاز التمريضي وتأكيد أهمية حقوق الممرضات والمرأة وجميع العاملين في مؤسسات الرعاية الصحية، وذلك عبر إقامة الندوات والمؤتمرات والحفلات لمناقشة حقوق العاملين في قطاع التمريض، ومناقشة طرق حمايتهم من الأخطار التي تحدق بهم أثناء مزاولتهم عملهم، ومناقشة كيفية الاستثمار في العاملين في مجال الرعاية الصحية، والسعي إلى استشراف مستقبل التمريض لا سيما بعد القفزات التكنولوجية العملاقة، ودراسة مدى الحاجة إلى ممرضين جدد يتمتعون بالخبرة والنزاهة ويتزينون بالقيم المطلوبة للعناية بالإنسان المريض.
فلورنس نايتنجيل السيدة حاملة المصباح
ولدت فلورنس نايتنجيل في بلدة فلورنسا بإيطاليا عام 1820 وكانت من عائلة بريطانية غنية تؤمن بتعليم المرأة. ينظر إلى هذه المرأة على نطاق واسع بوصفها رائدة التمريض الحديث. فقد اهتمت بالنظافة وقواعد التطهير، وبتمريض الصحة العامة في المجتمع. تعد أول من وضع قواعد للتمريض الحديث وأسساً لتعليم التمريض، إذ أنشأت مستويات للخدمات التمريضية والخدمات الإدارية في المستشفيات. ولا ننس نصائحها في غسل اليدين التي ما زالت سارية حتى اليوم. اشتهرت الممرضة البريطانية هذه بنشاطها التمريضي اللافت خلال حرب القرم التي اندلعت بين روسيا من جهة وبريطانيا وبعض الدول الأخرى من جهة ثانية بين العامين 1854 و1856. لقبت بالساحرة. وأطلق عليها أساساً اسم "سيدة المصباح" أو "السيدة حاملة المصباح"، وذلك لأنها كانت تخرج في ظلام الليل إلى ميادين القتال، وهي تحمل مصباحاً بيدها، للبحث عن الجرحى والمصابين لإسعافهم.
لذلك يعد الاحتفال بيوم التمريض العالمي في ذكرى ميلادها أكبر تقدير لها على جهودها في تأسيس علم التمريض بشكله الحديث. يذكر أن نايتنجيل طالبت الممرض بأن يعمل على تهيئة البيئة المحيطة بالمريض لتكون بيئة مناسبة له حتى يستعيد صحته تدريجاً. وأكدت أن العوامل الخارجية المرتبطة بهذه البيئة تؤثر في حياة المريض وحاله الصحية. في 13/8/1910 انطفأت السيدة العظيمة هذه، ورحلت بسلام بعد حياة حافلة قضتها في رعاية المرضى وتعزيز الحياة وتقوية المؤسسات الصحية ووضع الأسس الإدارية والتمريضية اللازمة لها من أجل حياة أفضل.
منعطف جائحة كورونا
يمكن القول إن جائحة كورونا أعادت تسليط الأضواء بقوة على مهنة التمريض وأهميتها ودورها في حياة الإنسان بعدما تبين أن النظام الصحي حتى في دول متقدمة كإيطاليا يعاني قصوراً فادحاً، ومن اختلالات عميقة وكبيرة، ومن ضعف واضح كان يمكن أن يؤدي إلى كارثة كبيرة لولا المساعدة العاجلة التي قدمتها الدول الأوروبية لإيطاليا أثناء تفشي فيروس كورونا فيها. لذلك كانت جائحة كورونا بمنزلة منعطف في تاريخ البشرية عموماً ومهنة التمريض خصوصاً.
كذلك عززت جائحة كورونا ما بات يعرف بالتمريض النفسي، إذ ولد فيروس كورونا تداعيات نفسية خطرة وعميقة في حياة المصاب ومن يعيش معه. لذلك، إضافة إلى العناية التمريضية بجسد المريض، كان لا بد من الاهتمام والعناية النفسية بالمريض وأسرته على حد سواء. غني عن القول إن وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي كانت قد بالغت كثيراً في خطر جائحة كورونا إلى درجة زرعت الرعب في قلوب الناس، فبات الإنسان يخاف من أخيه الإنسان وينظر إليه لا بوصفه جحيماً فحسب، كما كان يقول سارتر، بل بوصفه قاتلاً يجر مجرد وجوده الموت للآخرين. إذاً، كان الناس قبل جائحة كورونا قد تناسوا أهمية التمريض ونظروا إليه بوصفه نشاطاً روتينياً عادياً لا يتمتع بأهمية استثنائية. لكن بعد انتشار العدوى، لا سيما في الدول المتقدمة، بأن الخلل الفاضح والقصور الكبير في الأجهزة التمريضية التي عانت دولها انتشار الفيروس. لذلك بدأت الدول المتقدمة والقادرة تجتذب إليها العاملين في مهنة التمريض من جميع دول العالم حتى تقوي نظامها الصحي وتشعر شعبها بنوع من الأمان فقدته أثناء انتشار الجائحة. لا ننس رواج التمريض الآلي الروبوتي في الدول التكنولوجية المتقدمة كالصين مثلاً. بذلك لا نعود نجد أنفسنا في مقابل ممرض أو ممرضة إنسان، بل في مقابل روبوت آلي يتحرك بين المرضى ليقوم بواجب العناية بهم.
ومن ثم، عاشت المجتمعات والشعوب التي انتشر فيها الوباء بشدة ظروفاً مأسوية صعبة، فاضطر الجهاز التمريضي إلى النزول بكليته إلى الميدان ليعمل ليلاً ونهاراً وليكون خط الدفاع الأول عن المجتمع وسلامته وأمنه الصحي. فقدم تضحيات رائعة وسطر بطولات استثنائية، إذ خسر مئات الأبطال من كوادره لا سيما في بداية جائحة كورونا عندما كان الفيروس شرساً وقاتلاً وخطراً جداً. وعليه، خطت الممرضات صفحات بطولية رائعة من التفاني في العمل والتضحية غير المشروطة وبذل الجهد الأقصى المحفوف بأخطار أكيدة من أجل إنقاذ حياة المصابين والحفاظ على المجتمع بصورة عامة. وأثبت الجهاز التمريضي أن البطولة لا تكمن في القوة البدنية فحسب، بل في القلب أساساً. ولولا جهود الممرضات وتفانيهن في عملهن وتضحياتهن على مدى الساعة على رغم الخطر الشديد وإمكان الإصابة القوي بالعدوى القاتلة المميتة، لزالت مجتمعات بأكملها من الوجود أو في الأقل لساءت الأمور فيها بصورة لا يمكن تخيلها.
بسبب انتشار الفيروس وكثرة عدد المصابين وعجز المستشفيات عن استيعاب جميع المصابين، تعززت وانتشرت فكرة التمريض المنزلي على نطاق عالمي، إذ لم يعد يجد المصابون أسرة لهم في دور الرعاية الصحية، فكان التمريض المنزلي الحل الأمثل لهذه المشكلة. هكذا تمكن كبار السن والعاجزون من الحصول على العناية الطبية والمتابعة اللازمة في منازلهم مع عائلاتهم وأسرهم. وعليه، صار المنزل بمنزلة البيئة الطبية الجديدة التي يجب أن تبقى نظيفة وغير ملوثة في هوائها ومائها وأثاثها وأماكنها.
حقوق الممرضات وواجباتهن
توفر الممرضات الرعاية الصحية للمرضى والمصابين والتوعية صحياً ونفسياً حتى في أصعب الظروف. لذلك لا بد من تقديرهن والاعتراف بعظمة التضحيات والجهود التي يبذلنها يومياً من أجل ضمان صحة المرضى وراحتهم. كذلك لا بد من مساعدتهن على تجاوز الضغط النفسي وتأمين الإمكانات التكنولوجية وغير التكنولوجية اللازمة لممارسة نشاط التمريض وتذليل التحديات اللوجيستية التي يعانينها والنقص في الكوادر المدربة والخبيرة. يندرج في هذا السياق أهمية التدريب الذي يخضعن له من أجل تطوير قدراتهن وتقوية مهاراتهن بصورة دائمة وفرز العناصر القيادية منهن حتى يكن على مستوى التحديات في جميع الظروف. باختصار، لا بد من تسليط الأضواء على حقوق أصحاب مهنة "التمريض" وواجباتهم، ومن معاملتهم بصورة فضلى.
السلبيات والإيجابيات في الجهاز التمريضي
أدت هيمنة الرأسمالية المعاصرة وسيطرتها على الكوكب إلى تداعيات سلبية قد تؤثر بشكل خطر في الجهاز التمريضي. من هذه التداعيات السلبية نقص التمويل وقلة الموارد وضعف الخبرة في التعامل مع التطورات والقفزات التكنولوجية لا سيما في ميدان الذكاء الاصطناعي، مما قد يتسبب بنقص حاد في المعدات الطبية ونوعيتها وجودتها. ومنها أيضاً الضغط النفسي والجسدي على الممرضات وتحميلهن ما لا يطاق من أجل تحقيق مزيد من الأرباح حتى لو كان ذلك على حساب راحتهن. ومنها سيادة التجارة بالرعاية الصحية، فتفقد مهنة التمريض عندئذ ما يميزها من سمو ورفعة وإنسانية. ومنها عدم التركيز على جودة الخدمة التمريضية وعدم تحقيق المساواة في حصول المواطنين بشكل متساو على الرعاية الصحية. أما بالنسبة إلى الإيجابيات فقد سلطت جائحة كورونا الضوء من جديد على أهمية مهنة التمريض ودورها في الحفاظ على المجتمع ودفعت الجميع إلى ابتكار أساليب خاصة من أجل العناية بالمصابين كالتمريض الآلي في بعض الدول وتعزيز التواصل والتعاون بين مختلف الفئات العاملة في الرعاية الصحية والنفسية. باختصار، لقد كان لجائحة كوفيد بصورة عامة تأثيرات كبيرة في مهنة التمريض وأداء الجهاز التمريضي والقطاع الصحي بصورة عامة.
العناية بالإنسان في كلية كيانه
لا ننس في هذا السياق ما لقيه الفيلسوف الألماني نيتشه من عناية نفسية وصحية وحياتية من معشوقته المحللة النفسية سالومه التي أحبها وأراد الزواج منها، ومع ذلك ساعدته كممرضة خلال فترة مرضه وعجزه عن الكتابة بسبب اضطراباته النفسية والصحية الخطرة. وكانت مساعدة مخلصة له في جوانب مختلفة من حياته بما في ذلك تنظيم الأمور المنزلية والعناية به وبمراسلاته على رغم رفضها الزواج منه.
وعليه، لا يمكن، في النشاط الطبي عموماً والنشاط التمريضي خصوصاً، إغفال دور الفلسفة التي سعت منذ سقراط في الأقل على أن يفهم الإنسان نفسه بنفسه، وركزت في جانب كبير من تساؤلاتها على دور الإنسان وأهميته في العالم والقيم التي يتمسك بها والأخلاق التي يدعو إليها والمعنى الذي يعطيه حياته. من هنا علاقة الفلسفة بالتمريض بوصفه نشاطاً إنسانياً بامتياز يحمل في طياته قيماً إنسانية رفيعة كانت على الدوام محوراً لأسئلة الفلسفة وتساؤلاتها، بل يمكن القول إن النشاط التمريضي لا يكون كذلك بحصر المعنى إلا عندما يكون نشاطاً إنسانياً يتعامل مع الإنسان كغاية في ذاتها ويصر على ألا يدخل في حساباته الربح والخسارة إلا بصورة ثانوية. وعليه، لا معنى لمهنة التمريض إن لم تتمسك بالقيم الإنسانية التي جعلت الإنسان كائناً يتمتع بكرامة لا تنفصم عنه في كل الظروف. لذلك لا يمكن فصل مهنة التمريض عن المسؤولية الأخلاقية التي يجب أن يتحلى بها العاملون في هذا القطاع. كما لا يمكن فصله عن البحث عن المعنى الذي يبحث عنه الإنسان المعالج والمصاب على حد سواء. ولا بد من النضال من أجل تأمين العدالة الصحية للجميع من دون استثناء. ولا بد من حث العاملين الصحيين على معارضة السلطة ليتحولوا إلى مثقفين نوعيين بحسب فوكو عندما يجدون أن هناك تجاوزات خطرة يمكن أن تؤدي إلى خراب المجتمع وفساده.